
“ما بين التسييس والأنسنة”: المساعدات الأمريكية وسدّ النهضة
بعدما انخرطت الولايات المتحدة، العام الماضي، في مفاوضات سدّ النهضة، وفقًا لمبادرة الرئيس السابق” دونالد ترامب” في ضوء تدويل الأزمة ومطالبة مصر المجتمع الدولي بلعب دور إيجابي في أزمة من شأنها تهديد الأمن والسلم الإقليميين، بحوض النيل، على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر 2019.
وبعد أن شهدت المفاوضات جولة جديدة، برعاية الولايات المتحدة والبنك الدوليّ، عادت إلى تعثرها السابق، بعدما تغيّب الفريق الإثيوبي عن حضور الجولة الأخيرة، التي كان مقررًا حينها التوقيع على “وثيقة واشنطن” في فبراير 2020. خيّب هذا الموقف الآمال التي عقدت على إشراك الولايات المتحدة في المفاوضات المتعثرة بين أطراف القضية الثلاثة، وأثار التساؤلات بشأن الموقف الأمريكي من مراوغة الطرف الإثيوبي، خاصة في ظلّ رئاسة ” ترامب” الذي عُرف بقراراته الثورية، والمتحررة من قيود الخطّ الرئيسي لثوابت السياسية الخارجية الأمريكية.
وبالفعل، وقّعت إدارة الرئيس الأمريكي، ترامب، عقوبات مالية على الطرف الإثيوبي، إذ تمّ تعليق ما قدره 272 مليون دولار من إجمالي قيمة المساعدات الأمريكية الموجهة للجانب الإثيوبي، في سبتمبر 2020. فوفقًا للخارجية الأمريكية حينها، جاء القرار بشأن وقف المساعدات لحليف كإثيوبيا، مدفوعًا بالقلق بشأن من قرارها الأحادي ببدء ملء السد قبل التوصل.
وارتبط تعليق المساعدات بأمن المنطقة أو الحدود والمنافسة السياسية وبناء التوافق. بينما تمّ استثناء المساعدات المقدمة لإثيوبيا والمتعلقة بالاستجابة لكوفيد-19، والمساعدات الإنسانية المقدمة للمتضررين من الصراع والجفاف والنزوح وغيرها من التحديات.
لم يكن هذا الموقف، الذي قابله الطرف الإثيوبي بالتشكيك ووسمه بالمنحاز، كافيًا ليمثل ضغطًا على الجانب الإثيوبي، لتدخل المفاوضات مرحلة جديدة برعاية الاتحاد الإفريقي، بعدما لجأت مصر لمجلس الأمن الدولي.
ولعل ما يبرر عدم نجاعة تعليق المساعدات في تحقيق أيّ اختراق في ذلك الملف، هو الموقف الرئيسي للإدارة السابقة من المساعدات بشكل عام، وهو الأمر الذي عكسته استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، التي كشف عنها مستشار الأمن القومي الأسبق “جون بولتون” ديسمبر 2018، والتي ركزت على إعادة صياغة دور القيادة الأمريكية حول العالم. ولم تكن القارة الإفريقية استثناءً في تلك الاستراتيجية، فارتكزت سياسة ” ترامب” تجاه القارة على تعزيز الأولويات والمصالح الأمريكية، وإعادة تخصيص المساعدات بما يخدم توجهات وأهداف سياستها الخارجية.
فبحسب استراتيجية ” ترامب”، قدمت الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية ما يقرب من 8.7 مليار دولار في مجالات التنمية والمساعدات الإنسانية، في العام 2017، دون أن يحقق ذلك الأهداف المرجوة منها، أو ينعكس على تحسن الأوضاع في الدول المقدمة إليها تلك المساعدات.
ساهمت تلك الاستراتيجية في رفع حالة الشكوك بشأن جدية الإدارة الأمريكية في توقيع عقوبات رادعة على الطرف الإثيوبي، وأنها كانت مدفوعة بإعادة النظر في منطق المساعدات بشكل عام. بينما رأى البعض أنه حال فوز الرئيس ترامب بولاية ثانية، يمكنه أن يستمر في التحرك قدمًا، لإحداث اختراق وتسوية لهذا الملف.
ظلت حالة الترقب للوقف الأمريكي قائمة، مع إرجاء أيّ توقعات بشأنها إلى أن تتكشف نتائج الانتخابات الأمريكية المثيرة للجدل، ومعرفة توجهات الإدارة الجديدة. ومع مجيئ إدارة أمريكية ديمقراطية، بفوز الرئيس الديمقراطي جو بايدن، كان هناك تساؤلًا ينتظرها، بشأن موقفها من مسار مفاوضات سدّ النهضة، وبأي توجه ستنخرط، حال قررت بالفعل لعبّ هذا الدور، وإلى أيّ مدى يمكنها ممارسة الضغط على الجانب الإثيوبي، لإثنائه عن موقفه المتعنت.
موقف إدارة ” بايدن”
مع وصول الإدرة الجديدة، كان أمامها تحد بشأن إعادة بناء موقف أمريكي عالمي، فيما يتعلق بالدور الأمريكي حول القضايا الإنسانية، بعدما شهدت فترة الرئيس ترامب تراجعًا في هذا الدور، مع تبنيه نهجًا براجماتيًا في سياسته الخارجية، وإقباله على تخفيض حجم المساعدات المقدمة للدول النامية، وربط عوائد هذه المساعدات بمصالح السياسة الأمريكية، في ظلّ مبدأ ترامب “أمريكا أولًا”.
خلافًا لتلك السياسة، رأى الديمقراطيون ضرورة العودة للعب دور أمريكي رائد فيما يتعلق بقضايا التنمية الدولية والإنسانية، وهو الموقف الذي أوصى به الكثير من مراكز الفكر الأمريكية، المحسوبة على التيار الديمقراطي الإدارة الجديدة. وسرعان ما كشفت الإدارة الأمريكية الجديدة عن موقفها إزاء إثيوبيا بشكل عام، والموقف من سدّ النهضة بشكل خاص.
وفيما يتعلق بإثيوبيا، ارتكز موقفها على قضية المساعدات، فجاء تصريح الخارجية الأمريكية الشهر الماضي بعدم ربط المساعدات لإثيوبيا بسياستها بشأن النيل الازرق، مع ضرورة عدم تعليق المساعدات الإنسانية التي تتعلق بالصحة العالمية والأمن الغذائي، في ظلّ حقيقة مع يتعرض له الإثيوبييون جرّاء أزمة كورونا، والأزمات الغذائية، مع تفاقم أزمة الجراد الصحراوي، ناهيك عن الأوضاع الإنسانية المتفاقمة في إقليم التيجراي الذي يشهد ما أسمته الخارجية الأمريكية “تطهيرًا عرقيًا”.
وبينما التزمت الولايات المتحدة بالخط الثابت لها فيما يتعلق بالمساعدات الإنسابية، مثّلت أزمة إقليم التيجراي محددًا أساسيًا في تحديد سياساتها تجاه حكومة آبي أحمد. فأعلنت الخارجية الأمريكية، أنها لن تتراجع عن توقف المساعدات المتعلقة ببعض البرامج في قطاع الأمن، بعدما وصف وزير خارجيتها “أنتوني بلينكن” الأزمة في إقليم تيجراي بأنها “تطهير عرقيّ”، في ظل تأكيد التقارير الأممية على تواجد قوات إريترية وأمهرية في إقليم التيجراي.
وفي شهادته أمام الكونجرس؛ دعا وزير الخارجية الأمريكية الحكومة الإثيوبية إلى ضرورة توقف القوات الإريترية والأمهرية عن ممارسة أعمال التطهير العرقي في الإقليم، وضرورة أن تُستبدل بهم قوات أمنية لا تنتهك حقوق الإنسان؛ بعدما لقي آلاف الأشخاص حتفهم وأجبر مئات الآلاف على ترك منازلهم، فضلًا عن أن هناك نقصًا في الغذاء والماء والأدوية في المنطقة التي يزيد عدد سكانها عن 5 ملايين نسمة.
وفي اتصال هاتفي مع الأمين العام للأمم المتحدة، طالب بلينكن بأهمية إجراء تحقيق دولي في انتهاكات حقوق الإنسان المبلغ عنها في المنطقة، مع ضرورة تعزيز الجهود الإقليمية والدولية للمساعدة في حلّ الأزمة الإنسانية وإنهاء الفظائع واستعادة السلام في إثيوبيا.
ووفقًا لآخر تصريحات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أعلنت في الأول من مارس الجاري، عن نشر فريق الاستجابة للمساعدات في حالات الكوارث (DART) للاستجابة للاحتياجات الإنسانية المتزايدة الناجمة عن الصراع في منطقة تيجراي بإثيوبيا. ذلك بعد قرابة أربعة أشهر من القتال بين الجماعات المسلحة، مما أجبر مئات الآلاف على الفرار من ديارهم ويحتاج أكثر من أربعة ملايين شخص للمساعدة. وبينما تعمل الوكالة منذ اندلاع الصراع مع شركائها للتغلب على تحديات الوصول، لا زال نحو 80 من سكان تيجراي معزولين عن المساعدة.
وفي المجمل، حرصت الولايات المتحدة على تقديم المساعدات، بما يجعلها أكبر مانح إنساني في إثيوبيا؛ ففي السنة المالية 2020، قدمت الولايات المتحدة أكثر من 652 مليون دولار من المساعدات الإنسانية للاستجابة للاحتياجات الغذائية الحادة، والنزوح الناجم عن الصراع، والفيضانات، وغزو الجراد الصحراوي، ووباء كوفيد-19.
بينما انعكس موقفها من المفاوضات، في تصريح المتحدث الإقليمي لوزارة الخارجية الأمريكية، 19 فبراير الماضي، صامويل وربيرج، الذي أوضح أن الدول الثلاث عليهم حلّ أمورها بأنفسها، فيما أوضح أن أمريكا يمكنها أن تدرس كل ما تمّ التوصل إليه من خلال إدارة دونالد ترامب بشأن قضية سدّ النهضة، وأن الولايات المتحدة تتشاور مع الدول الثلاثة لفهم أبعاد المفاوضات، لتحديد الدور الذي يمكن أن تلعبه مستقبلًا.
فيما كشف المتحدث بإسم الخارجية الأمريكية “نيد برايس” عن موقف الإدارة الجديدة، القاضي بعدم ربط تعليق المساعدات المقدمة لإثيوبيا بالموقف الأمريكي بشأن سدّ النهضة، وأشار برايس إلى أن استئناف المساعدات سيكون مشروطًا بعوامل أخرى غير محددة، ولكن المساعدات الإنسانية ستكون مستثناة من ذلك.
مستقبل الدور
بعد أن أفشلت إثيوبيا المفاوضات برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي، بعدما أقدمت على الانسحاب غير المبرر في فبراير من عام 2020، بما دفع مصر للاتجاه لمجلس الأمن الدولي، الذي فوّض بدوره الاتحاد الإفريقي لرعاية مرحلة جديدة من التفاوض، التي شارك فيها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والبنك الدولي بصفة مراقبين.
وعلى الرغم من التوافق حول العديد من البنود، كانت أبرز البنود محل الخلاف بين الوفدين المصري والسوداني، يناير 2020، حول الجوانب الإجرائية، خاصة فيما يتعلق بتكليف فنيين معينيين من قبل مفوضية الاتحاد الإفريقي، وهو الموقف الذي تحفظ عليه الوفد المصري، باعتبار أن خبراء الاتحاد ليس لديهم خبرة في هذه القضايا.
وساهم استمرار التصعيد الإثيوبي على الجانب السوداني على الحدود من جهة وفيما يتعلق بالتصريحات المتعلقة بموعد الملء الثاني من جهة أخرى في تبني السودان موقفًا أكثر توافقًا مع الموقف المصري، خاصة مع كون السودان في خط المواجهة الأول، مع تأثر الزراعة والسدود السودانية.
على هذا، اقترح السودان في فبراير الماضي، إشراك أطراف دولية تساعد على التوصل لاتفاق نهائي، تضمن هذه الأطراف الالتزام بتنفيذ الاتفاق مستقبلًا. وارتكز هذا المقترح بالأساس على ترقية دور هؤلاء الشركاء من مجرد مراقبين إلى وسطاء فاعلين مخولين ببذل كافة الجهود الضامنة للتوصل لتسوية نهائية، وهو الموقف الذي أيده الجانب المصري، ويجد سنده في المادة العاشرة من إعلان المبادئ الموقع بين الاطراف الثلاثة 2015، وحددت هذه المادة آلية التسوية السلمية للمنازعات، على أن تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم عبر المشاورات أو التفاوض، وفقًا لمبدأ حسن النوايا، وحال عدم نجاحهم في التوصل لحل مرضي، من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة.
وعلى الرغم من تحفط الجانب الإثيوبي على مبدأ الوساطة، إلا أنه لا زالت الآمال معقودة على هذا المقترح في إحداث اختراق ذي شأن، حال أبدت إثيوبيا قدرًا من المرونة، وفي الوقت نفسه إبداء هؤلاء الشركاء قدرًا من الجديّة في تسوية الأزمة. خاصة وأن إثيوبيا قد رفضت سابقًا انخراط الولايات المتحدة، ثمّ عادت وشاركت في جولات واشنطن التي عرقلها الجانب الإثيوبي في اللحظة الأخيرة.
على هذا، يبقى التساؤل المطروح في ظل هذا المشهد المتشابك، ليس إلى أي مدى ستلتزم إثيوبيا بالانخراط في هذه الجولة من التفاوض، بل إلى أي مدى يعتزم الأطراف الدوليون إجبار الجانب الإثيوبي على الانضمام للمفاوضات من جهة، ومن ثم إبداء مرونة والالتزام باتفاق ملزم من جهة أخرى، وما هي الأدوات التي يمكن أن يستخدمها هؤلاء الشركاء.
فبنظرة خاطفة على ما تمّ التعرض إليه من مواقف الولايات المتحدة فيما يتعلق بأزمة السد، نجد أنها لم تلجأ سوى إلى “أداة المساعدات”، وفيما يتعلق بالمساعدات يجب التنوية إلى أنه حتى في ظلّ إدارة ترامب، لم يتم تعليق المساعدات المتعلقة بالأبعاد الإنسانية والأزمات الصحية والغذائية. وهو الأمر الذي أكدت عليه الآن إدارة بايدن التي تولي البعد الإنساني وجانب المساعدات قدرًا كبيرًا من الاهتمام.
بينما نجد المفارقة في مسألة المساعدات فيما يتعلق بالمواقف السياسية؛ فبينما نجد إدراة ترامب ربطت تعليق جزءًا من المساعدات بسبب التعنت الإثيوبي في المفاوضات، نجد تراجع إدارة بايدن عن هذا الموقف ودعوة الأطراف الثلاثة لحسم القضايا الخلافية فيما بينهم. وذهبت إدارة بايدن في موضوع تعليق المساعدات إلى موقف الحكومة الإثيوبية من قضايا الديمقراطية والحكم الرشيد والانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان.
وبذلك، فإن الموقف الحالي يعكس الخط الثابت للديمقراطيين فيما يتعلق بأداة المساعدات، ففي ظلّ إدارة ترامب، قدمت رئيسة اللجنة الفرعية المعنية بالشؤون الإفريقية، ورئيسة التجمع الأسود بالكونجرس “Black Caucus“، مشروع قانون متعلق بحالة الديمقراطية في إثيوبيا، استهدف هذا المشروع توقع عقوبات على إثيوبيا لدعم حقوق الإنسان ودفع التقدم الديمقراطية بها، مع استمرار التحديات السياسية والحقوقية في البلاد، بينما انطوى المشروع في الوقت نفسه على ضرورة تقديم الدعم لإثيوبيا في الجوانب الإنسانية والتنموية والمجتمع المدني والنمو الاقتصادي وخلافه، بوصف إثيوبيا دولة شريكة اقتصاديًا وحليفًا أمنيًا للولايات المتحدة. وفيما يتعلق بسد النهضة، أشار مشروع القانون إلى دعم المفاوضات التي يرعاها الاتحاد الإفريقي، لضمان التوصل إلى نتيجة عادلة.
وعليه، أصبح من غير المتوقع أن تتبنى الولايات المتحدة موقفًا ضاغطًا على الطرف الإثيوبي، فيما يتعلق بسدّ النهضة تحديدًا، في ظل الإدارة الحالية، عبر آلية المساعدات. فبينما نجد أن مسألة المساعدات الإنسانية مسألة ثابتة في السياسة الأمريكية، تتضح المفارقة بين الإدارتين في توظيف الجانب السياسي من المساعدات، ما بين إدارة ترامب التي ربطت تعليقها بمسألة السد، بينما عادت إدارة ترامب لتربطها بقضايا الديمقراطية والحكم الرشيد.
الأمر الذي يتطلب من أطراف القضية حشد الجهود لإقناع الأطراف الدولية، بانعكاس تداعيات تلك الأزمة على الأمن الإقليمي، لدول الإقليم مجتمعة، وليس فقط على دولتي المصبّ، وأيضًا على مصر والسودان العمل على انتزاع إجماع دوليّ حول ضرورة ألا تصل المفاوضات لمعادلة صفرية، مع انسداد الأفق، وتراجع احتمالية التوصل إلى توافق، كما بدا في تصريح الرئيس ترامب، بأنه لا يمكن لأحد أن يلوم مصر حال توجيهها ضربة للسدّ، مع الموقف الإثيوبي المتعنت.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية