
الاستراتيجية البريطانية للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية
تسعى المملكة المتحدة إلى استعادة مكانتها في النظام العالمي كقوى فاعلة ومؤثرة في التفاعلات الدولية والإقليمية بما يتوافق مع مصالحها الوطنية ويتناسب مع قيمها التي ترتكز على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، والمساواة، وسيادة القانون التي سترجمها بفاعلية في إطار توجهاتها الخارجية لتكون قوى عالمية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في 31 يناير 2021.
الأمر الذي تجلى في إعلان رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” في 16 مارس 2021، أمام مجلس العموم عن استراتيجية المملكة خلال السنوات المقبلة التي تحمل عنوان “بريطانيا العالمية في عصر تنافسي: المراجعة المتكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية“، وقد تم إطلاقها بعد أكثر من عام من التشاور الحكومي، والتعاون مع المفكرين والمنظمات لتحديد رؤية المملكة المتحدة لـ”بريطانيا العالمية” التي تتمثل أبرزها في:
- ضرورة الانفتاح على العام من خلال تبني دور أكثر فاعلية في النظام العالمي بما يحقق لها الازدهار.
- تجديد التزامها كقوة للخير في العالم، من خلال تقديم الدعم والمساندة للمجتمعات، واستخدام لآلية العقوبات “على غرار ماغنيتسكي” لمحاسبة المتورطين انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان.
- توطيد العلاقات مع الحلفاء والشركاء في جميع أنحاء العالم، مع فتح شراكات جديدة تعزز مصالحها.
- انتهاج دور رائد في تسوية النزعات والحد من الفقر بجانب الأمن والتنمية والدبلوماسية لكي تقدم نموذجًا متكامل لمواجهة التحديات العالمية.
- ستصبح المملكة قوة عظمى في مجال “القوة الناعمة”، علاوة على إنها ستكون فاعلًا عالميًا للتجارة الحرة لكونها دولة تجارية بحرية.
- ضرورة التسوية متعددة الأطراف لمواجهة التحديات مثل تغير المناخ.
- التعاون مع الدول ذات التوجهات المشابه التي تلتزم بحماية الحقوق والحريات وفقًا للمعايير العالمية.
- ستوظف المملكة مقدراتها العسكرية والنووية داخليًا وخارجيًا، فضلاً عن تطوير قدراتها الفضائية لتكون واحدة من “القوى الإلكترونية الديمقراطية الرائدة في العالم”.
أما فيما يتعلق بالأهداف الخاصة بالمملكة فقد وضعت المراجعة المتكاملة مجموعة من الأهداف العامة فيما يتعلق بالأمن القومي، والشئون الخارجية حتى عام 2025 لتكون بوصلة جديدة توجه صانع القرار البريطاني خلال السنوات القادمة، تتوافق مع طموح المملكة ومقدراتها وتتجسد على النحو التالي:
- الحفاظ على تميزها الاستراتيجي؛ عبر التأكيد على ترسيخ مكانة المملكة المتحدة كقوى عالمية في مجال الابتكار في العلوم والتكنولوجيا، ودمجهم كعناصر أساسية في الأمن القومي والسياسة الدولية، للحصول على فوائد ومزايا على كافة الأصعدة.
- المرونة في الداخل والخارج؛ حيث القدرة على الاستجابة الاستباقية من خلال تحسين مستويات التوقع، والوقاية، والاستعداد للتصدي للمخاطر بدأً من الطقس السيء وحتى الهجمات السيبرانية.
- تقوية الأمن والدفاع: من خلال الشراكة مع الحلفاء لزيادة المنافع المُكتسبة والناتجة عن الانفتاح، وحماية المواطنين من التهديدات المُتنامية التي تتضمن الدولة، والإرهاب، والتطرف، والجريمة المنظمة، وانتشار الأسلحة، من خلال تحديث وتطوير القوات المسلحة وهو ما تمثل في زيادة الانفاق الدفاعي بما يقرب من 24 مليار جنيه إسترليني، وتجديد الردع النووي.
- تشكيل النظام العالمي؛ عبر التعاون مع الشركاء لتعزيز عمل المؤسسات والقوانين والأعراف الدولية التي تساهم في تمكين المجتمعات والاقتصاديات من الازدهار مثل المملكة، وهو ما يساعد في إدراك المواطنين البريطانيين والآخرين المنافع التي تعود عليهم من الديمقراطية والتجارة الحرة والتعاون الدولي، والفضاء السيبراني والفضاء في المستقبل. وذلك من خلال الانتقال من الدفاع عن النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة إلى بلورة نظام ما بعد “كوفيد”.
التوجهات الخارجية للمملكة المتحدة بين الاستمرارية والتغيير
وفقًا للمراجعة المُتكاملة التي تعد أكثر شمولًا منذ الحرب الباردة، اعتمدت المملكة على نهج ثابت يجمع ما بين الاستمرارية في بعض السياسات واستحداث البعض الأخر، في سياساتها الخارجية التي ستتبناها على مستوى العالم وتتمثل كالتالي:
- مركب الأمن الإقليمي الأوروبي: أوضحت المملكة أنها ستستمر في دعم وتعزيز الاستثمار في الأمن الأوروبي؛ حيث أن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيسمح لها تبني سياسات اقتصادية وسياسة مختلفة ولكنها ستعمل معه بما يتوافق مع مصالحهم فيما يتعلق بالملفات محل الاهتمام المشترك مثل الحفاظ على أمن واستقرار الإقليم الأوروبي، والتصدي للتغيرات المناخية والتنوع البيولوجي.
- الولايات المتحدة والصين: ستظل واشنطن أهم شريك وحليف استراتيجي للمملكة نتيجة العديد من العوامل المشتركة التي تجمع الجانبين، وعليه سيواصل البلدين تعميق التعاون بينهم على كافة الأصعدة. أما الصين ستستثمر المملكة في قدرات مواجهة الصين المعززة، والتي من خلالها ستطور فهمًا أفضل للصين وشعبها، مع تحسين قدرتها على الاستجابة للتحديات التي يواجهها أمنها وازدهارها وقيمها وتلك الخاصة بحلفائها وشركائها. بجانب مواصلة العلاقات التجارية والاستثمارية الإيجابية مع بكين، والتعاون معها في مواجهة التحديات العابرة للحدود مثل تغير المناخ لضمان حماية الأمن القومي والقيم البريطانية.
- التعاون الأمني في إطار حلف شمال الأطلسي: أوضحت المراجعة أن المملكة ستظل عضو رائد في الناتو، من خلال العمل مع الحلفاء لردع التهديدات النووية والتقليدية، وخاصة الصادرة عن روسيا، مع الاستمرار في تجاوز نسبة الإنفاق الدفاع التي تبلغ 2٪ من إجمالي الناتج المحلي. والإعلان عن قدراتها النووية والهجومية على الإنترنت لدفاع الحلفاء بموجب التزام بالمادة 5.
- روسيا؛ ستعمل المملكة على ردع ومواجهة التهديدات الصادرة عنها حتى تتحسن العلاقات معها وذلك من خلال “الناتو”، مع ضمان استجابة غربية مرتكزة على الجمع بين الأصول العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية لدعم الأمن الجماعي، كما ستتمسك بالمعايير الدولية لمحاسبة روسيا على سلوكياتها، مع دعم دول الجوار الأوروبي الشرقي للتصدي للتهديدات الموجهة إليهم، وهو ما سيتضمن أوكرانيا ومواصلة بناء مقدراتها وقواتها المسلحة.
- منطقة المحيطين الهندي والهادئ: ترغب المملكة في التوجه بعمق نحو منطقة المحطين الهندي والهادي لترسيخ مكانتها وتأسيس حضور أكبر ومستدام من أي قوى أوروبية أخرى، علاوة على توطيد العلاقات على الصعيد الدبلوماسي والتجاري، بما يحقق الاستقرار والرخاء في المنطقة، وذلك ادراكًا لأهمية التفاعلات الدولية من قبل بعض القوى مثل الصين واليابان والهند بما في ذلك كوريا الجنوبية، وماليزيا واندونيسيا وسنغافورة وتايلاند والفلبين، بجانب التكتلات الإقليمية في هذه المنطقة مثل الآسيان، فضلاً عن الرغبة في الانضمام إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي.
- أفريقيا: ستعمل المملكة على تعزيز شراكتها مع الدول الأفريقية، في عدد من القضايا التي تتجلى في التغير المناخي، والتجارة الحرة، والأمن الصحي العالمي، ومنع النزاعات، وتعزيز الحوكمة وحقوق الإنسان، كما ستبني على نجاح قمة الاستثمار الأفريقية لعام 2020، لتعميق التعاون التجاري والاقتصادي، وخاصة مع جنوب إفريقيا ونيجيريا –(هما قوتان إقليميتان لهما امتداد عالمي عبر المنتديات الدولية، تتشارك المملكة معهم في القيم والمصالح التجارية والتنموية: حيث يمثلان معًا 46٪ من الناتج المحلي الإجمالي في إفريقيا جنوب الصحراء و60٪ من تجارتها مع المملكة المتحدة)- وكينيا وإثيوبيا؛ إذ تشترك المملكة معهم في المخاوف الأمنية في منطقة القرن الأفريقي، وستثمر معهم في استقرار الإقليمي والتعاون بشكل أوثق على الصعيد الدفاعي إذا سمح الوضع هناك، كما ستواصل جهودها في حل النزاعات وتحقيق الاستقرار في الصومال والسودان، والحفاظ على حرية الملاحة في خليج عدن والأمن البحري في المحيط الهندي.
- الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: تتمتع المملكة بعلاقات ثنائية تاريخية قوية مع دول المنطقة مثل الأردن وسلطنة عمان التي تعد أمر حيوي لها ولأمنها، كما ستسعى لتعميق الروابط التاريخية لتصبح أحد الشركاء التجاريين والاستثماريين في المنطقة وبناء الدعم للأهداف المناخية، علاوة على إنها ستقدم عرضًا أمنيًا أكثر تكاملاً لحماية المصالح، ومعالجة الدوافع الأولية للإرهاب، والعمل مع الشركاء لتعزيز وتحديث قدراتهم الأمنية لضمان الاستقرار الدائم في المنطقة، ومواصلة المساهمة في التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” في العراق وسوريا. وستبني على شراكاتها الأمنية الوثيقة، بما في ذلك مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية، لحماية مصالحهم في المنطقة بشكل أفضل. كما إنها ستعزز جهودها من أجل المرونة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، بما في ذلك في البلدان الرئيسية مثل مصر. مع زيادة التجارة الاستثمار مع الشركاء الخليجيين، والتعاون في مجالات مثل العلوم والتكنولوجيا الخضراء مع السعودية والإمارات وإسرائيل، بالتوازي مع دعم النمو المستدام وتغير المناخ مع العراق والمغرب. بجانب منع إيران من تطوير سلاح نووي من خلال مواصلة الجهود مع الشركاء، والتصدي لنشاطها المزعزع في المنطقة، والعمل على إيجاد تسوية سياسية مستدامة للأزمة اليمنية والليبية والسورية.
ملاحظات ختامية
- يسعى رئيس الوزراء “بوريس جونسون” إلى وضع تصور لمكانة المملكة المتحدة في النظام العالمي، من خلال توظيف المقدرات الداخلية والتحولات الدولية والإقليمية المتلاحقة في النظام العالمي لخدمة أهداف المملكة بما يتوافق مع قيميها ومصالحها الوطنية.
- الاعتماد على الابتكار في مجال العلوم والتكنولوجيا لتكون الميزة الاستراتيجية للمملكة المتحدة في المستقبل، من خلال دمجها في كافة الاقطاعات للاستفادة من فوائد في تفوق المملكة عالميًا، ويجعلها قوة إلكترونية ديمقراطية.
- لا يعني خروج المملكة المتحدة إنها لن تتأثر بالجغرافيا الأوروبية والتحديات التي تواجه الإقليم، لذا فمازالت الدول الأوروبية حلفاء أساسيين للمملكة، سيتم التعاون معهم في الملفات ذات الاهتمام المشترك التي تخدم المصالح والأهداف البريطانية في المقام الأول.
- الرغبة في لعب دور فاعل في الأزمات الدولية لخلق موطئ قدم راسخ ومستدام، يساهم في تعزيز صورتها العالمية بعيدًا عن مظلة الاتحاد الأوروبي، ولكن في الإطار متعدد الأطراف.
- بالرغم من معارضة المملكة لسياسات الصين وروسيا، ورغبتها في محاسباتهم إلا إنها ترغب التعاون الإيجابي مع الصين من خلال بناء شراكات تجارية واستثمارية إيجابية.
- تعد المراجعة المتكاملة رسالة قوية موجهة لباقي دول العالم، لما ستكون عليه المملكة في السنوات القادمة، ومع إعلانها انتهاج سياسة خارجية أكثر توازنًا، ترتكز على العمل مع الشركاء والحلفاء علاوة على خلق وتعزيز شراكات جديدة عبر توجهها نحو منطقة المحيطين الهندي والهادي للاستفادة من تفاعلات المنطقة وبناء شراكات تجارية واستثمارية معهم أكثر استدامة.
- توضح التوجهات الخارجية للمملكة سعيها في عدم الانزلاق في بؤر الصراعات، ورغبتها في تبني نهجًا أكثر سلمية يستند على الحوار الدبلوماسي لتسوية الأزمات، لإدراكها أهمية التواجد بدون تحمل أعباء التدخل في هذه الصراعات، فضلاً عن سعيها لزيادة تأثيرها الخارجي من خلال قوتها الناعمة التي تتمثل في قيمها وهويتها.
- سلطت المراجعة الضوء على أهمية الحكومة البريطانية التي تتمثل بشكل كبير في معالجة التغيرات المناخية وانبعاثات الغازات الدفيئة مع كافة دول العالم، الأمر الذي يعكس رغبة المملكة في جعل هذا الملف محور يمكن توظيفه لتقريب وجهات النظر مع القوى الدولية الآخر والتي قد تختلف معها، لتكون بمثابة نافدة للتعاون المشترك بينهم.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



