
إلى أين تتجه السياسة الأمريكية تجاه روسيا بعد رحيل “ترامب”؟
خلال مشوار سياسي حافل قضاه “جو بايدن” قبل أن يتولى مهامه رئيسا للولايات المتحدة، لطالما أظهر استهجانًا للسياسات الروسية التي تحمل صبغة عدوانية من منظور سياسي أمريكي وغربي. لكن قبل أن نبحث في تأويلات تحركات “بايدن” خلال الفترة الوجيزة التي قضاها فيما بعد توليه للرئاسة، يجب أولا أن نفصل بين شخصين، أولهما هو “بايدن المرشح الرئاسي”، وثانيهما هو “بايدن الرئيس”.
بمعنى آخر، نقف لنطرح تساؤلا مُلحًا حول إلى أي مدى يُبدي “بايدن” استعداده للوفاء بما أطلقه من وعود خلال حملته الانتخابية؟ في ظل تعقد المشهد السياسي، وفي ظل كل التحديات التي تواجه علاقات بلاده مع عدد من الأطراف على رأسهم روسيا والصين؟!
منذ اليوم الأول لتوليه الرئاسة، واجهت إدارة “بايدن” أولى اختباراتها في مجال السياسة الخارجية. إذ أعلن بايدن نواياه تمديد اتفاقية الحد من الأسلحة النووية مع الروس، وهو الأمر الذي لطالما عارضه من قبل دونالد ترامب.
وكان هذا التمديد يأتي كجزء من وفائه بالتزاماته، لكن هل من الممكن أن تعد هذه الخطوة دلالة على استعداد بايدن الحقيقي أن يخوض حتى النهاية في سبيل وفائه بالتزاماته الأخرى تجاه روسيا، أو تحديدا حول ما يتعلق بتقويم أوضاع حقوق الإنسان في روسيا؟ أو ما يتصل بقضية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، التي تمثل العثرة الأكثر بروزا في مسار العلاقات بين البلدان خلال السنوات الأخيرة؟!
حتى الآن، من الواضح أن “بايدن” يرغب في الالتزام بطابع التعددية الأمريكية، بالشكل الذي سمح له بتمديد معاهدة الأسلحة النووية مع روسيا، لكن في الوقت نفسه، وفي سياقات أخرى، يكتفي بايدن بإبداء اعتراضه على ما وصلت إليه أوضاع حقوق الإنسان في روسيا في أعقاب اعتقال المعارض الروسي نافالني، بينما لم تتخذ إدارته أي إجراء فعلي في سبيل ردع روسيا عن الاستمرار في مسلكها. في حين اتخذت إدارة بايدن نفس الموقف تجاه الهجوم السيبراني الروسي الأخير على أجهزة حكومية أمريكية.
احتواء روسيا عبر مسارات سياسية مزدوجة
من الواضح أن بايدن يرغب في احتواء روسيا، لأسباب عدة يأتي من ضمنها رغبته الشديدة في مواجهة الصين وعدم إتاحة الفرصة أمام الصين لتكوين جبهات دولية مضادة لسياسات الغرب بالإضافة إلى أن روسيا والصين مجتمعتان تشكلان خطرا حقيقيا على الولايات المتحدة في مجالات الفضاء. إذ نعرف أن بايدن يرغب في احتواء روسيا، لكن الفارق يكمن في أن هذا الاحتواء لن يغير شيئا في جوهر ملامح السياسة الخارجية تجاه روسيا، وسيكتفي فقط بمجرد إضفاء اختلافات بسيطة على ملامح هذه السياسة.
إذ أن الإدارة الأمريكية الجديدة تواجه عملية موازنة صعبة، ترغب من خلالها في إعادة إحياء أساس العلاقات الأمنية بين البلدان منذ أيام حقبة الحرب الباردة من جهة، ومن جهة أخرى سوف تواصل العمل على تحميل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المسؤولية عن أفعاله المعادية لقيم الغرب.
وفي سبيل تحقيق ذلك، كان بايدن عين فريقًا رفيع المستوى، متمرسا ويحمل خبرات عميقة في الشأن الروسي: من ضمنهم؛ وزير خارجيته، أنتوني بلينكين، وفيكتوريا نولاند، نائبة وزير الخارجية للشؤون السياسية، وأندريا كيندال تيلور، المسؤول عن روسيا وآسيا الوسطى في مجلس الأمن القومي، وكاثلين هيكس، أول نائبة لرئيس البنتاجون، وشانتي كالاتيل، منسقة حقوق الإنسان والديموقراطية.
كما أن بايدن، عندما سأُل بشكل مباشر عن العقوبات المحتملة ضد روسيا بسبب محاولاتها تسميم نافالني، خلال أول لقاء صحفي له في منصب الرئيس. رد قائلاً “أجد أنه بإمكاننا العمل معًا لتحقيق المصلحة الذاتية لبلدينا من خلال تمديد معاهدة ستارت، كما أنه بالإمكان أن نوضح لروسيا أننا نشعر بالقلق بشأن سلوكياتهم، سواء بحق نافالني، أو سلوكياتهم المتعلقة بالهجوم السيبراني الأخير، أو بشأن التقارير التي تفيد أن الروس خصصوا مكافآت مالية لقتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان”، وأكد أنه لن يتردد في إثارة هذه القضايا معهم.
إذا بهذه الطريقة، استهل بايدن حديثه عن روسيا، بالشكل الذي يعطي لمحة لنظيره الروسي أن يتوقع بشكل استباقي محتوى أول اتصال بينهما. وهو ما حدث بالفعل في خلال المكالمة الهاتفية التي تلت ذلك بين الرئيسين، والتي وفقًا لما نقله مسؤولون أمريكيون، نفذ بايدن خلالها وعوده ومارس عددا من الضغوط على بوتين بشأن انتهاكات حقوق الإنسان. لكن وفقًا لهم، لا يعلق بايدن آمالا حقيقية على إمكانية أن يقوم بوتين بتغييرها للأفضل بالفعل.
فمن الواضح، أن بايدن لا يحذو حذو ترامب الذي كان ينتهج لغة ودية للرئيس الروسي وسياسات معادية لبلاده. ومن الواضح أيضًا أن بايدن لا ينوي اتباع نفس سياسات أوباما، نظرا لأن المشهد الدولي العام تغير بشكل كبير منذ ذلك الوقت ولا يجوز اتباع نفس السياسات. بالإضافة الى ذلك ينبغي أيضًا التخلي عن مظلة ما أطلقه بايدن من وعود خلال حملته الانتخابية، والانتظار حتى تظهر الادارة الجديدة اجراءاتها التنفيذية إزاء كافة محاور السياسة الخارجية.
هناك محور آخر، يمثل عقبة رئيسية بالنسبة لروسيا. وذلك هو الموقف الأمريكي إزاء خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، ومن المتوقع ألا يغير بايدن من سياسات بلاده المتعنته إزاء هذا الخط، إذ أن واشنطن ستواصل محاولة عرقلة بنائه ولكن في الوقت نفسه، ليس من المتوقع أن تتخذ الإدارة الأمريكية أي خطوات من شأنها إثارة النخب الألمانية نظرًا لما يمثله هذا المشروع من أولوية قصوى بالنسبة لألمانيا.
المواجهة الأمريكية الروسية في ساحة الفضاء ما بعد السوفيتي
ستمتد ساحة المواجهة بين واشنطن وموسكو، لتشمل الفضاء ما بعد السوفيتي، أو تحديدًا اوكرانيا كأولوية قصوى ثم يلي ذلك الأوضاع في بيلاروسيا. وبينما يتخذ وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، موقفًا صارمًا تجاه روسيا، ويستمر في تأكيده أن بايدن يعتزم أن يلعب دورًا ثابتًا كخصم لبوتين. ويصرح خلال الجلسة التي سبقت التأكيد على توليه لمنصبه أمام مجلس الشيوخ، أنه يؤيد توفير أسلحة فتاكة لأوكرانيا تخول لها الدفاع عن نفسها ضد روسيا. ذلك بالإضافة لإعلانه عن تأييده لدعوة جورجيا للإنضمام الى الناتو، بشكل يثير بالغ الاستياء لدى موسكو.
يظل موقف بايدن بصفته رئيسًا، ونواياه الفعلية تجاه المسألة الأوكرانية غير موضح بشكل كامل. إذ أن واشنطن ستستمر في سياسة عدم الاعتراف، أي أنها ستواصل عدم اعترافها بضم القرم، وبتبعيتها لأوكرانيا. لكن من غير الموضح أن بايدن الذي يواجه الآن العديد من المسائل المُلحة، سيختار أن ينخرط بنفسه في المشكلة الأوكرانية.
ويعرف بايدن عن ظهر قلب القضية الأوكرانية، وسافر بنفسه إلى هناك ست مرات أثناء شغله لمهام نائب الرئيس. لذلك يعي بايدن جيدًا أن الانخراط في المسألة الأوكرانية سيتطلب منه الكثير من الوقت، كما أنه من المرجح أن بايدن يرى أن تدخله الشخصي بهذا الشكل قد ينتج عنه أن تتفاقم الأوضاع من دون أي إمكانية للتسوية. إذا بهذه الطريقة، فإن واشنطن باعتبارها أقوى داعم غربي لكييف، ستعتمد على الحلول الدبلوماسية فقط للخوض في هذه المسألة.
يحدث ذلك، بينما يبتهج الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينكسي، بوجود بايدن على سدة الحكم. ويعتقد أن هذا هو العصر الذي ستتحقق فيه أجمل أحلامه. إذ أنه يرى أن دورًا أكثر نشاطًا للولايات المتحدة يمكن أن يغير مسار القضية تمامًا ويضفي عليها نوع أكبر من الزخم.
بينما من المرجح أن تكتفي الولايات المتحدة بسياسة عدم الاعتراف، جنبا الى جنب مع التوجه نحو منح أوكرانيا المزيد من المساعدات الأمريكية المشروطة بتحقيق السلطات الأوكرانية لإصلاحات محددة. بمعنى أن يشترط لتحقيق هذه الإصلاحات، إصلاح السلطة القضائية، بما في ذلك المحكمة الدستورية التي تضم مجموعة محددة من القضاة الذين يدينون بالولاء لجماعات الأوليجارشية.
باختصار، قد تحمل رئاسة بايدن بشرى سارة بالنسبة لأوكرانيا، ولكن المقصود هنا أوكرانيا التي ترغب في التحول إلى نسخة أخرى جديدة عن دولة أوروبية. ولكن ليس بالضرورة أن يعني ذلك أن تدعم الولايات المتحدة وبشكل فعلي وجذري عودة القرم إلى لواء العلم الأوكراني، إذ أنه من المرجح أن تقف الأمور عند مرحلة الحوار الدبلوماسي البناء الذي يهدف الى كسر الجمود بين البلدان ولكن بوجود أمريكي.
أما بالنسبة لبيلاروسيا، فمن المحتمل أن تتدخل الولايات المتحدة وتفرض مزيدا من الضغوط على القيادة البيلاروسية لدفعها نحو القبول بالقيم الديموقراطية الغربية، كما أنه من المرجح أن تدعم واشنطن حركات المعارضة المحلية على نطاق واسع وبشكل علني.
باحث أول بالمرصد المصري