العراق

ما بين مرجعية النجف وقم: كيف رأت إيران زيارة البابا فرانسيس إلى العراق؟

بدأ بابا الفاتيكان، البابا فرانسيس، زيارة تاريخية له إلى العراق يوم الجمعة الخامس من مارس الجاري وغادر الاثنين من الاسبوع التالى بعد لقائه مع المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في اليوم التالي لبدء الزيارة وجولة قام بها في عدد من المدن العراقية.

حملت الزيارة العديد من الدلالات التي تضمنتها ما جعل وسائل الإعلام في مختلف دول العالم تصفها بالتاريخية. فالزيارة قد جاءت بعد تخلص العراق من سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على بعض مناطقه منذ عام 2014، مثل الموصل التي تم الإعلان عن تحريرها من التنظيم الإرهابي في 10 يوليو 2017 ثم إعلان العراق الانتصار على التنظيم في ديسمبر من العام نفسه.

كما جاءت الزيارة كأول رحلة خارجية لبابا الفاتيكان منذ انتشار فيروس كورونا أوائل العام الماضي، لتؤكد على أهميتها وإصرار البابا فرانسيس على القيام بها. وأكسب كلُ ذلك رحلةَ البابا إلى العراق أهمية خاصة، علاوة على أن تقارير قد قالت إن الزيارة كان معداً لها مسبقاً إلا أنه تم تأجيلها لأسباب أمنية.

ومن بين الرسائل التي حملتها الزيارة طمأنة المسيحيين في العراق الذين يخشون من عنف الجماعات الإرهابية من أمثال “داعش” و”القاعدة” في العراق. فقد تناقصت أعداد المسيحيين في العراق خلال السنوات الماضية جرّاء عددٍ من العوامل كان من أبرزها انتشار هذه الجماعات الإرهابية في العراق ما اضطر المسيحيين للهجرة إلى الخارج.

وتمنح الزيارة مسيحيي العراق فرصة أكبر للمشاركة بشكل أوسع في الحياة السياسية العراقية، والعودة كذلك إلى البلد نفسه، وهو ما دعا إليه الرئيس العراقي الحالي، برهم صالح، في أكتوبر من العام الماضي.

ومن جانب آخر، حملت زيارة البابا، 84 عاماً، للعراق دعوة عالمية لتعزيز السلام والأمن في هذا البلد الذي لا يزال يشهد توتراتٍ أمنية وانتشاراً للعنف. وقد دعا البابا فرانسيس بالفعل، بعد وصوله إلى العاصمة بغداد يوم 5 مارس، المجتمع الدولي لأداء دور حاسم في تعزيز السلام في العراق والشرق الأوسط. ونتيجة لترحيب العراقيين بدعوة البابا، أطلقوا على وسائل التواصل الاجتماعي “هاشتاج” تحت اسم (#لتصمت_الأسلحة)، في إشارة إلى ضرورة سيادة الأمن والأمان.

وتمثل الزيارة كذلك انتصاراً لحكومة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، وتعزز مكانتها على المستوى الدولي، وهو ما قد يمثل إحدى الدوافع لتحقيق مزيد من الانفصال السياسي بين طهران وبغداد مستقبلاً.

وإلى الشرق من العراق، راقبت إيران وتابعت تطورات زيارة البابا ولكن طبيعة علاقات طهران مع بغداد ودورها الإقليمي ألقيا بظلالهما على نظرة إيران تجاه الزيارة.

كيف تابعت وسائل الإعلام الإيرانية زيارة البابا؟

على الرغم من كونها تاريخية، إلا أن تغطية وسائل الإعلام الإيرانية لزيارة البابا إلى العراق كانت مختلفة عما توجهت إليه وسائل الإعلام في مختلف دول العالم. فوسائل الإعلام الإيرانية رأت الزيارة من منظور سياسي وكان هذا واضحاً على الصفحات الأولى للصحف الإيرانية الصادرة في اليوم التالي لبدء البابا الزيارة، أي السبت 6 مارس. وبدأت التغطية الإعلامية الإيرانية لزيارة البابا تزداد نسبياً بعد اللقاء الذي جمع البابا فرانسيس بالمرجع الشيعي علي السيستاني في النجف العراقية.

فقد تجاهلت، على سبيل المثال، صحيفة “فرهيختكان” الأصولية في عددها الصادر يوم السبت الماضي زيارة البابا إلى العراق ولم تتطرق إليها، بينما تناولت صحيفة “كيهان”، المقربة من المرشد علي خامنئي، الزيارة من زاوية أخرى حيث بعثت برسالة قالت فيها إن إيران هي التي قامت بحماية المسيحيين في العراق من التنظيمات الإرهابية مثل “داعش”.

وهذه الرسالة شغلت أيضاً افتتاحية صحيفة “وطن امروز” في عددها الصادر في اليوم نفسه.

(افتتاحية صحيفة “فرهيختكان” الأصولية الأحد 7 مارس 2021 تحت عنون: مشروع ربيع 1400)

ورويداً رويداً، بدأت الصحف الإيرانية في تسليط المزيد من الضوء الإعلامي على الزيارة بعد اللقاء الذي جمع البابا مع السيستاني يوم السبت 6 مارس، إلا أنها توجهت إليها من منظور إيراني سياسي أيضاً.

ولم تُخف بعض الصحف الإيرانية عدم رغبتها في الزيارة، فعلى سبيل المثال، هاجمت صحيفة “فرهيختكان” الإيرانية في عددها الصادر يوم الأحد الماضي 7 مارس زيارة البابا وقالت إن من بين “أهداف الغرب من زيارة البابا إلى العراق” يجيء “رفع المكانة الداخلية، الإقليمية، والدولية للكاظمي”،(*) حيث قالت إن هذه الزيارة تدعم مصطفى الكاظمي كرئيس للوزراء أمام المجتمع الدولي، وبالطبع هو أمر لا ترغب فيه طهران؛ لأنه يقود إلى الحد من نفوذها داخل العراق.

وبشكل عام، برغم كونها تاريخية إلا أن التوجه السياسي تغلّب على تغطية وسائل الإعلام الإيرانية لزيارة البابا فرانسيس إلى العراق. وبدت المعارضة الإيرانية غير المعلنة للزيارة على بعض وسائل الإعلام في طهران.

ويدعو هذا كله إلى التساؤل بشأن أسباب توجه وسائل الإعلام الإيراني لتناول زيارة البابا بالشكل الذي سبق إيضاحه: 

مرجعية النجف أم قم؟: زيارة البابا فرانسيس ونفوذ النظام الإيراني بين الشيعة

بدأ الصراع ما بين علي خامنئي وعلي السيستاني حول النفوذ بين الشيعة منذ أن أعلنت جمعية مدرسي حوزة قم العلمية مرجعية الأول للشيعة الاثنا عشرية الأصولية عام 1994، أي بعد توليه منصبه كمرشد أعلى بحوالي 5 سنوات. ومع سقوط الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عام 2003، اشتد الصراع بينهما.

ومثلت وفاة المراجع الشيعية البارزة التي كانت تتمتع بالنفوذ الديني أمثال ابو القاسم الخوئي في النجف العراقية عام 1992، ومحمد رضا جلبيجاني بإيران في 1993، ومحمد حسين فضل الله في بيروت عام 2010، فرصة أمام طهران لتعزيز نفوذها وإحكام سيطرتها الدينية والسياسية على الشيعة في العالم. ولم يتبق أمام مرجعية قم لتحقيق هذا الهدف، خاصة المؤيدين منها لنظرية ولاية الفقيه، من أمثال هذه المراجع سوى آية الله علي السيستاني الذي كانت ترتب إيران على ما يبدو لتنصيب بديل موالٍ لها مكانه حال وفاته، ومن المرجح أن اختيارها كان سيقع على “محمود الهاشمي الشهرودي” الذي توفي عام في ديسمبر 2018.  

 وعلى أية حال، تتمركز نقاط الخلاف الرئيسية بين الطرفين في معارضة آية الله علي السيستاني، 91 عاماً، لنظرية ولاية الفقيه التي يقوم عليها نظام الحكم في إيران حالياً، حيث ينتمي المرجع الشيعي العراقي إلى مدرسة زعيم حوزة النجف الأشرف السابق أبو القاسم الخوئي الذي كان من أشد المعارضين للنظرية، إذ رفض الأساس الديني للنظرية وإطلاق يد الفقيه في الأمور العامة، كما أنه يرفض أي مشروعية لحكومة دينية أو حتى وجود دور مباشر لرجال الدين في الجوانب التنفيذية والإدارية.

ومن ناحية أخرى، أكد السيستاني أكثر من مرة على ضرورة استقلال العراق ورفض التدخل الإيراني في شؤونه، وهو ما أزعج إيران كثيراً؛ خاصة وأن السيستاني يتمتع بشعبية كبيرة داخل العراق ولدى شيعة كثيرين آخرين حول العالم. وقد ظهرت على السطح تداعيات هذا الخلاف أكثر من مرة من بينها الانتقاد الشديد الذي وجهه رئيس مجلس الخبراء الحالي، أحمد جنتي، في إحدى خطب الجمعة في العاصمة طهران عام 1994 للسيستاني متهماً إياه بالعمالة للخارج.

وكان ” حسين شريعتمداري” رئيس تحرير صحيفة “كيهان” الأصولية المقربة من المرشد الإيراني علي خامنئي قد وجّه هو الآخر نقداً لاذعاً إلى السيستاني في سبتمبر 2020 بصحيفته، وذلك حينما طلب السيستاني إشراف الأمم المتحدة على الانتخابات العراقية.

وربما كان عدم لقاء السيستاني برئيس القضاء الإيراني، إبراهيم رئيسي، حين زار العراق الشهر الماضي أحد دلائل هذا الخلاف.

وبشكل عام، لا يزال الصراع بين مرجعية قم الإيرانية، ممثلة في خامنئي، ومرجعية النجف العراقية، ممثلة في السيستاني، قائمة ولا يحمل هذا الصراع اختلاف وجهات النظر فقط حول نظرية ولاية الفقيه التي يقوم عليها نظام الحكم في طهران، ولكنه يتطرق إلى التدخل الإيراني ذاته في العراق. وتخشى طهران من زيادة شعبية السيستاني بين الشيعة؛ لأنها تعني على الناحية الأخرى ضعف مكانة خامنئي الدينية والسياسية كذلك، وإن كانت لا تتمتع بالأساس بنفس نفوذ السيستاني في الوقت الحالي لدى الشيعة، بل إن خامنئي نفسه لا يزال هناك خلاف على وصفه بالمرجعية داخل إيران نفسها.  

وعليه، فبالنظر إلى طبيعة التغطية الإعلامية الإيرانية لزيارة البابا إلى العراق، والرسائل التي نشرتها الصحف الأصولية المقربة من مراكز صنع القرار في إيران وأخذاً في الحسبان التنافس الخفي بين النجف وقم، يمكننا استنتاج أن طهران انتابها القلق بشأن مستقبل نفوذها السياسي والديني في العراق بالتزامن مع زيارة البابا فرانسيس له، كما يمكن القول إنها فسرت اللقاء الذي جمع البابا فرانسيس بالمرجع الشيعي علي السيستاني بأنه يعزز من مكانة الأخير، المقيم في النجف، عالمياً كممثل للشيعة، وذلك في الوقت الذي لا ترتبط فيه إيران بعلاقات جيدة بالفاتيكان عموماً، ما يعني بالنسبة لطهران تعزيز مركزية النجف بدلاً من قم، وهو ما يستطيع أن يُفقد النظامَ الإيرانيَّ مستقبلاً أحد أهم عوامل نفوذه ليس في العراق وحده بل والمنطقة.

+ posts

باحث بالمرصد المصري

علي عاطف

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى