
“نافالني” بين عالمين.. كيف كشفت احتجاجات روسيا النقاب عن مفهوم الديمقراطية الغربية؟
المعارض الروسي “أليكسي نافالني”، هل هو بطل حقيقي؟ أم أن معجزة شفائه هي من صنعت منه بطلاً؟ أم أنه مجرد شخص ساعده لعب دور الضحية على كسب المزيد من التأييد بين الجمهور في الشارع؟ أو من يدري، قد يتضح في نهاية المطاف، أن العديد من الأنظمة الغربية تعتقد أن “نافالني” هو الرجل المناسب، في التوقيت المناسب، ضد الدولة المناسبة؟!
إن المُتابع للمظاهرات الأخيرة في الأراضي الروسية، وما سَبقها من أحداث ارتبطت بالمزاعم حول تعرض المعارض الروسي للتسمم على يد أجهزة الاستخبارات الروسية، ثم مثوله للشفاء في ألمانيا، وما تلى ذلك من أحداث وصولًا إلى إصراره على العودة مرة أخرى إلى موسكو على الرغم من معرفته المسبقة من أنه سيتم القبض عليه بمجرد وصوله إلى الأراضي الروسية. سوف يرى أن تأويلات إصراره على العودة، لن تخرج من احتمالين؛ أولهما أن يكون “نافالني” صادقًا في حُبه إلى بلاده حد الجنون الذي يُغيب عن أنظاره حقيقة أنه في الواقع لن ينجح في الاستمتاع الفعلي بالحياة في بلاده المحبوبة بقدر ما سوف يمكث في السجن بها.
وثانيهما؛ أن يكون “نافالني” شخصًا يشعر بالأمان لدرجة تُسري في قناعاته أنه بمجرد أن يدخل الى السجن سوف تهب القوى الدولية الكبرى لنجدته وللضغط على بلاده لأجل إطلاق سراحه؟! وبالتالي فإن عودته الى روسيا بحد ذاتها أمر هو يعرف مسبقًا أنها لا تنطوي على أي خطر!
من هذا المنطلق، نعرف أنه يوجد هناك قوى دولية عبرت على نطاق واسع عن اعتراضها على احتجاز “نافالني”. إذ أنه وفور اعتقاله، أدانت أكثر من عشر حكومات أجنبية بالفعل عملية الاعتقال.
وانهالت بعد ذلك التصريحات الرسمية المختلفة، التي تدين اعتقاله وتطالب الحكومة الروسية بضرورة الإفراج عنه. ومن ضمنها، أن طالب وزير الخارجية الأمريكي وقتها، مايك بومبيو، بالإضافة إلى وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا والنمسا وليتوانيا ولافتيا وإستونيا وكندا وإيطاليا وأحد مستشاري الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن بضرورة الإفراج عن السياسي المعتقل.
يأتي هذا بالتزامن مع تولى إدارة جديدة “زمام الأمور” في البيت الأبيض، حيث بدأت أصوات أخرى تتعالى وتُطالب بفرض المزيد من العقوبات على روسيا بسبب اعتقالها لنافالني. كما لاحت في الأفق أصوات أخرى تُنادي بضرورة رعاية بديل سياسي يحل محل الرئيس الروسي الحالي.
“إما أنا أو فوضى الشارع!”.. احتجاجات وردود فعل دولية
ردًا على سؤال حول متى تحديدًا اندلعت الاحتجاجات وتطورت إلى اشتباكات بين المواطنين والشرطة الروسية؟! يُذكر أن الاحتجاجات لم تندلع في لحظة وصول “نافالني” وزوجته الى موسكو، ولم تندلع كذلك في لحظة اعتقاله. وذلك على الرغم من أن العشرات من مؤيديه وأنصاره كانوا قد تجمهروا بالفعل أمام المطار المخصص لهبوط رحلته بغرض منحه استقبالاً حارًا على الرغم من معرفتهم أنه سوف يتم اعتقاله في تلك اللحظة.
لكن بدأت الأمور في التأجج بعد مرور يومين من توقيف “نافالني”. حيث أذاع المُعارض –أثناء وجوده في محبسه بموسكو- مقطع فيديو مصورا تبلغ مدته قرابة الساعتين، تم تصويره وإنتاجه وإعداده بالكامل خلال فترة وجوده في ألمانيا بنية عرضه أثناء تواجد نافالني في محبسه على الأراضي الروسية.
ويتناول “نافالني” خلال المقطع تفاصيل وصور يُظهر خلالها قصر عملاق يقع بالقرب من مدينة “جينليندجيك” الواقعة على ضفاف البحر الأسود، ويُعتقد أنه مملوكً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وسرعان ما نجح المقطع في جذب أنظار ملايين المشاهدين عبر موقع الفيدوهات العالمي “يوتيوب”، حيث هاجم نافالني من خلاله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووصفه بأنه شخص محب للثروة والبذخ، ودعا الناس للخروج إلى الشوارع لأجل المشاركة في احتجاجات واسعة النطاق عبر أنحاء شتى من البلاد.
واللافت في الأمر، أن “نافالني” نفسه خلال مقطع الفيديو المذكور أعلاه. ذكر أن الرئيس الروسي يستخدم أسماءً مستعارة لأجل امتلاك العقارات الباهظة تارة، وتارة أخرى ذكر أن هذا القصر موضع التساؤل تحديدًا مملوكًا إلى جهاز الأمن الفيدرالي –أي جهاز حكومي تابع للدولة- أي أنه وفقًا لنافالني نفسه مملوكًا لجهة حكومية وليس لشخص محدد. لكن على الرغم من ذلك، أشار نافالني في الوقت نفسه إلى أنه توجد هناك روابط بين القصر وبين بوتين! إذا ما هي هذه الروابط؟ إذا كان الرئيس الروسي يستخدم أسماء مستعارة لأجل امتلاك عقارات.. إذا ما الدليل الذي يملكه نافالني لأجل التأكد من أن عقارات محددة مملوكة بالفعل للرئيس؟ وكيف تصل هذه الأدلة المزعومة إلى متناول يده؟ وهل يثبت نشر هذا الفيديو في توقيت وجود نافالني في السجن نواياه المسبقة لأجل الدعوى لترتيب احتجاجات واسعة النطاق عبر البلاد، ينتج عنها فوضى واشتباكات بين المواطنين والشرطة؟!
الحقيقة، أن المتحدث الرسمي باسم الكرملين، “ديميتري بيسكوف”، سرعان ما نشر نفيًا رسميًا على الاتهامات التي وردت بمقطع الفيديو، ووصفها بأنها مزاعم لا أساس لها من الصحة.
ولكن هناك أسطورة تقول، إن الضحية تظل صادقة حتى لو لم تملك أدلة، والطرف الآخر يظل كاذبًا مادام يبدو في مشهد بعيد عن وصفه أنه ضحية. لذا سوف يكون دائماً من السهل تناول كل ما يقوله أي شخص موصوفا بأنه “ضحية” باعتبارها حقائق مسلم بها في مقابل التكذيب الدائم لكل ما هو رسمي ومُثبت.
“حرية الرأي والتعبير” بين عالمين.. أحدهما غربي والآخر ما دون ذلك
في وقت ليس بعيد، اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية أن رئيسها ليس من حقه الإدلاء برأيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقامت الشركات الأمريكية بحجب صوته وإسكاته تمامًا. وفي العام السابق، أدارت الولايات المتحدة الأمريكية عملية سحق الاحتجاجات الخاصة بمقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد، على يد شرطي أمريكي ببراعة. حتى أن سحقهم والتعامل معهم بقسوة وعدوانية لم يلقى أي اعتراضات تُذكر من القوى الدولية والمنظمات الحقوقية. إذ أن الجميع في ذلك الوقت، كان ينظر إلى المتظاهرين في الحالتين على اعتبار أنهم فوضويين وساعيين إلى نشر الخراب والدمار على أراضي الوطن الخالدة.
لكن في مشهد مماثل، أبدت الولايات المتحدة موقفا مختلفا تمامًا عن كل ما سبق. بالشكل الذي يبدو معه الأمر كما لو كأن واشنطن لها وجهان، أحدهما تتعامل به مع احتجاجاتها الداخلية، والآخر مع أي احتجاجات أخرى تندلع خارج أراضيها. فقد استغلت البعثة الدبلوماسية الأمريكية في روسيا حالة الاحتجاجات التي تنتشر في البلاد، وقامت بتداول منشورات تُعلن من خلالها تضامنها مع المتظاهرين من جهة، وتقوم بنشر معلومات عن أماكن التظاهر المحتملة ومسار المسيرات الاحتجاجية من جهة أخرى.
حيث نشرت السفارة الأمريكية في موسكو، بتاريخ 22 يناير، عبر موقعها الرسمي تحذيرًا من المظاهرات وتضمن التحذير مواقع وتوقيتات التجمعات وخطوط المسيرات الغير مصرح بها. كما أشار دبلوماسيون أمريكيون، إلى أن متظاهرون روس يخططون للتجمع بالقرب من ساحة بوشكين على وجه الخصوص والتحرك في مسيرة نحو الكرملين. ولم تكتفي السفارة الأمريكية بهذا القدر، ولكنها نشرت كذلك طرق ومسيرات الاحتجاجات في مدن أخرى، منها “سانت بطرسبرج”، و”بيرم”، و”تشيليانسك”، و”نوفوسيبيرسك”، و”كراسنيارسك”، و”أومسك”، و”إيركوتسك”، و”خاباروفسك”، و”فلاديفوستوك”، و”أولان أودي”. وللمصادفة، ورد في التحذير الأمريكي، أن السفارة نشرت هذه المعلومات من أجل سلامة مواطني الولايات المتحدة الأمريكية وتجنبًا لأن يجدوا أنفسهم عن دون قصد في أماكن التجمعات وسط الشرطة والمتظاهرون!
وفي سياق مواز، ندد المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، “نيد برايس”، في 23 يناير، بالاحتجاجات وصرح بأن بلاده تدين سلوكيات السلطات الروسية التي وصفها برايس بأنها تستخدم تكتيكات وحشية ضد المحتجين والصحفيين. وتابع برايس، قائلاً “ندعو السلطات الروسية إلى إطلاق سراح جميع المواطنين المحتجزين بسبب محاولاتهم لمزاوية حقوقهم العادية، كما ندعو كذلك إلى الإفراج الفوري والغير مشروط عن أليكسي نافالني”. وأضاف برايس في البيان الذي نشره الموقع الرسمي لوزارة الخارجية عبر الانترنت، ” نحن نقف كتف إلى كتف مع حلفائنا وشركائنا في الدفاع عن حقوق الإنسان، سواء في روسيا، أو في أي مكان يتعرضون فيه للتهديد”. كما نشرت السفارة الأمريكية عبر صفحتها الرسمية على موقع تويتر، تدوينة اتهمت فيها السلطات الروسية بتنفيذ حملة اعتقالات بحق متظاهرين سلميين وصحفيين.
وهو التصرف الذي استنكرته الحكومة الروسية بشدة، ووصفتها بأنه بمثابة تجاهل للأعراف الدبلوماسية المُتبعة وتدخل مباشر في الشؤون الداخلية لروسيا. وعبر موقعها الرسمي، ردت وزارة الخارجية الروسية من خلال نشر بيان، أوضحت من خلاله؛ ” أننا نتحدث في الأساس عن تشجيع الأعمال العدائية، التي كان قد أعلن عنها –نفاقًا- بأنها احتجاجات سلمية، ويُشارك بها أعدادً كبيرً من القُصر”.
كما أوصت وزارة الخارجية الروسية، الولايات المتحدة بأن تولي الاهتمام لمشكلاتها الخاصة. مشيرة إلى أن المجتمع الأمريكي في حالة انقسام عميق، نتجت عن اضطهاد الدولة لمعارضيها. وشددت الخارجية الروسية على أن محاولات الدبلوماسية الأمريكية، متجاهلة كل الأعراف المتبعة، لأجل تحريض العناصر المتطرفة على الاحتجاج هي محاولات محكوم عليها بالفشل، وسوف تكون لها عواقب سلبية على مسار العلاقات الثنائية.
ومن جهة أخرى، عبر الكرملين عن اعتراضه الشديد على سلوك الدبلوماسيين الأمريكيين نحو المظاهرات الأخيرة، حيث صرح المتحدث الرسمي باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، “إن سلوك الدبلوماسيون الأمريكيين يعتبر تدخل مطلق في شؤونا الداخلية”. فيما صرح مسؤول بارز في الخارجية الروسية، “إنه يمكن للمرء أن يتخيل كيف سيبدو الأمر لو نشرت السفارة الروسية في واشنطن خارجة لطرق الاحتجاجات تشير إلى وجهتها الأخيرة، في مبنى الكابيتول، على سبيل المثال”.
كل ذلك يجري، في الوقت الذي لا يستبعد فيه خبراء روس، أن تكون السلوكيات الأمريكية الحالية بمثابة “بروفة”، تهدف لتجربة تنفيذ نموذج زعزعة الاستقرار الداخلي في روسيا قبل الموعد المحدد لإجراء الانتخابات البرلمانية المقرر اجراؤها في سبتمبر 2021. وبالتزامن مع تولي بايدن للرئاسة في الولايات المتحدة وسط تنامي معتقدات حول أنه سوف يولي أهمية خاصة لملفات حقوق الإنسان حول العالم ولكن ليس في بلاده هو نفسه أولاً.
وفي ضوء كل ما سبق، نعرف أن مسألة عودة “نافالني” إلى روسيا، وما أثارته من ردود أفعال غربية عديدة، بالاضافة الى ما ارتبط بها من سلوكيات أمريكية تجاه مظاهرات روسيا. سوف تظل دائما سلوكيات مريبة تحمل طابع الإزدواجية، وتُلقي بظلالها على التأويل الحقيقي للفظة مثل “حقوق الإنسان”، أو “حرية الرأي والتعبير”، ومعنى ما ترمي له هذه الكلمات في العالمين، الغربي والغير غربي. وعند هذه النقطة سؤال أخير يطرح نفسه، هل للديموقراطية عوالم عدة؟ أحدهما غربي والآخر ما دون ذلك!
باحث أول بالمرصد المصري