شرق المتوسط

كيف يمكن أن يتم نزع فتيل الصراع شرق المتوسط؟

كتب: محمود قاسم

على الرغم من تراجع حدة المواجهة في منطقة شرق المتوسط بعدما وصلت في الفترات الأخيرة إلى حافة الهاوية في ظل التصعيد بين تركيا واليونان، إلا أن عددًا من التحديات لا يزال يلوح في الأفق، وهو ما تطرقت إليه مجموعة الأزمات الدولية من خلال تقدير موقف (22 سبتمبر) لبحث سبل وآليات نزع فتيل التوتر في المنطقة، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه فيما يلي:

ديناميات متسارعة

أوضح التقدير أن النزاع بين تركيا واليونان حول الحقوق البحرية كان قد وصل لمستوى غير مسبوق في أغسطس الماضي، حيث تجنب البلدان بصعوبة الدخول في مواجهة بحرية، على خلفية مواصلة أنقرة للتنقيب عن الغاز في المناطق المتنازع عليها بالقرب من الجزر اليونانية، خاصة في أعقاب التصادم البحري بين فرقاطة يونانية وأخرى تركية، ما أدى إلى قيام فرنسا بنشر سفن حربية لإجراء تدريبات مشتركة مع البحرية اليونانية، علاوة على نشر مقاتلات من طراز رافال في جزيرة كريت، كما أرسلت الإمارات أربع طائرات إف-16 إلى ذات المنطقة. وعلى الرغم من ذلك نجحت بعض الجهود في خفض التصعيد، ما أسفر عن سحب تركيا سفينتها البحرية وعودتها إلى ميناء أنطاكيا، في الوقت نفسه يلتقي المسؤولون العسكريون من الجانبين في مقر الناتو لتهدئة الأوضاع، ومحاولة خلق حالة من التوافق لاستئناف المحادثات بين الطرفين، والتي قد توقفت عام 2016 بشأن ترسيم الحدود البحرية.

وسط هذه التحولات تتحرك اليونان بجانب فرنسا وقبرص لدفع الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على تركيا، وقد أوضح التقدير أن الإجراءات العقابية قد تؤدي إلى نتائج عكسية، ما قد يجعل تركيا تتصرف بشكل أكثر عدوانية، وعليه فقد رأت “مجموعة الأزمات الدولية” ضرورة الابتعاد عن استخدام العصا تجاه تركيا، والعمل على تقديم الحوافز التي من شأنها أن تمهد الطريق لعودة الطرفين إلى طاولة المفاوضات، كما ألمح إلى ضرورة استمرار الاتصالات القائمة بين الطرفين من خلال الناتو، والامتناع عن التدريبات العسكرية وتجنب الخطاب التحريضي بين الجابين.

عوامل الاشتعال

أكد التقدير وجود ثلاثة عوامل ساهمت في تأجيج وإشعال الموقف شرق المتوسط، حيث يرتبط العامل الأول، بالخلافات بين تركيا واليونان حول قبرص والحدود البحرية لتركيا مع الجرز اليونانية المتناثرة قبالة سواحل بحر إيجة، بالإضافة إلى الأزمة المتجذرة على خلفية غزو قبرص 1974، ومنذ ذلك الوقت تعمل تركيا واليونان على استعراض القوة لتأكيد السيادة على المناطق البحرية والمجال الجوي، وعلى الرغم من بدء محادثات ومفاوضات بين الطرفين منذ عام 2002 تضمنت 60 جولة مشتركة لحل النزاعات والملفات العالقة إلا أن هذه المحادثات قد توقفت عام 2016.

 فيما ينصرف العامل الثاني إلى اكتشافات الغاز قبالة قبرص خاصة في أعقاب 2011، ومن هنا بدأ النزاع يأخذ شكلًا جديدًا؛ ففي الوقت الذي وجدت قبرص في هذه الاكتشافات فرصة مناسبة لتعزيز اقتصادها وتأمين مصادر الطاقة، عملت أنقرة على تحقيق حلم التحول لمركز لنقل الطاقة لأوروبا، وعليه فقد بدأت بإرسال سفن للحفر في المياه المتنازع عليها شمال شرق وغرب قبرص وكذلك جنوب كاستيلوريزو، ورغم عودة السفينة التركية إلى ميناء انطاكيا إلا أن هناك مجموعة أخرى من السفن لا تزال تواصل إعمالها في المنطقة.

من ناحية أخرى، ساهمت سياسة تركيا في الشرق الأوسط في جذب عدد من القوى الأخرى إلى تلك المنطقة، خاصة في أعقاب أحداث 2011، بعدما وسعت أنقرة نشاطها في عدد من الدول من خلال دعمها للإخوان المسلمين، والتي تسببت في قطع علاقاتها الدبلوماسية مع مصر عام 2013، كما أثارت علاقة تركيا بالإخوان غضب الإمارات العربية المتحدة. ولم تكتفِ أنقرة بهذا الحد بل قامت في نوفمبر 2019 بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة السراج والتي تتألف من شخصيات ترتبط بالإخوان، فضلًا عن إرسالها مستشارين عسكريين لمساعدة حكومة الوفاق، الأمر الذي أسفر عن توقيع اليونان ومصر لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية فيما يبينهما.

وفي الوقت الذي تقف فيه إسرائيل بجانب اليونان تحاول إيطاليا تحقيق التوازن بين دعم حلفائها في الاتحاد الأوروبي – قبرص واليونان- إلى جانب الحفاظ على علاقاتها مع مصر، خاصة وأن شركة ” إيني” الإيطالية صاحبة أكبر استثمارات في المناطق الاقتصادية الخالصة لمصر. رغم ذلك يشير التقدير إلى أن موقف إيطاليا يقترب بشدة مع تركيا في الأزمة الليبية، وقد ساهمت التطورات في دخول فرنسا كطرف أساسي في المعادلة، خاصة في أعقاب تحرش السفينة التركية بالفرقاطة الفرنسية (يونيو2020)، ما ساهم في رفع منسوب التوتر بين البلدين؛ إذ تسعى فرنسا إلى الحفاظ على مصالحها في المنطقة ممثلة في شركاتها العاملة في مجال الطاقة، ومن هنا طلبت باريس الانضمام لمنتدى غاز شرق المتوسط.

من يمكنه أن يفعل ماذا؟

وحول البحث عن الوساطة أو الأدوار التي يمكن أن يقودها عدد من الفواعل وأصحاب المصالح، فقد أوضح التقدير أن التصعيد بين تركيا واليونان هذه المرة يتم بصورة تبدو فيها الولايات المتحدة الأمريكية أقل حيادًا مقارنة بجهودها في تهدئة الأوضاع بين الطرفين عام 1996 حول النزاع بين الطرفين حول جزيرة كارداك، فعندما تمكنت القوات التركية من القيام بعملية إنزال والسيطرة على الجزيرة ورفع العلم التركي عليها، تدخلت واشنطن “آنذاك” لتهدئة الأوضاع ما دفع تركيا لسحب قواتها من الجزيرة. على خلاف هذا الموقف تُظهر واشنطن ميلًا لليونان وقبرص على حساب تركيا ما اتضح خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” إلى قبرص (12 سبتمبر)، وقيام الرئيس الأمريكي برفع حظر بيع السلاح عن قبرص بعد ثلاثة عقود.

من ناحية أخرى، لفت التقدير إلى محاولات روسيا للقيام بالوساطة بين الجانبين، حيث عرض وزير الخارجية الروسي إمكانية قيام موسكو بتهدئة التوترات بين البلدين، إلا أن هذه الدعوة لم تجد صدى بعد.

فيما يتعلق بالموقف الأوروبي، لفت التقدير إلى ضرورة لجوء القادة الأوروبيين للحوار مع تركيا بدلًا عن فرض العقوبات، حيث رجح التقدير أنه في حالة فرض عقوبات على الشركات التركية العاملة في مجال التنقيب أو منعها من دخول موانئ الاتحاد الأوروبي، وفرض عقوبات على بعض القطاعات الاقتصادية أو من خلال خفض الأموال المخصصة لتسهيل انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي قد يؤدي ذلك إلى مزيد من التشدد والتصعيد من قبل تركيا. ومن هنا تم التأكيد على ضرورة قيام ألمانيا –باعتبارها الشريك التجاري الأول لتركيا- بالعمل على خفض التصعيد والعودة إلى المحادثات الاستكشافية بين البلدين.

وحول تطبيق العقوبات، تشهد الساحة الأوروبية انقسامًا في هذا الشأن؛ إذ تسعى فرنسا واليونان والنمسا لاتخاذ مواقف أكثر صرامة ضد أنقرة، في حين تشجع كل من ألمانيا وبولندا والمجر والتشيك وسلوفاكيا الحوار، خاصة وأن هذه الدول تشعر بالقلق فيما يرتبط بقيام تركيا بالسماح للمهاجرين بعبور حدودها إلى أوروبا في حالة فرض العقوبات عليها. من ناحية أخرى تقف كل من إيطاليا ومالطا وإسبانيا التي ترتبط مصالحها ارتباطًا وثيقًا بتركيا في ليبيا، مترددة في دعم عقوبات جديدة على تركيا.

من ناحية أخرى، شدد التقدير على ضرورة قيام تركيا واليونان باتخاذ جملة من الخطوات من شأنها أن تدفع نحو الحوار، من بينها: الامتناع عن التدريبات العسكرية، وتجنب الخطابات العدائية، إذ يمكن للنبرة العدائية –خاصة للرئيس التركي- أن تأتي بنتائج عكسية ما قد يدفع الدول الأوروبية لانتهاج مسار العقوبات، علاوة على ذلك لا ينبغي على تركيا أن تبالغ في ردة فعلها إذ ما أقرت الدول الأوروبية إضافة عدد من الأفراد أو الشركات على قائمة العقوبات. كما يجب على الطرفين الالتزام بإجراء المحادثات الفنية في الناتو للوقوف على آلية تمنع نشوب حرب بين البلدين، ورغم أن هذه الخطوة لن تُعالج جوهر الصراع، إلا أنها قد تحول دون الانتقال من نمط الحوادث والمناوشات إلى الصراع المفتوح.

ولفت التقدير إلى الإشارة إلى مبادرة رئيس المجلس الأوروبي “تشارلز ميشيل” حول عقد مؤتمر متعدد الأطراف يستهدف معالجة مجموعة من القضايا الخلافية سواء ما يتعلق بتقاسم عائدات الغاز أو الهجرة وترسيم الحدود البحرية، ورأى عدد من الدبلوماسيين أن مثل هذا الإجراء قد يهدئ من غضب تركيا بعد استبعادها من منتدى غاز شرق المتوسط، في الوقت ذاته رجح البعض أن الخصومات الإقليمية وامتدادها إلى الساحة القبرصية قد تجعل هذا الشكل غير قابل للتطبيق.

وانتهى التقدير إلى أن أي صراع شرق المتوسط سيكون له تكلفه باهظة، حيث سيتم تعطيل الاستثمار في مجالات الطاقة، ويقوض الأمن عبر الأطلسي، كما سيلحق ضررًا بالعلاقات الحيوية بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وعليه فإذا لم يجد الطرفان آلية لإدارة النزاع بينهما فسوف يؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة على الجميع.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى