الأمريكتان

جذور عميقة.. ماذا عن أيديولوجيا التطرف في صفوف الجيش الأمريكي؟

قبل سبعة عقود، اندلعت أكثر الحروب تدميرًا في تاريخ الإنسان “الحرب العالمية الثانية”، التي كان وقودها ليس فقط حسابات الجغرافيا السياسية المعقدة للأمم الأوروبية، بل كان ثمة أساس بيولوجي يعمل بمثابة وقود إضافي لمكينة الحرب، ويقوم استنادًh على عقيدة التفوق الساحق للعِرق الآري على سائر الأعراق الأخرى؛ إذ شكلت العقيدة النازية بأساسها البيولوجي حركة الفيالق العسكرية الجرمانية التي صالت وجالت في أوروبا لترسخ فوقية “الرجل الأبيض” وأحقيته بالقيادة والسيطرة على مفاصل العالم انطلاقًا من إسهاماته الفارقة في العلوم والتقدم التقني والثورة الصناعية الثالثة.

وبعد ستة أعوام درامية من تاريخ بدء الرصاصة الأولى في الحرب العالمية الثانية، سقط الرايخ الثالث وعقيدته على وقع حملات القصف الرهيبة على المدن الألمانية بواسطة قاذفات الحلفاء التي كانت تنفذ غاراتها بالألف طائرة أحيانًا. وبدا مع دخول الجيوش الأمريكية والبريطانية والروسية لشوارع برلين في أبريل من العام 1945 أن أيديولوجية التطرف القائمة على العرق واللون قد انتهت دون رجعة بسقوط ممثليها السياسيين “النازيين”، مفسحة المجال للتناحر بين الأيديولوجيات السياسية “الاشتراكية – الرأسمالية” للتكتل الشرقي والغربي آنذاك. 

إلا أن حادثة اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير أضافت لسلة “عودة حضور أيديولوجيا التطرف العِرقي” حدثًا استثنائيًا من جديد في الكتلة الغربية؛ إذ كان لحادثة الكابيتول من الخصوصية ما يجعلها مؤشرًا قويًا على مدي تغلغل هذه الأيديولوجية داخل النسيج المؤسساتي الأمني الأمريكي. 

فقد شارك أكثر من 22 من ضباط ومسؤولين عسكريين حاليين وسابقين في الهجوم على مبنى الكونجرس يتم التحقيق معهم حاليًا، منهم ضابط بمشاة البحرية الأمريكية واثنين من قدامى المحاربين في القوات الجوية. فيما تم إيقاف العديد من ضباط شرطة الكابيتول عن العمل بعد أن أظهرهم الفيديو وهم يساعدون بعض المهاجمين الذين دفعتهم كلمات ترامب للهجوم على المبنى.

ومنهم ضابط متقاعد برتبة مقدم في سلاح الجو الأمريكي، “لاري ريندال” الذي شوهد داخل قاعة الكونجرس ومعه أصداف بلاستيكية تستخدم لتقييد العناصر الإرهابية. وقدم تم اعتقاله في تكساس ومن المرجح أن يُعرض على القضاء العسكري الأمريكي بحسب محامين.

وكذلك “براتفون شيفلي” الذي خدم بمشاة البحرية “المارينز” حيث شوهد وهو يقوم بالاعتداء على أحد ضباط الشرطة المكلفين بحماية مبنى الكابيتول، واعترف بذلك حين تم اعتقاله لاحقًا في بنسلفانيا.

والغريب ليس مشاركة هؤلاء العناصر في أعمال الاقتحام، ولكن أيضًا في انخراطهم ضمن التنظيمات والميليشيات اليمينية المتطرفة التي تتبنى أفكارًا انعزالية وقومية تتعارض جملةً وتفصيلًا مع روح النظام السياسي الأمريكي، ومنظومة العولمة.

أثارت المشاركة الواسعة للعناصر الأمنية “الحالية – السابقة” في الجيش وأجهزة الشرطة في أعمال اقتحام الكابيتول العديد من الأسئلة حول المدى الذي تغلغل من خلاله التطرف العرقي وأيديولوجياته داخل صفوف أكبر وأقوى جيوش العالم؟ وكيف سمح مجتمع الاستخبارات الأمريكي لتسرب هذه الأفكار وتبنيها على نطاق يبعث على القلق والحذر داخل المؤسسات الأمريكية؟ وللإجابة على هذه التساؤلات ينبغي الوقوف أولًا على البيئة السياسية التي أفرزتها، وميراث الذاكرة التاريخية للولايات المتحدة فيما يرتبط بالتطرف العرقي وسيادة “الرجل الأبيض”.

الخجل من الذاكرة التاريخية

بنُيت الولايات المتحدة كأمة على ميراث من النضال ضد بريطانيا من جهة، وعلى ميراث من احتكار “الرجل” الأبيض للسلطة من جهة أخرى؛ فقد كان الرق في الولايات المتحدة الأمريكية يتّخذ صفة المؤسسة، بموجب التشريعات والقوانين التي سمحت به وبممارساته ضد السود. وانتشر في أمريكا الشمالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، واستمر في الولايات الجنوبية حتى إقرار التعديل الثالث عشر لدستور الولايات المتحدة في عام 1865 نتيجة للحرب الأهلية. 

وبالرغم من إقرار التعديل الثالث عشر، ظلت أفكار العنصرية متغلغلة داخل نسيج المجتمع الأمريكي حتى ستينيات القرن المنصرم، فمثلًا كان للطيارين السود الأمريكيين فيلق خاص بهم في الحرب العالمية الثانية، يفصلهم عن زملائهم من الطيارين البيض أصحاب الوجاهة الاجتماعية والعائلات الراقية، إذ كان الطرف الأخير ينظر للآخر نظرة احتقار حتى مع السجل الجيد للطيارين السود في مواجهة المقاتلات الألمانية النفاثة الحديثة آنذاك “مسرشميت”.

وللمفارقة، وفي السنة التي أُقِر فيها بالتعديل الثالث عشر للدستور الأمريكي الذي ألغى العبودية والاسترقاق الجبري، إلا ما يُطبق منها كعقوبة على الجرائم بالعام 1865، تأسست واحدة من أخطر التنظيمات المتطرفة والإجرامية في الولايات المتحدة والتي تُعرف بـ “KLU KLUX KLAN”، وتعني “الدائرة” باليونانية، وهي بالأدق عبارة عن عدد من المنظمات الأخوية في الولايات المتحدة التي تشترك في الاعتقاد بالتفوق الأبيض ومعاداة السامية والعنصرية ومعاداة الكاثوليكية. 

وتعمد هذه المنظمات عموما إلى استخدام العنف والإرهاب وممارسات تعذيبية كالحرق على الصليب لاضطهاد من يكرهونهم مثل الأمريكيين الأفارقة وغيرهم. وقد ارتكبت هذه المنظمة أفظع الجرائم بحق الأمريكيين السود.

وللمفارقة الثانية، أن مؤسسي هذه المنظمة كانوا ستة ضباط سابقين من الجيش الكونفدرالي الأمريكي لمعارضة التأسيسات الدستورية الجديدة ومناهضة إلغاء العبودية. وانحسرت منظمة الكلان بين عامي 1868 و1870 ودمرت بالكامل في بدايات عقد السبعينات من القرن التاسع عشر على يد الرئيس أوليسيس غرانت. في عملية الحقوق المدنية لعام 1871، لكنها سرعان ما عادت للواجهة في مطلع القرن العشرين، وكانت أبرز العمليات الإرهابية لمنتسبيها، تفجير الكنيسة المعمدانية في سبتمبر 1963، في مدينة بيرمنجهام في ولاية ألاباما. ومازالت تعمل هذه المنظمة بصورة غير رسمية بعدد عناصر تقدر ما بين 8 لـ 12 ألف عنصر. 

وعلى الرغم من انحسار هذه المنظمة منذ الستينات وحتى الان، إلا أن أفكارها العنصرية والخاصة بتفسيرات تفوق الرجل الأبيض وأحقيته بسيادة سائر الأعراق مازالت حاضرة، وإن كانت بصورة متفاوتة في السرطان الجديد للولايات المتحدة ألا وهو الميليشيات العسكرية.

غابة من الميليشيات.. رغم سيادة النظام الديمقراطي الأمريكي

كفل الدستور الأمريكي الحق في حمل السلاح للشعب وبضوابط محددة كما جاء في التعديل الثاني 1791. إلا أن ذلك سمح منذ اللحظة الأولى بتشكيل الميليشيات العسكرية بل وتشجيع “السلوك الحسن” لها، حيث تطرق التعديل الثاني إلى أن وجود ميليشيا حسنة التنظيم ضروري لأمن أية ولاية حرة، لا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء الأسلحة وحملها. ويعد هذا التعديل من أكثر التعديلات إثارة للجدل في الولايات المتحدة نظرًا لارتفاع حوادث السلاح في البلاد. 

كما تجدر الإشارة بسيادة القانون المدني والفصل بين السلطات والتفوق الاستخباراتي داخليًا وخارجيًا منذ القرن العشرين؛ كونهم عوامل أفضت لتثبيت “النموذج الحضاري” الأمريكي، ومنع الانجراف للاقتتال بالسلاح انطلاقًا بما اقره التعديل الثاني. لكن القوانين لم تمنع من تشكيل الميليشيات العسكرية داخل الولايات المتحدة وتلك التي تقوم على إطار فكري مشترك، وعقائدي أيضًا، فلا عجب أن الحرس الوطني الأمريكي بقواته البرية والجوية قد تأسس من مجموعة من الميليشيات العسكرية.

فقد حافظت الولايات المتحدة –منذ تأسيسها كدولة مستقلّة– على الحد الأدنى من الجيش واعتمدت على مليشيات الدولة المرتبطة مباشرة بالميليشيات الاستعمارية السابقة لتزويد غالبية قواتها. نتيجةً للحرب الإسبانية الأمريكية، طُلب من الكونجرس إصلاح وتنظيم تدريب وتأهيل مليشيات الدولة. وتشكَّلَ مع تمرير قانون ديك عام 1903 الحرس الوطني الحديث، وذلك بعدما قسَّمت الولايات المتحدة ميليشياتها إلى قسمين: قسمٌ أولٌ حمل اسم الحرس الوطني – وصار يُعرف في الأوساطِ الشعبيّة باسم الميليشيا المنظمة – وقسمٌ ثانٍ حمل اسمَ ميليشيا الاحتياط وعُرف في الأوساط الشعبيّة باسمِ الميليشيا غير المنظمة أو غير النظاميّة.

ووصلت أعداد الميليشيات في الولايات المتحدة اليوم أكثر من 200 ميليشيا. ويظهر الشكل التالي تطور أعدادها صعودًا وهبوطًا، إذ تتشكل الميليشيات بسهولة وتنحل بنفس وتيرة السهولة ولاسيما بعدما تجذب انتباه الأجهزة الأمنية المختصة، فسرعان ما تفكك نفسها لتندمج في تجمع آخر، أو تنتهي للأبد.

ولعل أبرز أسماء الميليشيات الحالية في الولايات المتحدة، هما “Oath keepers” التي أسسها متقاعد سباق في الجيش وتضم من 1000 لـ 3000 عنصر و “Three Percenters” التي ترمز لادعاء يُروج له المتطرفون اليمينيون بأن 3% بالمائة فقط هم من حاربوا بريطانيا لنيل الاستقلال الأمريكي. وكلاهما تأسس بعدما تولى باراك أوباما سدة الحكم في البيت الأبيض. وينشطون الشرق والغرب الأوسط الأمريكي وخاصة المدن الرئيسية بدلًا من الريف.

وجاءت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، لتقدم الدعم للأجنحة اليمينية القومية المتطرفة داخل الجيش، وهو ما يفسر التباطؤ الإجرائي قانونيًا واستخباراتيًا في تعقب شبكات التطرف داخل مؤسسات الجيش، الذي رأى العديد من منتسبيه في قدوم دونالد ترامب طريقة للخلاص من تطرف الإدارات الديمقراطية الأمريكية أو بالأحرى أوليغارشيتها المتحكمة بالدولة العميقة وأدمجت العناصر الأجنبية في السلك الحكومي على حساب الأمريكيين البيض. هنا تضافر مزاج الإنجيليين مع القوميين، لتصبح النظرة لأجنحة التطرف داخل الجيش كونها ظاهرة اعتيادية وتعبر عن مشاهد وطنية وقومية حميدة. 

ولعل استبعاد قيادة الحرس الوطني الأمريكي أكثر من 20 عنصر من عناصرها المشاركة في أعمال تأمين مراسم تنصيب الرئيس جو بايدن، في آخر اللحظات بعد فتح تحقيقات من قيادة الجيش الأمريكي وهيئة المباحث الفيدرالية؛ مؤشرًا عن العمى الذي أصاب المؤسسات الأمريكية تجاه ظاهرة يقترن فيها موروث الذاكرة التاريخية المتناقضة مع واقع مأمول ومعولم يرفض الاندماج فيه شرائح مليونية من الشعب الأمريكي.

إلا أن تناقض الذاكرة التاريخية الأمريكية، وجد طريقًا على ما يبدو لاحتواء الأزمة بعيدًا عن قوائم المراقبة لعشرات الآلاف من الجنود والضباط، وتمثل في تولي الجنرال الأمريكي من أصول افريقية “لويد أوستن” أكبر وزارة أمريكية، وزارة الدفاع. فهو الشخصية العسكرية رقم 200 التي تحصل على رتبة جنرال من فئة “أربعة نجوم”، كما وافق عليه الكونجرس ومجلس الشيوخ في حالة استثنائية. فـ أوستن أوستن، الذي تقاعد في 2016، سيكون أول أمريكي من أصول أفريقية يدير وزارة الدفاع. وكان لا بد من منحه إعفاءً من قانون يلزم وزير الدفاع بالانتظار سبع سنوات بعد الخدمة الفعلية قبل تولي المنصب. ووافق مجلس النواب على التنازل عن هذا الشرط 21 يناير وتلى ذلك موافقة مجلس الشيوخ على الإجراء في وقت لاحق من نفس اليوم.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى