
العلاقات المصرية بالقوى الكبرى.. المصالح المصرية أولًا
منذ الخطاب الأول للرئيس عبد الفتاح السيسي بعد توليه الرئاسة، وهو يؤكد نهاية حقبة من التبعية للسياسة الخارجية المصرية، وتأكيده الندية في التعامل الخارجي والانفتاح مع كل القوى دون ميل لليمين أو اليسار، مع الالتزام بالاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، بما أضفى تعزيزًا لثقل الدور المصري ومكانته على الساحة الدولية. وعليه استطاعت مصر الظهور بشكل أفضل أمام العالم وتغيير وجهات النظر السلبية بقوة الدبلوماسية، وطرح رؤية خالصة في العديد من القضايا الإقليمية والدولية. وفي هذا الإطار، نسعى لتقديم نظرة عامة للتطورات التي لحقت بالعلاقات المصرية مع القوى الكبرى وبالأخص كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي.
توازن قائم على الندية لا التبعية
كان هناك إدراك لأهمية العلاقات مع الولايات المتحدة؛ لما تحققه من مصالح استراتيجية مشتركة، لكن أن يتم ذلك دون تنازلات تخص العملية السياسية بما يُفضي في النهاية للمساس باستقلالية القرار المصري. وبعد الفتور الذي شاب العلاقات عقب 30 يونيو، ورغم ما اتخذته إدارة أوباما من موقف سلبي تجاه تطورات الأوضاع في مصر، شهدت علاقات البلدين فيما بعد تطورات إيجابية ظهرت في حرص الجانبين على تنمية العلاقات في مجالات مختلفة.
أظهرت مصر من خلال ذلك القدرة على التعامل مع مختلف الإدارات الأمريكية بوضوح، فقد عاد الحوار الاستراتيجي المصري الأمريكي في 2015 على مستوى وزراء الخارجية منذ توقفه في 2009، كإطار مؤسسي يعبر عن إعادة الثقة بين البلدين بما يخدم مصالحهما دون الإضرار بمصالح طرف على حساب الآخر. وكان هناك توافق في الآراء حول عدد من القضايا مثل الأزمة الليبية، إذ رحبت واشنطن بإعلان القاهرة للتسوية السياسة ووقف إطلاق النار، وكان هناك تبادل لوجهات النظر حول مفاوضات ملف سد النهضة الإثيوبي، ومواجهة الإرهاب والاستقرار الإقليمي، مع دعم السعي المصري لإقامة تجربة تنموية واقتصادية.
على جانب آخر، كان هناك استحداث أو استدعاء لتقوية العلاقات المصرية مع دول صاعدة وكبرى لفتح مجال لتوزيع التفاعل الخارجي خاصة مع ظهور التوجهات التحليلية التي تؤيد بقوة التحول في النظام الدولي بأنه متعدد الأقطاب مع التراجع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، إذ كانت هناك مساعٍ لتعزيز العلاقات مع كل من روسيا والصين، إلى الحد الذي عدّه بعض المحليين بعودة مصطلح “التحول شرقًا” لأجندة السياسة الخارجية المصرية كتعبير عن التوازن الذي تريده مصر مع القوى الكبرى، واتخاذ القرار بمعزل عن الضغوط والتهديدات الخارجية بتقليل أو قطع المعونات الاقتصادية والعسكرية. يعد صعود هاتين القوتين على الساحة الدولية محفزًا كي تعظّم مصر مكاسبها الاقتصادية والسياسية وزيادة استقلالها وقدرتها على المناورة في علاقاتها الخارجية.
بدأت العلاقات المصرية الروسية تتخذ منعطفًا جديدًا بعد 30 يونيو، وظهر ذلك على عدة مستويات كان بدايتها الدعم الروسي لموقف مصر في هذه الأحداث وأن ما حدث كان استجابة لإرادة شعبية، وساندت موسكو مصر في المحافل الدولية ومجلس الأمن، بالإضافة للتصريحات الرسمية الصادرة عنها. وبدأ تفعيل صيغة “2+2” لتحقيق تنسيق عسكري وسياسي بين البلدين، مما جعل مصر سادس دولة ترتبط مع روسيا بهذه الصيغة.
ولم يختلف الموقف الصيني عن الروسي في دعم الإرادة الشعبية وتقرير المصير ورسم خريطة مستقبله، وأكدت بكين حرصها على دعم العلاقات الاستراتيجية بين البلدين في كل المجالات.
وعلى الجانب الأوروبي، تم دفع العلاقات بقوة على نحو إيجابي سواء مع الاتحاد الأوروبي كتكتل أو كل دولة على حدة، كان ذلك على المستوى الثنائي الذي يظهر في الزيارات المتبادلة على مستوى القيادات أو توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم، وإقامة آلية للتعاون الثلاثي مع اليونان وقبرص ورسم الحدود البحرية المشتركة للحفاظ على حقوق المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل الأطراف. أو تطوير العلاقات إلى مستوى الشراكة مع دول “فيشجراد” من خلال المشاركة الأولى لمصر في أعمال هذه القمة.
تنويع مصادر التسلح
وجّهت مصر جهودها في الجانب التسليحي بحيث لا يكون تركيزها على مصدر واحد يمكن من خلاله ممارسة أي شكل من أشكال الضغط، وترسيخ مبدأ التوازن، فهناك من فرنسا حاملات الطائرات من طراز ميسترال وطائرات الرفال، و4 فرقاطات بحرية، ومقاتلات من طراز “فالكون إكس-7”. و4 غواصات ألمانية بطراز “1400/209″، ومن الولايات المتحدة هناك على سبيل المثال طائرات الأباتشي ولانشات صواريخ وطائرات “إف-16”. وخلال الفترة بين 2015 و2018 تم الانتهاء من تصنيع 125 دبابة قتالية من طراز “أبرامز M1A1” بجهد مشترك، وبناء 10 سفن دورية ساحلية من طراز “Swiftship-93”، و8 رادارات من طراز MPQ-64 Sentinel.
كانت روسيا مستعدة لتوريد معدات عسكرية جديدة أو تصليح المعدات التي سبق توريدها في عهد الاتحاد السوفيتي السابق، وتم توقيع عدد من الاتفاقيات حول دعم منظومة الدفاع الجوي.
فقد حازت روسيا على نصيب كبير من صفقات التسليح المصرية، منها صفقة بـ46 طائرة مقاتلة من طراز “ميج-29” عام 2015، و46 مروحية هجومية من طراز “كا-52″، و24 مقاتلة جوية من طراز “سوخوي- 35″، ولانش عسكري “بي32- مولينيا”، وكذلك فإن القمر الصناعي العسكري المصري “إيجيبت سات A” كان نتاج صفقة بقيمة 100 مليون دولار، ومنظومة الدفاع الجوي “إس-300″ و”بوك إم2″ و”تور إم2”.
ومن الصفقات التي عُقدت مع الصين، 10 طائرات دون طيار من طراز “وينغ لونغ-1″، وطائرات دون طيار مسلحة من طراز “وينغ لونغ-2″، والحديث عن التعاون في مشروعات الأقمار الصناعية والفضاء.
تطوير حجم الاستثمارات والتبادل التجاري
شهد التبادل التجاري المصري الأمريكي تعزيزًا خلال 2019 وصلت نسبته إلى 14.71%، إذ بلغ 8 مليارات و618 مليون دولار. ويصل عدد الشركات الأمريكية إلى ما يزيد على 1576 شركة، بحجم استثمارات حوالي 24 مليار دولار. وهناك حوالي 42 شركة تعمل في قطاع النفط والغاز، و686 شركة في قطاع الخدمات. وتصل قيمة الاتفاقيات الثنائية في إطار برنامج المساعدات ما يزيد على 600 مليون دولار في مجالات التعليم والصحة والزراعة وتمكين المرأة والشباب.
ويتم تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال بما يقارب 200 مليون دولار عبر صندوق الأعمال المشترك بين البلدين. وتعد مصر أكبر مستقبل للاستثمار الأمريكي في أفريقيا، فقد بلغت نسبة الاستثمار الأمريكي في مصر 17.7% من قيمة الاستثمارات الواردة.
وحقق التعاون المصري الروسي طفرة أعادت إلى الأذهان قوة العلاقات في العهد السوفيتي، إذ تعد مصر الشريك التجاري الأول في أفريقيا بالنسبة لروسيا بنسبة تعادل ٨٣% من حجم التجارة الروسي مع القارة. وقد شاركت روسيا في العديد من المشروعات التنموية المصرية خاصة في قناة السويس وقطاع الطاقة، وقطاع السكك الحديدية، إذ تم عقد صفقة لتوريد 1300 عربة قطار لصالح هيئة السكك الحديدية المصرية.
وتعد المنطقة الصناعية الروسية من أكبر المشروعات الاستثمارية التي تضخ حوالي 7 مليار دولار، وتضم المنطقة مشروعات في مجال تجميع السيارات، والمعدات الزراعية، ومواد البناء، ومعدات الطرق، وصناعات الأدوية، وبناء السفن، والمنسوجات، والملابس، والأجهزة الإلكترونية، والأثاث والمعدات الهندسية، ومشروعات في مجال تكنولوجيا المعلومات وإعادة تدوير المخلفات والخدمات المالية.
وتوجد حوالي 467 شركة روسية تعمل في مصر. وتتنوع الصادرات الروسية لمصر بين الحبوب والمعادن، وتشمل الصادرات المصرية لروسيا الفاكهة والخضراوات والملابس. ومن المقرر عقد اجتماعات اللجنة المصرية الروسية المشتركة في نوفمبر 2021 بالعاصمة موسكو لمناقشة مجالات التعاون المشتركة على المستويات المختلفة تجاريًا واقتصاديًا وعلميًا. وكذلك تولي مصر أهمية للانضمام لمنطقة التجارة الحرة للاتحاد الأوراسي لتعزيز علاقات التبادل التجاري بين مصر والدول الأعضاء، وزيادة فرص الاستثمار.
وعلى ذكر الاستثمارات الروسية في مصر، لا يجب إغفال التعاون في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، فقد تم توقيع اتفاقية تعاون تعني بإقامة أول محطة نووية تضم أربعة مفاعلات لإنتاج الطاقة الكهربائية في منطقة الضبعة.
تنظر الصين لمصر على المستوى الاقتصادي بأنها إحدى الدول المؤهلة لانطلاقة اقتصادية كبرى، وتسعى بجهد كبير للتعافي الاقتصادي. وقد وصل حجم الاستثمار الصيني إلى 104 مليون دولار عام 2019، بزيادة 40% سنويًا. ويأخذ البلدان خطوات إيجابية لتفعيل التعاون ضمن مبادرة الحزام والطريق، الذي يتم على ثلاث ركائز حتى الآن، هي التكنولوجيا والثروات والمال بما يتسق مع أولويات الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030، وفتح ذلك المجال لاستثمارات من شركات صينية بأكثر من 7 مليار دولار، وتسجيل حوالي 1560 شركة.
وتعد قناة السويس هي الرابط بين طريقي الحرير البري والبحري. وكذلك تم إنشاء المنطقة الصينية بالجزء الجنوبي للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس على مساحة 7 كيلو متر مربع، باستثمارات تُقدّر بـ350 مليون دولار، وذلك ضمن قيمة إجمالية لاستثمارات ستصل إلى 6.1 مليار دولار في ذات المنطقة. وسيتم توجيه مزيد من الاستثمارات ضمن مبادرة “التوجه نحو أفريقيا” استنادًا إلى أن نمو الاستثمار الصيني في أفريقيا يبدأ من مصر.
وعلى الجانب الأوروبي، يشكل حجم تجارة مصر مع الدول الأوروبية نحو 30% من إجمالي حجم تجارتها السلعية مع العالم، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري المصري الأوروبي عام 2019 بنسبة 6.8% ليبلغ 29.7 مليار يورو. وساهمت اتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية في زيادة هذا التبادل منذ دخولها حيز التنفيذ في 2004، ليشمل “الأثاث والصناعات الطبية والجلود والمنتجات الجلدية والحاصلات الزراعية والسلع الهندسية والإلكترونية والصناعات الغذائية والغزل والمنسوجات والمنتجات الكيماوية والأسمدة ومواد البناء والمنتجات اليدوية”. ومن المشروعات المهمة التي تولي لها مصر أهمية مع الاتحاد، مشروع الربط الكهربائي مع أوروبا عبر قبرص.
وقد شهد العام المالي 2019-2020 زيادة استثمارات الاتحاد بنسبة 74% خلال الربع الأول منه مقارنة بالفترة المماثلة من العام المالي السابق، لتصل إلى 2.4 مليار دولار. وتصدّر بذلك قائمة الجهات المستثمرة في مصر بنسبة بلغت 57% من إجمالي 4.2 مليار دولار تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
ويساهم الاتحاد في قطاعات تحسين الأسواق المحلية ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة والتحديث والتدريب المهني، وذلك في إطار المساعدات الإنمائية التي تشمل مِنح بنسبة نحو 45% موجهة للاقتصاد والتنمية الاجتماعية، والتي تشتمل على توفير فرص عمل، و45% مُكرسة للطاقة المتجددة والمياه والصرف الصحي وإدارة المخلفات والبيئة، و10% لأجل التحسين من مستوى الحوكمة، وحقوق الإنسان، والعدالة والإدارة العامة.
ويصل حجم مشروعات التعاون التنموية المخصصة لمصر من الاتحاد الأوروبي إلى 1.1 مليار يورو سنويًا. ووفر بنك الاستثمار الأوروبي خطًا ائتمانيًا بقيمة 425 مليون يورو لحساب بنك مصر لدعم الشركات المصرية الصغيرة ومتوسطة الحجم التي تأثرت بجائحة كورونا، ومساعدتها على التعافي الاقتصادي.
بجانب هذا، استضافت مصر القمة العربية الأوروبية الأولى بشرم الشيخ يوميّ 24 و25 فبراير 2019، بهدف تعزيز التعاون لمواجهة التحديات المشتركة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والأمنية. وعلى مستوى التعاون في مجال الطاقة، تم توقيع مذكرة تفاهم مشتركة في 2018، وذلك في إطار دعم الاتحاد للرؤية المصرية بأن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة. ولا يخفى أن قضية الهجرة غير الشرعية تستحوذ على جزء كبير من اهتمام الجانبين المصري الأوروبي، عبر مبادرات لتطوير منظور شامل للتعامل مع هذه القضية وضبط الحدود ووضع إطار تشريعي لمكافحتها.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية