تركيا

مسار تصادمي.. تركيا بين استعادة “الإرث العثماني” ومستقبل “الاندماج الأوروبي”

كتب: حسين عبد الراضي

تتمسك تركيا بإظهار قدرتها على ممارسة دور مؤثر في تحولات الإقليم، وتتراوح مسارات تحركها نحو هذا الدور بين استراتيجيتين متناقضتين، الأولى تركز على التماهي والاندماج مع التحالفات الغربية (أوروبا والولايات المتحدة)، فيما تأتي الثانية ضمن رغبتها في استعادة إرث الدولة العثمانية. ورغم حرص الحكومات التركية المتعاقبة على تسويق أنها جزء من القارة الأوروبية، وسعيها للانخراط في الترتيبات الاقتصادية والأمنية للكتلة الغربية، إلا أنها فشلت في ذلك لأسباب تتعلق بطبيعة السلطات القائمة في تركيا، ونمط إدارة قضايا الحريات والأقليات. ومع تبدد حُلم الرئيس “رجب أردوغان” في الحصول على عضوية كاملة بالاتحاد الأوروبي، اعتمد نظام العدالة والتنمية جُملة من السياسات الرامية لتفعيل استراتيجية إحياء الخلافة الساقطة مجددًا، ما قوض ركائز الأمن الأوروبي وقاد لاضطربات عديدة بالشرق الأوسط. 

ونبحث خلال هذا التقرير في مؤشرات تبني النظام التركي لسياسات مناوئة للكتلة الغربية، التي كانت أنقرة حريصة على الاتساق معها لعقود، كذلك دوافع أنقرة لانتهاج هذا الاتجاه المزعزع للأمن والسلم الإقليمي والدولي، وصولًا لاستشراف المسارات المستقبلية لتلك التحركات وكيف يمكن أن تتعاطى الكتلة الغربية معها.

انفصال متزايد.. تركيا تنشق عن حلفاء الغرب

تتعدد مؤشرات عدم الاتساق التركي مع سياسات واتجاهات المعسكر الغربي، بعد أن كانت أنقرة حريصةً على التقارب معه، والتسويق لكونها سفيرة هذا المعسكر في الإقليم وأكثر دول المنطقة قدرةً على اتباع النسق الغربي ثقافيًا وسياسيًا. كما سعت للانخراط في الكيانات التي تجمع تلك الدول، وسخرت إمكاناتها ووجهت سياساتها لتصبح فاعلًا بارزًا في تحركات تلك الدول، فانضمت إلى حلف شمال الأطلنطي (الناتو) عام 1952، وحاولت على الدوام منذ 1982 وحتى الآن نيل عضوية الاتحاد الأوروبي، بعد حصولها على صفة عضو مشارك بالسوق الأوروبية المشتركة عام 1963. ونستعرض تاليًا أبرز مؤشرات الانفصال التركي عن مسارات التعاطي الغربي: 

  • تقويض الأمن الدولي والإقليمي: تمارس تركيا أنشطة متعددة الاتجاهات ترفع من وتيرة عدم الاستقرار بشكل عام، حيث شرعت في التنقيب عن النفط في المياه القبرصية، ووقعت اتفاقيات أمنية وبحرية مع حكومة الوفاق تنتقص من حقوق اليونان في مياهها الاقتصادية، كما تستمر في نقل العناصر الإرهابية والمرتزقة والسلاح إلى ليبيا لتفرض واقعًا جديدًا يتعارض وجهود حل الأزمة، فضلًا عن محصلة أدوارها فى مناطق الصراع الإقليمي، والتوتر المتسمر مع أطراف متعددة منها الولايات المتحدة وحلف “الناتو” على خلفية اقتنائها منظومة الدفاع الجوي (إس400) الروسية.
  • عسكرة السياسة الخارجية التركية: إذ تتزايد وتيرة الانخراط العسكرى التركى على الساحة الإقليمية فى سوريا والعراق وليبيا بدعاوى مختلفة، منها مواجهة المشروع الكردي الذي تعدُّه خطرًا عليها في سوريا والعراق، أما في ليبيا فتغلف أنقرة تدخلها العسكري لدعم حكومة الوفاق فى غرب ليبيا تحت مظلة المصالح المشتركة. 
  • تغير “هوية” النظام السياسي: اتجهت تركيا لتصعيد ثنائية الدين والدولة، بعد فترة طويلة تبنت فيها علمانية الدولة، وأصبح استثمار الدين لحشد التأييد والدعم الداخلي والخارجي نمطًا حاكمًا لتحركاتها. وعزز ذلك ارتفاع نسبة الأتراك المحافظين ذوي الأصول الأناضولية مقارنةً بأعداد الأتراك الغربيين، والمكاسب التي جنتها أنقرة من دعم بعض النظم الإقليمية والغربية لنموذجها؛ بغرض تعطيل مشروعات إقليمية أخرى تتعارض مع مصالحهم. أضف إلى ذلك العوامل الشخصية المرتبطة بشخص “أردوغان” الحالم بحكم وإخضاع مسلمي العالم تحت قيادته، كسلطان عثماني بغض النظر عن كون سياساته إسلامية أم غير ذلك. 
  • ارتفاع حدة الممارسات السلطوية داخليًا: يمارس النظام التركي عمليات اعتقال ممنهجة ضد المعارضين السياسيين والصحفيين، وكشفت تقارير عن سجن عشرات الآلاف وطرد أعداد أكبر من الموظفين بدعوى الاشتراك في محاولة الانقلاب المزعومة عام 2016، واحتلت تركيا المرتبة الثانية عالميًا للدول المُحتجزة للصحفيين خلال الفترة الأخيرة. وهي خطوات تمثل ارتدادًا عما دوامت على إظهاره من احترام لحقوق الإنسان والرأي والتعبير إبان فترة تفاوضها للانضمام للاتحاد الأوروبي؛ إذ كانت مسارات التفاوض مشروطة بالتزام النظام بكفالة تلك الحقوق والحريات.

دوافع متشابكة.. مساعي إحياء الإرث العثماني

يرتبط اتجاه أنقرة لإحياء إرثها العثماني المزعوم في الوقت الراهن، ومشروعات أخرى كالوطن الأزرق بعددٍ من الدوافع الحاكمة للسلوك التركي، فهناك أولوية الخروج من الوضع الاقتصادي المتأزم، وعدم مواجهة الكتلة الغربية لها بشكل قوي يقيد تحركاتها، كذلك احتمالات حدوث تحولات جيوسياسية مستقبلية تؤثر على مكانتها داخل حلف الناتو ووزنها النسبي بين المعسكر الغربي وروسيا، بالإضافة إلى تلاشي آمالها في تحقيق تقدم بشأن انضمامها للبيت الأوروبي. ونشير في هذا السياق إلى الدوافع الأكثر إلحاحًا لاتجاه أنقرة نحو تبني تلك الاستراتيجية في الوقت الحالي:

  • أولوية الاعتبارات الاقتصادية: تركز تركيا على تعويض العجز الاقتصادي والانخفاض المستمر لقيمة الليرة، وترى أن مكامن الطاقة بشرق المتوسط تؤمن لها احتياطي قد يسهم في تجاوز تلك الصعوبات، فضلًا عن العوائد الاقتصادية التي تحصلت عليها حتى الآن من حكومة الوفاق بشكل مباشر -بلغت 12 مليار دولار- وفي طريقها للارتفاع مع دخول شركاتها كأطراف مستحوذة على عمليات إعادة الاعمار في ليبيا، والتعويضات التي ستصرف لمستثمريها الذين تعطلت أنشطتها بعد سقوط نظام “القذافي” في 2011.  كما تجد أنقرة في الدعم المستمر عبر دول إقليمية لمشروع العثمانية الجديدة موردًا اقتصاديًا لا ينضب، كون تلك النظم تدعم خلافة أردوغان لمناوئة جيرانهم وتقويض أمن المنطقة، وهو ما يدر عليه أرباحًا طائلة.
  • تراجع فرص الاندماج في الاتحاد الأوروبي: انخفضت أسهم أنقرة داخل الاتحاد الأوروبي نتيجة سلوكياتها السابقة، وأصبحت فرصة قبول انضمامها إلى الكيان الأوروبي شبه معدومة، لاسيما مع وجود اليونان وقبرص ضمن هذا الإطار التكاملي، ورغبة باريس في تعطيل السعي التركي لدخول للاتحاد؛ كونه مهددًا لمكانتها وتصدرها العسكري لدول الاتحاد. لذا تتحرك تركيا لتفعيل استراتيجية إحياء السلطنة العثمانية كبديل عن الانتظار على أعتاب أوروبا دون جدوى، أملًا في استعادة ولاياتها بشكل يمنحها القدرة على موازنة نفوذ ومكانة وقدرات دول الاتحاد الأوروبي.
  • تراجع الضغوط الخارجية: لم تتعرض تركيا لموقف غربي أو دولي حازم استطاع تقييد تحركاتها وانتهاكاتها حتى الآن، وهو ما يجعل “أردوغان” مستمرًا في عملية جس النبض واختبار ردود أفعال الأطراف الأخرى، والنموذج الأحدث لذلك هو اعتراض البحرية التركية لقطعة حربية فرنسية بالمتوسط، وعدم اتخاذ الناتو قرارًا مؤثرًا بعد شكوى باريس السلوك التركي العدواني ضدها. أضف إلى ذلك تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن دورها في عدد من الميادين الإقليمية، وعلى رأسها الميدان السوري، ما قاد بالتبعية لانخفاض مستويات التنسيق الأمريكي التركي (تكتيكيًا واستراتيجيًا).
  • مساومات استباقية: تحاول أنقرة استباق التحولات الجيوسياسية المتوقعة، حيث تكمن قيمتها للناتو وأوروبا في موقعها كبوابة شرقية تتقابل والوجود الروسي بهذا الاتجاه، وهو ما يجعلها مركزًا لعمليات الحلف وغيره من القوات المتمركزة فيها. ومع احتمالات تمكن روسيا فتح خطوط ملاحية بالقطب الشمالي إلى أوروبا، ستنخفض قيمة أنقرة بالنسبة للكتلة الغربية، وهو ما يدفعها من الآن إلى البحث في توطيد علاقاتها مع موسكو؛ لابتزاز أوروبا والولايات المتحدة بشكل يضمن تدفق الدعم الأوروبي لها، مع تلافي القطيعة مع الجانب الروسي بشكل تام، لاسيما مع تقاطع مصالحهم بعدد من الملفات وعلى رأسها تصدير الغاز ومستقبل سوريا وليبيا.

السيناريو القادم.. استبدال أم ترويض؟

رغم تعدد طرق وخيارات التعاطي الغربي مع السلوك التركي إلا أن أوروبا والولايات المتحدة تسعى لاستدامة ربط أنقرة بها؛ لاعتبارات تتعلق بأهمية جيشها لحلف الناتو -ثاني أكبر جيش بالحلف- ومحورية موقعها كبوابة مواجهة للنفوذ الروسي. كذلك حجم التبادل التجاري القائم بين اقتصادات تلك الدول، ومحورية احتضانها لخطوط الغاز الممتد إلى الأراضي الأوروبية، فضلًا عن ارتكاز قوات الحلف والقوات الامريكية في قواعدها، واعتبارها نقطة ارتكاز لعمليات الناتو في الشرق الأوسط. ولكن السلوك التركي يقود المعسكر الغربي إلى حتمية التحرك وتخفيض المخاطر التي تمثلها تحركات تركيا على أمنه ومصالحه.

وتتراوح تحركات أوروبا والولايات المتحدة لمواجهة السلوك التركي إما فرض عقوبات على أنقرة أملًا في ترويضها، أو البحث عن بدائل مُحتملة للقيام بدورها إقليميًا. فعلى صعيد العقوبات، تكررت دعوات ومشروعات فرض عقوبات نوعية علي أنقرة، حيث تبحث الولايات المتحدة إخراجها من برنامج إنتاج المقاتلات (إف 35)، وقدم أعضاء في مجلس النواب الأمريكي، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، مشروع قانون يقضي بفرض عقوبات على تركيا، بسبب شرائها منظومة صواريخ إس 400 الروسية. كما يدرس الاتحاد الأوروبي فرض حزم عقابية على تركيا ردًا على سلوكياتها في منطقة شرق المتوسط، كحالة تنقيبها على الغاز في المياه القبرصية، وغيرها من الأنشطة المهددة لأمن المنطقة كالتدخل في ليبيا ونقل العناصر الإرهابية والمرتزقة إلى غربها، فضلًا عن الموقف الأوروبي من قرار السلطات التركية بتحويل متحف “آيا صوفيا” إلى مسجد. وقد أعلن الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية وسياسة الأمن جوزيب بوريل احتمالية فرض الاتحاد عقوبات على تركيا لما تمثله من تهديد مباشر على عضوي الاتحاد قبرص واليونان.

كما برز في الآونة الأخيرة اتجاه جديد يرمي إلى البحث عن بدائل إقليمية، ويركز هذا الاتجاه على إيجاد دول بالمنطقة تستطيع ممارسة ذات الأدوار المناطة بتركيا إقليميًا، وتحقق الأهداف الغربية بنفس درجات الكفاءة والفعالية، وتصدرت قائمة الدول البديلة المحتملة إسرائيل واليونان وقبرص، وكشفت تقارير عن اتجاه أمريكي لإيجاد موازنة للتحركات التركية في شرق المتوسط. ويبدو أن هذا المسار قيد الاختبار، ويدلل على ذلك تركيز الولايات المتحدة على إعادة بناء القدرات العسكرية لكلٍ من قبرص واليونان، ومشاركتها إلى جانب الدول الثلاث في خط غاز جديد مزمع إنشاؤه لتصدير الغاز إلى أوروبا. أضف إلى ذلك إعلان واشنطن الأخير عن إجراء مناورات واسعة إلى جانب اليونان وقبرص وعدد من الدول الأوروبية في شرق المتوسط، بالتزامن مع مناورات تركية لاستعراض القوة أمام السواحل الليبية.

ومُجمل القول، إن تراجع فرص تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي وما تعانيه من تراجع اقتصادي وسياسي داخلي دفعها للاتجاه نحو ابتزاز حلفائها الأوروبيين والولايات المتحدة بشكل متصاعد، وصل في بعض مراحله لتقويض مصالحهم وتهديد أمنهم. ومع استمرار النهج التركي المزعزع لاستقرار شرق المتوسط وليبيا وسوريا سيتجه الغرب لتبني مسارات ترمي لتقليم أظافر أنقرة، بنمط يخفض تأثيرات أنشطتها وتدخلاتها، ويضمن عدم القطيعة التامة معها؛ حتى لا تصبح بوابة لتدخل روسيا بالمنطقة. وعليه، فالمعسكر الأوروبي الأمريكي أمام خيارات صعبة ومعقدة للتعاطي مع التهديد العثماني، وستمثل نتائج الجولات الجارية لدراسة فرض عقوبات على أنقرة نقطة تحول في مستقبل المنطقة والأمن الأوروبي وعلاقات القوى الدولية الكبرى.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى