
إيران “التي لا يحكمها مذهب” وعلاقاتها الوثيقة بالقاعدة وطالبان
تستعد الجمهورية الإسلامية في إيران للانقضاض على مناطق النفوذ في أفغانستان فور انسحاب القوات الأمريكية، فطهران تعد إحدى القوى الإقليمية الفاعلة في الملف الأفغاني حيث تتشارك النفوذ مع روسيا والهند وباكستان بالطبع.
وفي الوقت الذي تسعى فيه طهران لتوسيع نفوذها في أفغانستان مستغلة الفراغ الذي سيخلفه الرحيل الأمريكي فإنها لا ترى في الانسحاب الكامل فائدة مطلقة لها، لأن الجمهورية الإسلامية تعي أن الحكومة في أفغانستان غي قادرة أو مجهزة لإدارة كل شؤونها بنفسها، كما أن النظام الحاكم في إيران لا يريد فرض سيطرته الكاملة على أفغانستان لأنه يعي أنه غير قادر على ذلك أيضًا، وإنما يهدف إلى تأمين حدوده الغربية ومصالحه الاقتصادية.
خصوصًا أن أفغانستان وفضلًا عن أزماتها المتعلقة بكونها ملاذًا وملجأ لإرهاب القاعدة لا تتمتع باستقرار أو وحدة اجتماعية بسبب تعدد الأعراق والديانات، ولذلك فإن سد الفجوة بين الجماعات الأفغانية المتناحرة سيشكل تحديًا بالنسبة للحكومة الأفغانية الحالية وأية حكومة مقبلة، ولا شك أن انسحاب القوات الأمريكية سيخلف فجوة أمنية كبيرة تصبح معها السلطات الحاكمة غير قادرة على ضبط الأمور. وتكفي الإشارة هنا إلى أن التعددية العرقية في أفغانستان تنعكس على تركيبة الجيش الوطني الذي يشبه الفسيفساء العرقية.
ومن جانب آخر فإن القوى الإقليمية الفاعلة في أفغانستان تمتلك تفضيلات عرقية ومذهبية في الداخل الأفغاني بمعنى أن طهران على سبيل المثال تميل للطاجيك والهزارة على عكس باكستان التي تتخذ صف البشتون، مما يعني أن تدخل هذه الدول بشكل أكثر توسعًا بعد الانسحاب الأمريكي سيزيد من التوترات العرقية والاجتماعية.
براجماتية طهران
في منحى آخر فإن إيران وطوال فترة وجود القوات الأمريكية في أفغانستان عملت مع القوات الموالية لواشنطن والقوات التي تقف في وجه الوجود الأمريكي، رغم أنها تتشارك مع الولايات المتحدة في أهداف رئيسة في أفغانستان وهي وجود حكومة قوية هناك وتقويض نفوذ طالبان لأنها في النهاية لا تريد توترات على حدودها.
إلا أن هذا التوافق في الأهداف الرئيسية لم يشفع لواشنطن ذلك أن طهران كانت طوال الوقت متخوفة من إمكانية توجيه ضربة لها على خلفية برنامجها النووي ولذلك عملت على إضعاف نفوذ الولايات المتحدة وإثارة التوترات في أماكن وجودها لتحافظ على قدر معقول من الحماية لنفسها.
كما أن طهران ستكون قلقة من تنامي نفوذ طالبان بعد الانسحاب الأمريكي ولذلك فسوف تعمل على دعم الجماعات المناهضة لطالبان في الداخل الأفغاني بل أنها ربما تقوم بإعادة إحياء تحالفها القديم مع روسيا والهند والذي يرى مراقبون أنه قد يشعل حربًا أهلية داخل أفغانستان.
وتتمسك طهران بمعادلة لا تحيد عنها فيما يتعلق بأفغانستان فهي تريد حكومة قوية في أفغانستان تريحها من خطر التوترات على حدودها ولكن ليس إلى الحد الذي يجعل من أفغانستان دولة قوية. وفي نفس الوقت فهي لا تريد ترك الساحة خالية في وقت من الأوقات حتى لا يتفوق النفوذ الباكستاني في كابول على النفوذ الإيراني. فلا هي بالقريب الملام ولا البعيد المنسي من المعادلة.
العامل المذهبي
على جانب آخر تربط طهران وكابول علاقات ثقافية ودينية، فعلى الرغم من أن المكون السني يسيطر على الشعب الأفغاني فإن هناك حوالي 20% من الأفغان ينتمون للمكون الشيعي والذي تهيمن عليه قبائل الهزارة. حتى أن المكون الشيعي في أفغانستان يمتلك 55 مقعدًا في البرلمان ولا خلاف على أن لديهم علاقات وثيقة بطهران.
ولكن البراجماتية التي تميز السياسة الإيرانية تجعلنا نفهم الأمور في سياقها، فالعلاقات بين طهران وكابول لم تكن يومًا رهنًا على المكون المذهبي لأن الجمهورية الإسلامية تتعامل مع الجميع في أفغانستان بما فيها المكون السني التابع للقاعدة فلا فرق لديها بين مذاهب أو أيديولوجيات حينما تحكم المصالح. فالمحصلة على طول الخط أن العامل الطائفي ليس نقطة حسم سياسية في حسابات الجمهورية الإسلامية.
من ناحية أخرى لا تستطيع إيران أن تخفي سعادتها بالانسحاب الجزئي أو الكلي للقوات الأمريكية من أفغانستان لأنها كانت دائمًا متخوفة ومعارضة لهذا الوجود المهدد؛ فقد رأت أن الولايات المتحدة يمكن أن تستخدم قواتها العسكرية الموجودة في أفغانستان لضرب منشآتها النووية، كما أن طهران تؤكد أن الطائرة الأمريكية بدون طيار التي تحطمت على أراضيها في عام 2011 دخلت إلى مجالها الجوي عبر الأراضي الأفغانية.
المساعدات العسكرية الإيرانية
قدمت طهران مساعدات عسكرية إلى متمردي حركة طالبان ليس اقتناعًا بهم بقدر ما هو رغبة في تقويض النفوذ الأمريكي. وقد شملت المساعدات أسلحة خفيفة وبنادق آر بي جي بل أنها قامت بتدريب قوات منهم على أراضيها. وهي تهدف لإيصال رسالة إلى واشنطن مفادها أنها قادرة على توجيه دفة الأمور والضغط على القوات الأمريكية عن طريق قوات طالبان حال نشوب نزاع عسكري بين الولايات المتحدة وبينها.
ولكن هذا الدعم لم يتساو مع الدعم الذي قدمته طهران للمتمردين الشيعة في العراق والذين أسقطوا الآلاف من الضحايا في صفوف القوات الأمريكية، كما أن التنسيق الاستخباراتي والأمني بين إيران والجماعات المتمردة في أفغانستان لا يسير على قدم المساواة مع نوعية التنسيق الاستخباراتي والأمني الحاصل مع حزب الله اللبناني.
ويعزى ذلك إلى سبب واضح ومباشر وهو أن أفغانستان تسيطر عليها الحركات الأصولية السنية التي تقف على الطرف الآخر من المذهب المسيطر في إيران ولكن كما سبقت الإشارة فإن العامل المذهبي ليس محددًا للسياسة الإيرانية وإن كان يؤثر في درجة الدعم، ولكنه لا يقرر وجود الدعم من عدمه فهي تدعم المكون السني والمكون الشيعي كل بما يحقق مصالحها.
تحديات أفغانية
تحتفظ طهران لنفسها بقاعدة وعلاقات قوية في أفغانستان سواء مع الحكومة المركزية أو حركة طلبان أو حتى الميليشيات وأمراء الحرب، ولكن على الرغم من ذلك فإنه من التعقل ألا نفهم ذلك على أنه نفوذ مطلق لإيران في أفغانستان لأنه من النخبة السياسية الأفغانية نفسها من ينظر بعين الريبة لتنامي النفوذ الإيراني في أفغانستان، خصوصًا أنهم يرون أن إيران تستهدف من وراء دعمها للأطراف المختلفة داخل أفغانستان الضغط على الحكومة الأفغانية لترضخ لسياسات تؤمن مصالحها خاصة فيما يتعلق بقضية تدفق المياه.
وعلى أي حال فإن وضع إيران في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي سيتأثر كثيرًا بالسياسات التي ستتخذها دول أخرى على رأسها باكستان وتليها في الأهمية الهند وروسيا. وبمعنى آخر فإن الاستراتيجية التي سوف تتبعها إسلام آباد في أفغانستان بعد انسحاب قوات المساعدة الأمنية ” إيساف” ستكون محددًا للطريقة التي ستتصرف بها كل من إيران والهند وروسيا هناك لأن باكستان هي الدولة الأكثر نفوذًا في أفغانستان.
ولذلك فإن باقي الدول الفاعلة في أفغانستان ومن ضمنها إيران ستعمل على تقويض النفوذ الباكستاني داخل إيران، وإذا اتجهت الأوضاع الأمنية هناك إلى الأسوأ فإن العلاقات بين هذه البلدان وعلى رأسها إيران وباكستان ستتجه للأسوأ أيضًا، وسيعمل كل طرف على دعم الميليشيات الموالية له. بينما إذا اتجهت الأمور بعد الانسحاب الأمريكي إلى الاستقرار فإن الطابع الودي سيغلب على العلاقات بين طهران وإسلام آباد لأن الأخيرة على أقل تقدير تريد الاستفادة من مصادر الطاقة الإيرانية وتعويض النقص الذي تعانيه.
استراتيجية أمريكا في كابول
من ناحيتها، فإن استراتيجية الولايات المتحدة في أفغانستان تعتمد على تأمين جبهتها هناك والفصل بين طالبان والقاعدة وذلك كشرط ضامن وحاكم قبل الانتقال إلى المراحل النهائية من اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، وفي سياق آخر فإن هناك حرصًا من بعض القوى التي لا تريد تغيرًا في سياسات بايدن تجاه إيران للتسويق لطهران باعتبارها حاضنة للقاعدة ومأوى لكبار قادته.
وهو الإطار الذي نفذت فيه الاستخبارات الإسرائيلية عملية اغتيال عبد الله أحمد عبد الله المعروف بأبي محمد المصري في أحد شوارع طهران الرئيسية تنفيذًا للأجندة الأمريكية التي تستهدف قيادات القاعدة لتقليص الفرص الإيرانية في لعب أدوار محورية في أفغانستان.
أبو محمد المصري “الرجل الثاني في القاعدة”
ولكي تمسك إيران بورقة طالبان بإحكام خصوصًا بعد أن وقّعت الأخيرة اتفاق سلام مع الولايات المتحدة يبدو في غير طريقه للتنفيذ قامت بعقد تحالف موازٍ قوامه من قيادات قاعدية غير معروفة وقيادات منشقة عن طالبان تحت مسمى “حزب الولاية الإسلامي”، ويقوده حجي نجيب الله الموالي للتيار المتشدد في طالبان.
ولذلك فإن طهران قد تسعى حتى لإفشال اتفاق السلام في أكثر السيناريوهات تشاؤمًا وقلة في نسب الترجيح، والقاعدة -التي ترى نفسها شريكًا في النصر الذي توصلت له طالبان بالتوقيع على اتفاق سلام مع الولايات المتحدة حتى أن الظواهري كان قد بارك الاتفاق- لن تقبل بأي حال أن تتنازل عن تقاسم السلطة مع طالبان مما يعني ضرب الهدف الأهم للاتفاق الأفغاني- الأمريكي في مقتل.
جزء من بيان تنظيم القاعدة المبارك لاتفاق السلام الأمريكي-الأفغاني
ونخلص من كل ما تقدم إلى أن الهدف الذي يجمع بين إيران وطالبان والقاعدة داخل أفغانستان هو هدف واحد ومتفق عليه، فالثلاثة لا يريدون أن يبرهنوا الآن للولايات المتحدة على أنهم قادرون على ضرب مصالحها بقدر رغبتهم في تأكيد مبدأ المهادنة لواشنطن، وتأكيد تجنيب الولايات المتحدة وقواتها المتمركزة في أفغانستان أية خسائر حتى ضمان الانسحاب الكامل، وهو الوقت الذي تتفرغ فيه الأطراف ذات النفوذ الأكبر فيما بعد لإعادة رسم الخريطة الأفغانية بناء على المعطيات الجديدة.
وبالطبع فإن وحدة الجهاد العالمي برعاية طالبان والقاعدة يصب في مصلحة إيران لأنها تحرص على الحفاظ على نفوذها في أفغانستان طوال الوقت، وبدلًا من أن تتعاون مع كل من التنظيم والحركة على حدة فإن وحدة جهودهم لإخراج القوات الأمريكية توفر لها تحالفات أعمق مما هو ظاهر على السطح.
باحث أول بالمرصد المصري