
التأزم السياسي في تونس.. عندما تصبح الديمقراطية غاية في حد ذاتها
لم تلبث تونس تمر بمرحلة من عدم الاستقرار حتى تدخل أخرى، تنتقل بين موجات متداخلة من عدم الاستقرار الأمني تارة وعدم الاستقرار السياسي تارة أخرى وعدم الاستقرار الاجتماعي دائمًا، أو يجمع المشهد التونسي بين ذلك كله في آن واحد كما هو الحال الآن بعد نحو عشر سنوات من الثورة التونسية. فمازالت البلاد تراوح مكانها وتتعثر خطواتها على طريق تحقيق تطلعات التونسيين ومطالبهم التي رفعوها في الثورة وتوقعوا أن تجد طريقها إلى التحقق بعد إزاحة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
حراك وغضب شعبي
عادت مظاهر الحراك الشعبي والاحتجاجات إلى الشارع التونسي من جديد بشكل لافت خلال الأسابيع الماضية باحتجاجات مواطني عدد من المناطق المهمشة مطالبين بفرص العمل والتنمية على إثر التراجع الاقتصادي الحاد الذي تعيشه تونس وزادت أزمة فيروس كورونا المستجد من حدته؛ إذ تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنحو 7%، وأقر البرلمان (10 ديسمبر) موازنة العام الجديد بعجز قياسي تقدر نسبته بـ11.4% هي الأعلى منذ أربعة عقود، مع ارتفاع نسبة البطالة إلى 16.2%.
بدأت هذه الاحتجاجات في منطقة الكامور بولاية تطاوين جنوب تونس بقيام بعض الشباب بإغلاق محطة ضخ البترول منذ 17 يوليو للمطالبة بالتنمية والتشغيل وحتى توصل رئيس الوزراء هشام المشيشي لاتفاق بعد مفاوضات دامت نحو شهرين مع “تنسيقية اعتصام الكامور” (6 نوفمبر) يتضمن مخصصات مالية وفرص عمل وقروض شبابية ميسرة.
سُرعان ما انتقلت هذه الاحتجاجات إلى مناطق وفئات أخرى طمعًا في اتفاق مشابه لاتفاق الكامور، إذ قام محتجون في ولاية القصرين وسط تونس باعتصام مفتوح أمام حقلي الدولاب وطم صميدة النفطيين. وأوقف محتجون في ولاية قفصة إنتاج الفوسفات بشكل كامل، وأغلق آخرون مخازن المحروقات بمدينة الصخيرة بولاية صفاقس. واندلعت مظاهرات أخرى في عدد من الولايات، منها سيدي بو زيد وباجة. فضلًا عن إقدام الصحفيين والقضاة والأطباء وفئات أخرى على تنفيذ احتجاجات وإضرابات عامة.
ملامح التأزم السياسي
صراع القوى السياسية
كانت هذه الضغوط الشعبية دافعًا لاشتعال الصراع بين الأحزاب والقوى السياسية التونسية، فحسب بعض التقارير ضغطت حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة وهو الثلاثي الذي يمثل التحالف البرلماني الداعم لحكومة المشيشي على رئيس الوزراء لإجراء تعديلات وزارية باستبعاد بعض الوزراء المحسوبين على الرئيس قيس سعيّد وتأكيد سيطرتهم على الحكومة.
وفي الأثناء تعالت الاتهامات من أحزاب وقوى أخرى للحكومة التي تشكّلت في سبتمبر الماضي والتحالف البرلماني الداعم لها بالعجز عن معالجة أزمات البلاد السياسية والاقتصادية والخطأ في التعامل مع الاحتجاجات المناطقية. فأضحت الحكومة أداة للصراع والتناحر السياسي تحت قبة البرلمان والذي وصل إلى حد استخدام العنف.
تعاقب الحكومات
كان التجاذب السياسي أحد أهم أسباب عدم الاستقرار الذي شهدته تونس منذ ثورة 2011، إذ شهدت تونس منذ هذا العام وحتى الآن تشكيل 8 حكومات، لم تتعد مدة بعضها شهورًا قليلة، وآخرها حكومة رئيس الوزراء السابق إلياس الفخفاخ التي لم تستمر سوى نحو ستة أشهر. ومرد ذلك إما إلى عدم التوافق المبدئي بين الكتل السياسية داخل البرلمان على شكل الحكومة أو بسبب التنازع فيما بينها على تمثيل كل منها داخل الحكومة، وهو ما يُفضي في النهاية إلى عجز هذه الحكومات عن القيام بمهامها تحت وطأة الصراعات السياسية، والدخول في معضلة تشكيل حكومة جديدة تلقى مصير سابقاتها.
وليست التجاذبات والصراعات السياسية داخل الحكومة والبرلمان بمعزل عن الوضع الشعبي الرافض للأحزاب والكتل السياسية، وخاصة حركة النهضة الساعية إلى بسط سيطرتها على كافة مفاصل الدولة. وذلك ما ظهر في استطلاع آراء نوايا التصويت لشهر ديسمبر الذي تجريه مؤسسة سيجما كونساي؛ إذ أظهر عزوف 71.1% من التونسيين عن الإفصاح عن نوايا تصويتهم، وهي نسبة كبيرة تظهر عزوف التونسيين عن الانخراط في الحياة السياسية، فضلًا عن تراجع مؤشرات قبول حركة النهضة التي تمثل أحد أهم أسباب الأزمة التونسية لتصل إلى 17.2% فقط، وصعود الحزب الدستوري الحر ليحظى بنسبة 36.9%.
تعدد دعوات الحوار الوطني
أكد مراقبون كُثر حاجة تونس إلى حوار وطني جامع وشامل يضع استراتيجية لقيادة البلاد في المرحلة المقبلة والتغلب على أزماتها. وذلك على غرار الحوار الوطني الذي أُجري عام 2013 بمبادرة من رباعي المجتمع المدني (الاتحاد العام للشغل – الاتحاد العام للصناعة – الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان – الهيئة الوطنية للمحامين) وأفضى إلى تشكيل حكومة كفاءات غير حزبية برئاسة مهدي جمعة (يناير 2014).
ولكنّ الدعوات للحوار الوطني أصبحت هي الأخرى مجالًا للتنازع والصراع بين القوى السياسية، فبينما عرض الأمين العام للاتحاد العام للشغل نور الدين الطبوبي (21 نوفمبر) مبادرة للحوار الوطني على الرئيس التونسي قيس سعيّد تتضمن توجهات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأعلن تفاصيلها (1 ديسمبر)، أعلن رئيس حركة الشعب زهير المغزاوي (23 نوفمبر) إطلاق مبادرة وطنية يشرف عليها رئيس الجمهورية قيس سعيد لإخراج تونس من المأزق الاقتصادي والاجتماعي وإيجاد حلول جدية بديلة بعيدا عن الحسابات السياسية.
وأعلن رئيس الوزراء هشام المشيشي (27 نوفمبر) إطلاق حوار اقتصادي واجتماعي مع مسؤولين سياسيين وبرلمانيين تونسيين. ودعا رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي إلى إجراء حوار، قائلًا إن “هناك دعوة للحوار من أكثر من جهة (في البرلمان والرئاسة وغيرهما) ونحن أنفسنا دعونا لهذا، لأن البلاد تحتاج إلى حوار وطني حول القضايا الكبرى”.
وتبرز هذه الدعوات -التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ حتى الآن ومازال التفاعل الرسمي والشعبي معها غير واضح- حجم الانقسام السياسي الذي تعيشه الدولة التونسية بين مكونات السلطة الثلاث (الرئاسة – الحكومة – البرلمان) فضلًا عن الانقسام والصراع الحاد بين مكونات القوى السياسية المختلفة داخل البرلمان، وهو ما يشير إلى عمق الهوة في تونس بين ما هو سياسي وما هو شعبي، ففي الوقت الذي يبحث فيه التونسيون عن الخروج من الأزمات الاقتصادية التي يعيشونها، تزايد القوى والكتل السياسية على بعضها البعض وتبحث عن أدوار الزعامة.
مسار معقد
يبدو أن حكومة هشام المشيشي التي شُكّلت في سبتمبر الماضي قد تسير على خطى حكومة إلياس الفخفاخ وينتهي أجلها على وقع الصراعات السياسية. وتعود البلاد إلى مداورة أشكال التنازع السياسي حتى الوصول إلى حكومة جديدة. وهو ما يُنذر بتفجر الأوضاع في الشارع التونسي أكثر، في ظل تنامي الاحتجاجات الشعبية في المناطق المختلفة، والتي تتخذ طابعًا جديدًا يميل إلى العنف قد يفضي إلى تدهور أمني.
وبينما لا يزال موقف الرئيس التونسي مبهمًا إزاء الوضع الراهن، تتعالى المطالبات له بإعلان حالة الاستثناء وفق الفصل الـ80 من الدستور التونسي الذي ينص على “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويُعلِنُ عن التدابير في بيان إلى الشعب”. أو الإقدام على حل البرلمان.
وهي مسارات دستورية تبدو معقدة من الصعوبة بمكان أن يُقدم عليها الرئيس التونسي، ولذا يبقى أمل التونسيين في تغيير بنية النظام السياسي الذي نص عليه الدستور التونسي والذي خلق جمودًا سياسيًا بسبب اختراق الصراع السياسي لعمل المؤسسات وتوقف عملية الإصلاح العميقة لسياسات الدولة وهياكلها.
باحث أول بالمرصد المصري