
دلالات مستقبلية.. قراءة في تكليف مصطفى أديب بتشكيل الحكومة اللبنانية
أفضت المشاورات النيابية التي عُقدت (31 أغسطس) في قصر بعبدا عن اختيار سفير لبنان لدى ألمانيا مصطفى أديب لتشكيل حكومة لبنانية جديدة بعد استقالة الحكومة السابقة برئاسة حسّان دياب (10 أغسطس) على خلفية انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس). يتزامن هذا التكليف مع زيارة بدأها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت، التقى خلالها القادة اللبنانيين والفرقاء السياسيين لبحث خطط الإصلاح السياسي والمالي في لبنان، والدعم الدولي المقدم له. مما يقتضي البحث في دلالات اختيار مصطفى أديب لتشكيل الحكومة اللبنانية، وما يمكن أن تؤول إليه الأمور.
ملاحظات أولية
اختير مصطفى أديب لتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة بأغلبية 90 صوتًا من أصل 120 نائبًا دُعوا من قبل الرئيس اللبناني ميشال عون لحضور الاستشارات النيابية، بعد استقالة 7 نواب على خلفية انفجار مرفأ بيروت. فيما حصل السفير نواف سلام على 16 صوتًا، وحصل كل من الوزيرة السابقة ريّا الحسن والمهندس الفضل شلق على صوت واحد، في حين امتنع 6 نواب عن التصويت.
يثير ذلك التوافق بين معظم الكتل السياسية والنافذين في المشهد السياسي اللبناني على اختيار مصطفى أديب عدة ملاحظات، خاصة وأنه توافق جاء بأكثرية كبيرة مقارنة باختيار حسّان دياب لرئاسة الحكومة السابقة، إذ كان بـ69 صوتًا فقط، في جلسة شهدت تغيب الكثير من النواب، وامتناع الكثيرين عن التصويت.
- الاستجابة للضغوط الدولية
رهنت القوى الدولية وفي مقدمتها فرنسا دعمها للبنان لتجاوز أزمته الاقتصادية التي ازدادت تعقيدًا مع انفجار مرفأ بيروت بإجراء إصلاحات سياسية جذرية في بنية النظام السياسي اللبناني، وأن يكون هذا الإصلاح سريعًا عبر حكومة مستقلة تكون مهمتها الأساسية التفاوض مع صندوق النقد الدولي وتهيئة لبنان للإصلاح الاقتصادي، ومن ثم النظر في إمكانية تقديم مساعدات مالية دولية.
وكانت هذه هي الرسالة التي حملها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته إلى بيروت (6 أغسطس) بعد يومين من حادثة انفجار المرفأ، إذ قال “ننتظر من السلطات اللبنانية أجوبة واضحة حول تعهداتها بالنسبة لدولة القانون والشفافية والحرية والديمقراطية والإصلاحات الضرورية وإعادة تأسيس ميثاق جديد”، واعدًا بزيارة في مطلع سبتمبر “لإجراء تقييم للوضع”. كما أكد ماكرون في تصريح لصحيفة “لو فيجارو” الفرنسية أنه يدرس فرض عقوبات على مسؤولين لبنانيين في حال عرقلوا مسار الإصلاح.
ساهمت هذه الرسائل المباشرة من قِبل المجتمع الدولي في توجه الفرقاء السياسيين اللبنانيين إلى الإسراع في المشاورات للتوافق على اختيار رئيس للحكومة قبيل الزيارة الثانية لماكرون. وبدأت المشاورات بهدف تعبيد الطريق أمام عودة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري لرئاسة الحكومة، إلا أن الحريري قطع الطريق أمام هذه المحاولات بإعلانه عدم ترشحه لرئاسة الحكومة. فانتقلت المشاورات إلى اختيار شخصية أخرى، وتزعّم هذه المشاورات رئيس مجلس النواب نبيه بري ممثلًا لقوى 8 آذار ورئيس الوزراء السابق سعد الحريري ممثلًا لقوى 14 آذار. مع إشارة بعض التقارير إلى إجراء الرئيس الفرنسي اتصالات هاتفية مع الرئيس اللبناني وزعماء القوى اللبنانية قبيل الإعلان عن تكليف مصطفى أديب، وما كان لهذه الاتصالات من تأثير في عملية الاختيار سواء من جهة الإسراع أو من حيث تحديد الشخص المُكلّف.
- إشراك رؤساء الحكومات السابقين
كان ملاحظًا في المشاورات التي سبقت اختيار حسّان دياب لرئاسة الحكومة السابقة والتي سيطر عليها حزب الله بشكل كبير عدم مشاركة رؤساء الحكومات السابقين (تمام سلام – نجيب ميقاتي – فؤاد السنيورة) في هذه المشاورات ورفضهم لها. أما في المشاورات الأخيرة فكان موقف رؤساء الحكومات الأربعة السابقين (سلام – ميقاتي – السنيورة – الحريري) حاسمًا في اختيار مصطفى أديب، إذ كان الأربعة أول من أعلن اختيار أديب لتشكيل الحكومة، بعد مشاورات مع كل القوى.
يمكن تفسير التوافق الذي جمع المتناقضات بموافقة معظم الأطراف القوية والمتحكمة في المشهد على اختيار مصطفى أديب بالنظر إلى تصريح نجيب ميقاتي بأن الحريري هو من اقترح اسم مصطفى أديب لتشكيل الحكومة. مشاركة رؤساء الحكومات السابقين في المشاورات أعطت الاسم المرشح ثقلا فقده سابقه الذي أتى بتوافقات بين قوى 8 آذار فقط.
موافقة هذه القوى الآن على الاسم الذي اختاره الحريري من الممكن أن تكون أحد انعكاسات حكم المحكمة الدولية في اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري والذي أدان سليم عيّاش عضو حزب الله في الجريمة؛ إذ آثر سعد الحريري اتخاذ موقفًا غير صدامي مع حزب الله، مطالبًا إياه بتسليم عيّاش وتقديم التضحيات. وأوضح ذلك رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بتأكيده اختيار مصطفى أديب “استجابة ونزولًا عند خيار القوة الأكثر تمثيلًا”.
ملامح الحكومة الجديدة
يشير مشهد اختيار مصطفى أديب لتشكيل الحكومة اللبنانية وما سبقه إلى عدد من المعطيات التي قد تنبئ بما ستؤول إليه عملية تشكيل الحكومة والتعاطي الدولي معها:
- دعاوى العهد السياسي الجديد
سبق الإعلان عن اختيار مصطفى أديب رئيسًا لوزراء لبنان حديث عن أن لبنان لابد له من الانخراط في عهد سياسي جديد ليصبح دولة مدنية منقطعة الصلة بماضيها القريب الذي كانت الطائفية هي المتحكمة في رسم سياساته. هذا الحديث كان جزءًا كذلك من الوصايا والرسائل التي حملها الرئيس الفرنسي أثناء زيارته الأولى إلى لبنان (6 أغسطس) وأثناء زيارته الثانية (1 سبتمبر) التي جاءت لتقييم ما تم من إجراءات على طريق الإصلاح.
وقبيل زيارة ماكرون دعا الرئيس اللبناني ميشال عون (30 أغسطس) إلى إعلان لبنان دولة مدنية، متعهدًا بالدعوة إلى حوار للتوصل لصيغة مقبولة من الجميع تترجم بالتعديلات الدستورية المناسبة، “فالنظام الطائفي القائم على حقوق الطوائف والمحاصصة بينها كان صالحًا لزمن مضى ولكنه صار اليوم عائقًا أمام أي تطور أو نهوض وإصلاح”، مؤكدًا أن “لبنان يحتاج إلى مفهوم جديد في إدارة شؤونه يقوم على المواطنة ومدنية الدولة”. حديث عون جاء بعد خطاب مشابه للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في ذكرى عاشوراء (29 أغسطس) أعلن فيه تأييده لدعوة الرئيس الفرنسي إلى عقد سياسي جديد “شرط أن يكون برضى كل أطراف الشعب”.
ليست هذه المرة الأولى التي تحمل فيها خطابات عون ونصر الله نفس المضمون وأحيانًا نفس العبارات، ويمكن وصف هذا التوجه من قبل كلا التيارين بأنه مهادنة للضغوط الشعبية والدولية عقب انفجار مرفأ بيروت، وفي الوقت ذاته محاولة تثبيت مواقعهما في المستقبل اللبناني بالاستفادة من الانفتاح الدولي على لبنان بعد فترة من العزلة، وهو ما حاول الطرفان تعزيزه بدءًا من زيارة ماكرون الأولى.
- اتفاق على بقاء النظام
الدعوات إلى عقد سياسي جديد للبنان على أنقاض اتفاق الطائف (1989) لا تعدو كونها أحاديث سياسية وإعلامية تثبت لكل من اللبنانيين والقوى الدولية أنه لا توجد مقاومة للإصلاح، فحزب الله والتيار الوطني الحر استطاعا خلال السنوات العشر الأخيرة تثبيت مواقعهما في بنية النظام السياسي اللبناني، ولذا لن يقبلا التنازل عن هذه المكتسبات التي حققاها. تنضم إليهما الأطراف السياسية الفاعلة في السياسة اللبنانية منذ عقود، مثل تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري وحركة أمل بزعامة نبيه بري.
من هنا قد اتفقت مصالح هذه الأطراف على إعادة تهيئة شكل النظام السياسي مع بقاء جوهره. ويتضح ذلك من الطريقة التي أجريت بها مشاورات اختيار رئيس الوزراء؛ إذ كانت المشاورات والمواءمات بين الكتل السياسية الرئيسية هي أساس الاختيار، واستبعاد كل طرف لأي اسم يلقى رفضًا عند طرف آخر، مع دخول رؤساء الحكومات السابقين كطرف لإعطاء صورة أفضل للمشاورات عما جرى به الأمر في اختيار حسّان دياب.
وقد تمكنت هذه القوى –بعض الشيء- من قلب الضغوط التي كانت تتعرض لها بعد انفجار المرفأ إلى وسائل لدعم مرتكزاتها، وانتزاع اعتراف دولي بها، على الأقل من قِبل ماكرون الذي صرّح خلال زيارته الحالية بأن “حزب الله يمثّل جزءًا من الشعب اللبناني ومن انتخبوه، ولا يمكنني القول إنه يجب تغيير الطبقة السياسية بأسرها. فهناك انتخابات وعلى الشعب أن يقرر ويفرز واقعًا سياسيًا جديدًا إذا أراد ذلك”.
- حكومة تكنوسياسية
المشهد السابق يشير إلى أن مصطفى أديب والطبقة السياسية الحاكمة في لبنان سيراعون عدة اعتبارات في الحكومة الجديدة، أولها اختيار أكبر قدر من الوزراء الذين يمكن وصفهم بـ”المستقلين ذوي الاختصاص”، وثانيها، أنه مثلما تم التوافق بين الكتل السياسية على استبعاد أي اسم قد يلقى اعتراضًا لدى أحدها، فإنها ستتوافق على استبعاد الأسماء التي ستلقى اعتراضًا لدى كل من اللبنانيين والمجتمع الدولي، وبذلك الوصول إلى حكومة “تكنوسياسية” لكسب تأييد المجتمع الدولي، والاستفادة من شخص رئيس الوزراء مصطفى أديب وموقعه السابق كسفير للبنان لدى برلين، وعلاقاته الطيبة مع القوى الدولية.
يتحدد جزء كبير من المستقبل مع الحكومة الجديدة على وضع حزب الله بها، وذلك وفق مسارين، الأول أن تصل المواءمات إلى قرار بابتعاد الحزب عن تشكيل الحكومة، وتسويقها بأنها حكومة تهدف إلى تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي للدولة اللبنانية، ومن ثمّ الحصول على الدعم الدولي والعربي للإصلاح الاقتصادي وإعادة الإعمار في لبنان، والثاني أن يستنسخ الحزب نموذج حكومة حسّان دياب، وحينها سيُضاف إلى الرفض الشعبي للحكومة والذي بدا واضحًا في المظاهرات والاشتباكات التي شهدتها بيروت (1 سبتمبر) موقف دولي مشتت سينتظر نتيجة انتخابات الرئاسة الأمريكية لتظهر ملامحه.
باحث أول بالمرصد المصري