
استراتيجية مصر في “شرق المتوسط”.. بين السياسة والدبلوماسية وأدوات الردع
أكاذيب وافتراءات، محاولات عديدة للتضليل ونشر الشائعات، تزييف للوعي وقلب للحقائق والهدف والمستهدف واحد، فعلى خلاف الواقع وبما يتنافى مع الموضوعية أعدت منصة ميدان التابعة لقناة الجزيرة القطرية، فيديو يروج لأوهام أنقرة وحليفتها الدوحة، فيديو يندرج تحت منطق الخطاب التوظيفي الذي تسعى من خلاله هذه المنصة للتشكيك في خطوات ونجاحات الدولة المصرية في منطقة شرق المتوسط، يحاول صانعوا هذا العمل الترويج لفكرة أن مصر قد اضاعت حقوقها في المتوسط، الأمر الذي يستدعي تسليط الضوء على حدود وطبيعة الدور المصري شرق المتوسط، ليس من باب الرد على إعلام الشائعات بل من منطلق وضع الأمور في نصابها الصحيح.
“ايست ميد”.. وشكوك حول الجدوى
سعى الفيديو في بعض أجزائه لتأكيد أن خط أنابيب “ايست ميد” قضى على أحلام مصر في التحول لمركز إقليمي للطاقة، فما عقلانية ومنطقية هذا الطرح؟ قد نحتاج لقياس جدوى هذا الطرح الوقوف على عدد من الحقائق بشأن مشروع ايست ميد وكذا الدور المصري في المتوسط وذلك فيما يلي:
وقعت قبرص واليونان وإسرائيل في أثينا (يناير2020) اتفاق خط انابيب ” ايست ميد” لنقل الغاز إلى أوروبا، ويبلغ طول الخط نحو 1900 كيلومتر، وقد بدأ طرح هذا المشروع مع تنامي اكتشافات الغاز شرق المتوسط.
ويستهدف المشروع الربط بين حقوق الغاز في قبرص وإسرائيل مرروًا باليونان ومنها إلى إيطاليا ومن ثم لأوروبا، وقد تم الاتفاق على الانتهاء من تنفيذ المشروع عام 2025، إلا أن هذا المشروع يواجه عدد من التحديات والتي يمكن الوقوف عليها فيما يلي:
أولًا: التكلفة الباهظة، تظل فكرة التكلفة مقارنة بالعائد والأثر أحد التحديات التي تواجه المشروع، حيث يحتاج خط ايست ميد لنحو 7 مليار دولار، كما أن عمق الانبوب تحت البحر والذي يٌقدر بنحو 3 آلاف متر قد يساهم في رفع تكلفة استخراج الغاز، ما يعني أن تكلفة تنفيذ المشروع واستخراج الغاز مرتفعة مقارنة بالعائد حيث يستهدف المشروع في مرحلته الأولى نقل نحو 10 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز الطبيعي لأوروبا والتي تقدر احتياجاتها السنوي في حدودها الدنيا بنحو 200 مليار متر مكعب سنويًا.
ثانيًا، ضعف التمويل، تظل مشكلة توفير التمويل عائقًا أمام المشروع، خاصة في ظل التداعيات العالمية لجائحة كورونا، فضلَا عن عدم جدوى المشروع في وجه نظر أصحاب المصالح أو المستثمرين، حيث تلقى المشروع تمويلًا بلغ نحو 2.27 مليون دولار ضمن صندوق مرفق التواصل الأوروبي ” Connecting Europe Facility” لتمويل مشاريع النقل والطاقة والبنية التحتية داخل أوروبا، كما تلقى دعمًا إضافيًا خلال يناير 2018 بقيمة 42 مليون دولار والتي ستغطي نحو 50% من تكلفة دراسة المشروع ، وهو ما يعني أن حكومة الدول الأطراف في المشروع قد تجد مشكلة في تمويله وقد تضطر لتحمل مزيد من الأعباء لتنفيذ المشروع.
ثالثًا: الشكوك حول إتمام المشروع، يبدو أن انهاء النقاشات الأولية والاتفاق على المشروع اتخذت وقتًا طويلًا، إذ بدأ الدول الثلاثة بمناقشة المشروع عام 2012، ما يعني أن التوقيع على الاتفاق بصورته الحالية استغرق نحو ثمان سنوات من النقاش، كما أن تشكيك إيطاليا في أهمية المشروع وجدواه تمثل تحديًا كبيرًا باعتبارها النقطة الأخيرة التي يمر من خلال خط الانابيب إلى أوروبا، إذ أشار وزير الخارجية الإيطالي (يناير2020) أن “المشروع لن يمثل خيارًا على المدى المتوسط والبعيدمقارنة بمشاريع أخرى، وذلك عند أخذ التكلفة وعملية الإنشاء في الاعتبار”، ما يعني أن المشروع قد يتعثر في أي مرحلة من مراحل التنفيذ وذلك بسبب عدم الاجماع أو القناعة التامة بجدوى المشروع.
رابعًا: تحديات تقنية وجغرافيا، تُعد غياب البنية التحتية الخاصة بتسييل الغاز وعدم توافرها لدى الدول الأطراف في الاتفاق ضمن أكبر المعوقات التي تواجه المشروع، حيث أن نقل الغاز المسال يصبح دائمًا أكثر سهولة ومرونة وأقل تكلفة من الغاز في حالته الغازية، كما أن عملية إعادة توجيه الغاز المسال لأسواق بديلة تمم بصورة سلسلة في حالة حدوث أية تغيرات طارئة. من ناحية أخرى يرى بعض الخبراء أن الطبيعة الجغرافية والتضاريس اليونانية قد تجعل من الصعوبة بمكان مد خط الانابيب في قاع البحر بالعمق المطلوب لتنفيذ المشروع.
القاهرة.. دور فاعل ومؤثر
ثمة عوامل تجعل مصر مركزًا اقليميًا للطاقة وخيارًا مفضلًا للتصدير إلى أوروبا، إذ تعتبر مصر أحد أكثر الفواعل تأثيرًا وفاعلية في منطقة شرق المتوسط، وذلك لعدد من العوامل والاعتبارات التي يمكن الوقوف عليها فيما يلي:
اولًا: توافر المقومات، لدى مصر عدد من المزايا التي تؤهلها لقيادة المتوسط، سواء من خلال اكتشافها لأكبر احتياطي- 30 تريليون قدم مكعب- من الغاز الطبيعي في المنطقة ” حقل ظهر” الذي تم اكتشافه عام 2015، والذي وصل حجم الإنتاج اليومي فيه لنحو 40% من إجمالي انتاج الغاز في مصر. علاوة على امتلاك مصر لمحطات تسييل الغاز الطبيعي في دمياط وادكو والتي تصل قدرتهما الاستيعابية لنحو 19 مليار متر مكعب سنويًا، الأمر الذي يوفر فرصة كبيرة للدول المنتجة للغاز في تصدير الغاز لمصر لتسييله ومن ثم نقلة لأوروبا.
ثانيًا: التعاقد مع منتجي الغاز، في هذا الإطار توصلت الشركات العاملة في الحقول الإسرائيلية عبر شركة دولفيونس المصرية لاتفاق يفضي إلى تصدير نحو 64 مليار متر مكعب من حقلي تمارا وليفياثان بقيمة 15 مليار دولار لمدة 10 سنوات، وعلى ذات المنوال وقعت مصر وقبرص في سبتمبر 2018 اتفاقية لإنشاء خط غاز يربط بين البلدين بهدف نقل الغاز من حقل افروديت بقبرص بهدف تسييله في مصر وإعادة تصديره. وتستهدف قبرص ضخ انتاجها لمنشآت الاسالة المصرية بحلول 2022، كما أن تكلفة المشروع وتنفيذه تقدر بنحو مليار دولار ما يعني أن فرص تمويله أعلى بكثير من خط ايست ميد كما أن جدوى المشروع واضحة في ذلك توافر البنية التحتية في مصر.
ثالثًا، القيادة المؤسسية، يمنح عامل الثقة بين دول شرق المتوسط ومصر مصدرًا إضافيًا للثقل والدور المصري، وقد برز ذلك من خلال قيادة مصر للمتوسط، إذ نجحت القيادة السياسية في ترسيخ قيادة للمتوسط وتفعيل دورها في المنطقة ضمن دوائر الأمن القومي والسياسة الخارجية لمصر، وقد اتضح ذلك مباشرة منذ وصول الرئيس السيسي للحكم، حيث عُقدت القمة الأولى للتحالف المصري اليوناني القبرصي في نوفمبر 2014، والتي شكلت النواة الأولى لمنتدى غاز شرق المتوسط الذي تم الإعلان عنه في يناير 2020، قبل أن يأخذ نمطًا وشكلًا مؤسسيًا خلال تحويله لمنظمة إقليمية مقرها القاهرة في سبتمبر 2020.
رابعًا: تحقيق الاكتفاء، نجحت مصر بفضل اكتشافات الغاز في تحقيق الاكتفاء الذاتي وهو ما أدى إلى إيقاف استيراد الغاز في سبتمبر 2018، بعدما وصل حجم الإنتاج اليومي لنحو 7.2 مليار قدم مكعب، وعليه فقد تحولت مصر من دولة مستوردة للغاز لدولة منتجة ولديها فائض كبير يسمح بالتصدير للخارج، فوفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، فقد بلغت صادرات مصر من الغاز الطبيعي 1.2 مليار دولار عام 2019 مقابل 479 مليون دولار عام2018، وقد نتج عن إيقاف استيراد الغاز توفير نحو 1.5 مليار دولار سنويًا.
لماذا الآن؟
يمكن تفسير توقيت نشر هذا الفيديو والترويج لتلك الأكاذيب وفقًا لعدد من الأسباب من بينها أولًا، محاولة استغلال التوقيت وتأليب الرأي العام عبر نشر الأكاذيب تزامنًا مع ذكرى 25 يناير، إلا أن هذه المحاولات لن تؤتي ثمارها خاصة في ظل الفشل المتواصل وعدم استجابة المواطن وتفاعله مع تلك الدعوات. ثانيًا، تسببت التحركات المصرية في محيطها المتوسطي في عزلة تركيا عن كافة الترتيبات الجماعية ومن ثم إخراجها من المعادلة خاصة بعد توقيع اتفاق ترسيم الحدود بين مصر واليونان والذي تم اعتماده (24 ديسمبر) في الأمم المتحدة ما يعني وضع اتفاق اردوغان والسراج الذي وقعه الطرفان في نوفمبر 2019 في مأزق، إذ أن ترسيم الحدود المصرية اليونانية يبطل الاتفاق بين تركيا وحكومة الوفاق والذي كان يتجاهل حقوق جزيرة كريت اليونانية، وعليه فمن المتوقع أن تعمل أنقرة على نشر الشائعات حول الاتفاق وفرص مصر في التحول لمركز إقليمي للطاقة. ثالثًا، تسبب موقف مصر الرافض للتقارب مع تركيا والذي سعت إليه أنقرة مؤخرًا عبر تصريحات من مسؤولين اتراك لزيادة حدة الكراهية والعداء تجاه مصر ومن ثم توجيه الأبواق الإعلامية لفبركة الحقائق.
في الأخير، تمتلك الدولة المصرية زمام الأمور والقيادة في المتوسط، وذلك وفقًا لقواعد القانون الدولي واستنادًا على التحركات الفاعلة والدبلوماسية النشطة، كما أن مقومات الدولة المصرية وما تمتلكه من بنية تحتية تجعلها الخيار الأفضل للتصدير ومن ثم التحول لمركز إقليمي للطاقة، من ناحية أخرى وفي حال تنفيذ خط انابيب ايست ميد فلن يخصم من الدور المحتمل والمتوقع لمصر، واقصى ما يمكن أن يترتب على استكمال المشروع هو الدخول في وضع تنافسي مع الخيار المصري للتصدير والتي قد تحبذه الدول الأوروبية للعوامل سالفة الذكر.
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع