
وريث سليماني وزياراته السرية.. بين الرد على إسرائيل وتبريد الجبهات
زيارة “سرية” أخيرة لإسماعيل قاآني قائد فيق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني إلى بغداد أشارت إلى أن طهران تسعى إلى نفوذ فوق نفوذها الحالي في العراق خصوصًا في ظل وجود عدد من المتغيرات التي جدت، أولها خلو مكان الولايات المتحدة هناك وثانيها رفع حظر الأسلحة عن إيران في أكتوبر الماضي وانعكاسات ذلك على العلاقات العسكرية بين البلدين.
جاء تعيين إسماعيل قاآني خليفة لقاسم سليماني الذي قتل في غارة جوية أمريكية بعد ساعات فقط من حادثة الاغتيال، ولما كان ” قاآني” شخصية غير معروفة رغم أنه كان نائبًا لقاسم سليماني فإن تسليط الضوء على اختصاصاته وأنشطته ريما يعطي لنا صورة معقولة عما يمكن أن يشكل جوهر توجهاته في الفترة القادمة.
واللافت للنظر أنه وعلى العكس من سير معظم من يتصدرون مشهد الجمهورية الإسلامية الآن فإنه لا يعرف لقاآني دور واضح أو بارز في الثورة الإسلامية في عام 1979، بل أنه وباعترافه هو شخصيًا لم ينضم لصفوف الثوار وإنما انخرط بدلًا من ذلك في الفرع المحلي للحرس الثوري في مسقط رأسه. وحسب السجلات فقد تم إرسال قاآني بعد ذلك إلى طهران ليخضع لتدريبات عسكرية في الثكنات التابعة للحرس الثوري الإيراني وعقب انتهاء التدريب عاد إلى مسقط رأسه حيث وضع أساس الوحدة التي سميت لاحقًا ” النصر-5″.
وفي إطار العلاقات بين قاآني وسليماني فإنه وفقًا لصحيفة “رمز عبور ” فإنها ترجع لعام 1982، وهو ما أكده قائد فيلق القدس الحالي في مقابلة أجريت معه في عام 2015، وخلال عمليات عسكرية قامت بها فرقة النصر-5 والتي كان إسماعيل قاآني على رأسها تعرف على قاسم سليماني الذي لقي حتفه مطلع العام الحالي.
أما دوره داخل الحرس الثوري الإيراني فإنه فور انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية حصل على ترقية ووصل لمنصب نائب قائد القوات البرية في الحرس الثوري الإيراني وهو منصب مرموق وذو أهمية، كما أنه ساهم في توطيد علاقاته مع قاسم سليماني. وبالطبع كانت هذه هي الخطوة التي جعلته يشارك في عمليات مكافحة المخدرات التي تتسلل عبر أفغانستان إلى ولاية خراسان، كما أهله بعد ذلك للمشاركة في دعم التحالف الشمالي الأفغاني ضد حركة طالبان في التسعينيات.
إسماعيل قاآني وفيلق القدس.. بداية الخيط
بالانتقال إلى بداية الخيط الذي يربط قاآني بفيلق القدس فإنه يعود إلى عام 1993 وهو ما جاء في كتاب ” التطرف الإسلامي: التهديد العالمي الجديد” حيث عرفه الكتاب كقائد جماعة أنصار التي تأتي تحت لواء فيلق القدس المندرج تحت الحرس الثوري الإيراني، وهو الفيلق الذي كان مسؤولًا عن أنشطة الحرس الثوري في إيران وأفغانستان وباكستان والجمهوريات الآسيوية، ولذلك فإنه ليس مفاجئًا الاهتمام الإيراني الجاد والحذر بملء الفراغ الأمريكي في أفغانستان عقب الانسحاب.
وهو ما يفسر أيضًا وفق دراسة تم نشرها في عام 2012 وجوده الدائم باعتباره الرجل الثاني داخل الحرس الثوري في الأقسام الشرقية من إيران وتحديدًا في قم، وذلك لأنه يلتقي قادة الميليشيات الشيعية الأفغانية لتدريبهم وتلقينهم في قم. كما يشير كتاب التطرف الإسلامي الذي تمت الإشارة إليه مسبقًا إلى أن إسماعيل قاآني من الممكن أن يكون قد تولى مهام للحرس الثوري في مناطق أخرى في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وذلك عندما كان الرئيس الأسبق أحمدي نجاد في زيارة إلى البرازيل التي تصنف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية. وعلى الرغم من ذلك فقد كان إسماعيل قاآني ضمن الوفد المرافق لنجاد.
وقد وصل نفوذ إسماعيل قاآني داخل الحرس الثوري إلى الحد الذي أشارت فيه مصادر إلى أنه تقاسم المهام داخل المنظمة مع قاسم سليماني بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 وربما قبل ذلك بكثير.
ولذلك فكونه الرجل الذي كان شديد الصلة بسليماني متقاسمًا معه النفوذ والمهام فإن الأعمال والمهام والتوجهات التي يعمل بها فيلق القدس من المتوقع أن تشهد استمرارية أكثر مما تشهد تغيير لأن الرجلين كانا على وفاق في كل الأحوال وربما ستكون التغييرات في الفترة القادمة مقتصرة على مجاراة التغيرات على الساحتين الإقليمية والدولية وهي البراجماتية التي تعرف بها السياسة الإيرانية في الأغلب الأعم وذلك في مقابل الحفاظ على المبادئ والمهام الأساسية للفيلق.
فعلى سبيل المثال كان التوجه الأساسي للفيلق في السنوات القليلة الماضية إعادة تنظيم أعماله بالخارج بطريقة ربما تكون قد قلصت من خسائره. وإن كانت الخسائر التي مني بها الفيلق تحديدًا في سوريا عديدة إلى الدرجة التي تم معها إرسال إمدادات من الأفراد من الفرع الأم للحرس الثوري في طهران لإكمال المهمة في سوريا.
وفي إطار آخر فإن أكبر تغيير يمكن أن يشهده الوضع هي البيروقراطية التي من المتوقع أن يتعامل بها إسماعيل قاآني مع منصبه الحالي؛ فهو لا يسعى لأن يكون قائدًا علنيًا كثير الظهور وإنما يسعى للإدارة من خلف الستار.
مستقبل الحرس في العراق
شهد نوفمبر الماضي زيارات متبادلة بين الجانبين الإيراني والعراقي، ففي 24 من الشهر الماضي قام وفد دفاعي عراقي بزيارة إلى طهران فيما وصف بأنه تعميق للتعاون العسكري والأمني بين البلدين. ولم يمض أكثر من ثلاثة أيام حتى قام قائد فيلق القدس بزيارة وصفت بالسرية لبغداد وهو ما أفادت به بعض التقارير .
وما يلفت النظر للزيارتين هو خصوصية التوقيت ودلالاته، فسواء الزيارة العراقية العلنية لطهران أو الزيارة الإيرانية السرية لبغداد جاءتا بعد انقضاء مدة الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على طهران فيما يتعلق بالسلاح، وهو الحظر الذي انتهى في أكتوبر الماضي، ويشير ذلك إلى أن طهران تريد أن تستغل هذه الفترة- وربما قبل أن يفرض حظر جديد أو تؤول الأمور إلى ما هو أسوأ- لبيع إنتاجها من الأسلحة للعراق الذي تجد فيه سوقًا جيدة للسلاح على المستويين الرسمي وغير الرسمي.
ولكن من المرجح أن تستمر الولايات المتحدة في عرقلة إتمام مثل هذه الصفقات خصوصًا أن معظم الحكومات التي تتعامل معها إيران تخضع لعقوبات وفقًا لقرارات مجلس الأمن.
وأثناء زيارة الوفد العراقي لطهران قام بجولة شاملة للمرور على المصانع والوحدات العسكرية هناك، حيث تم الاطلاع على الطائرات المسلحة بدون طيار وأنظمة الصواريخ بعيدة المدى. وقد أكد رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري حرص طهران على تعميق العلاقات العسكرية الثنائية بين البلدين، مضيفًا أن البلدين يضعان اللمسات الأخيرة على اتفاقات جديدة في مجالي الأمن والدفاع وهذا على المستوى الرسمي ولكن لا ينبغي نسيان العلاقات الوثيقة على الجانب غير الرسمي مع قوات الحشد الشعبي وغيرها من الميليشيات المسلحة في العراق.
وعلى مستوى آخر فإن العراق قد بدأ بالفعل إرسال طلابه من العسكريين إلى الأكاديميات البحرية في إيران بدءًا من 15 نوفمبر الماضي. وفي يوليو الماضي كان هناك طلب صريح من الجانب الإيراني للجانب العراقي تضمن دمج البنية التحتية لشبكة الدفاع الجوي العراقية مع نظيرتها الإيرانية، وفي حين أن الرد العراقي جاء يقظًا حتى الآن إلا أنه لا يستبعد أن يكون هناك مستوى عالٍ من التعاون بين البلدين في هذا المجال.
وإجمالًا لنوعية العلاقات العسكرية بين العراق وطهران فإنها تأتي في إطار تعزيز العلاقات الرسمية بعد فترة طويلة من التعاون غير الرسمي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. كما أن طهران تهدف في نهاية المطاف إلى استبدال النفوذ العسكري للولايات المتحدة في العراق إما مباشرة وإما من خلال ميليشياتها في الوقت الذي لا يبدو فيه العراق وقد اختار موقفًا رافضًا أو قويًا من النفوذ الإيراني المتنامي، ذلك أنه يريد على الأقل ضمان التعاون العسكري والأمني والاستخباراتي مع الجانب الإيراني وإن كان على المدى غير البعيد.
ووفقًا لدور إسماعيل قاآني الذي اضطلع به داخل الحرس الثوري الإيراني قبل اغتيال قاسم سليماني فإنه من المرجح أن يستمر نفوذ الحرس وتوجهاته كما هي في دول مثل سوريا والعراق، أما بالنسبة لأفغانستان فإنها ستشهد مزيدًا من التوغل والنفوذ للحرس الثوري الإيراني لأن إسماعيل قاآني الذي أدار فرع الحرس هناك لفترة طويلة وأشرف على تدريب أئمة الشيعة في مدينة قم الإيرانية من الطبيعي أن يستثمر خبرته هناك خصوصًا بعد الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأمريكي وفقًا للاتفاق الموقع بينها وبين طالبان كما أنه خلال الحرب العراقية –الإيرانية أشرف على وحدتين من الأفغان من الذين قاتلوا نيابة عن إيران. وفي الفترة الأخيرة أشرف على لواء فاطميون الأفغاني والذين قاموا بالقتال في سوريا دفاعًا عن نظام الأسد.
مستقبل الحرس الثوري في سوريا
على صعيد عمليات الحرس الثوري في سوريا فإن إسماعيل قاآني ونائبه محمد حجازي هما الفاعلين الأساسيين لطهران في سوريا وذلك بالتنسيق مع حزب الله الذي يضطلع بالدور الرئيسي في تدريب الميليشيات التابعة لإيران في سوريا.
كما أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية عن لقاء جمع بين إسماعيل قاآني وبشار الأسد بعد غارات جوية إسرائيلية على ثمانية مواقع عسكرية جنوب دمشق. وحسب البي بي سي فإن هذه المواقع تابعة للحرس الثوري ومنها ما يستخدم لاستقبال قيادات إيرانية رفيعة المستوى.
ومن سوريا إلى حزب الله تستمر الرحلات والزيارات السرية التي يتضح أنها منهج للحرس الثوري الإيراني وأسلوب متبع ومفضل بالنسبة لإسماعيل قاآني الذي لا يفضل الظهور العلني على العكس من سلفه.
وفي هذا الإطار أشارت صحيفة لبنانية إلى قيام قائد فيلق القدس بزيارة سرية إلى لبنان حمل خلالها رسائل بدت عاجلة إلى حسن نصر الله، وما أكدته صحيفة ” لوريون لوجور” وهي صحيفة لبنانية تصدر بالفرنسية أنه من ضمن الرسائل التي حملها قاآني إلى حسن نصر الله هو عدم محاولة استفزاز إسرائيل بأي شكل من الأشكال.
وقد أراد قائد ميليشيا فيلق القدس إيصال هذا المعنى لجميع وكلاء إيران في المنطقة؛ رغبة في عدم إغضاب الإدارة الأمريكية الجديدة التي ستكون على اختلاف ممارساتها مساندة للوجود الإسرائيلي وهو ما يفسر أمر الزيارات السرية التي قام بها قاآني إلى عدد من العواصم الشرق أوسطية مؤخرًا.
علاقات خاصة بأفغانستان
ومن العواصم العربية إلى كابول التي تشير الأمور إلى أنها ستتصدر أجندة الحرس الثوري الإيراني بسبب خلفيات قائد الفيلق الحالي، إضافة إلى الانسحاب الأمريكي الوشيك من هناك الذي سيخلف فراغًا كبيرًا تطمح إيران داعمًا إلى ملئه.
وعلاقات قاآني بشيعة أفغانستان وثيقة وتسبق كونه قائدًا لميليشيا فيلق القدس بكثير وهو ما كشف عنه صحفي أفغاني يدعى هارون نجفي زادة عندما نشر صورة لقائد فيلق القدس برفقة حاكم ولاية باميان الأفغانية في يوليو 2018. حيث تم تعريف قاآني باسم “السيد إسماعيلي نائب السفير الإيراني لدى كابول” وذلك بحسب الصفحة الرسمية لمكتب حاكم ولاية باميان على موقع فيس بوك .وتقع ولاية باميان وسط أفغانستان ومعظم سكانها ينتسبون إلى مذهب الاثني عشرية وقومية الهزارة والتي تحظى بدعم كبير من إيران في المجالات التعليمية والصحية كونهم من الأقليات التي تعيش في أفغانستان.
إذًا، على الرغم من تضارب التفسيرات حول الزيارات السرية التي قام بها إسماعيل قاآني لعدد من الوكلاء في المنطقة والتي تراوحت بين الرغبة في توجيه رد لإسرائيل حول اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة عن طريق الأراضي السورية أو اللبنانية أو العراقية فإن أغلب الاتجاهات تذهب إلى أن إيران لو شاءت الرد لجاء سريعًا ربما بعد ساعات من اغتيال عالمها النووي؛ لأن الأمر ليس بحاجة لزيارة من قائد فيلق القدس لتلك العواصم للترتيب للرد خصوصًا أن ميليشيات طهران “منتشرة-جاهزة ومدربة” والأكثر ترجيحًا أن إيران تستبق وصول الإدارة الأمريكية الجديدة للبيت الأبيض وتريد تبريد عدد من الجبهات مع إسرائيل في أيام ترامب الأخيرة حتى لا تفسد فرص التفاوض على ملفها النووي.
باحث أول بالمرصد المصري