
الأموال والنفط والسلاح … أهداف تركيا المرحلية في ليبيا
تتعدد أهداف تركيا من وجودها العسكري في غربي ليبيا، لكن وفي ظل التطورات الميدانية السابقة والمتلاحقة، وآخرها الضربة القوية التي تلقاها الدفاع الجوي التركي، في قاعدة الوطية الجوية، تتوارى الجوانب الاقتصادية في الاستراتيجية التركية في ليبيا، وهي جوانب تتداخل مع مقاربة أنقرة السياسية والعسكرية للوضع الليبي ككل.
معضلة تمويل المجهود العسكري التركي
منذ بدايات التدخل التركي (العلني) في الميدان الليبي أواخر ديسمبر الماضي تزايدت التساؤلات حول مصادر تمويل أنقرة لمجهودها العسكري في ليبيا، علمًا بأن تركيا تعاني منذ سنوات من تراجع حاد في اقتصادها الذي يعاني من ارتفاع نسبة التضخم التي بلغت الشهر الماضي 12%، وارتفاع نسبة الدين الخارجي لتصل إلى حوالي 60% من إجمالي الناتج العام، وانخفاض مستمر في قيمة الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي.
هذا الوضع الاقتصادي الصعب والذي كانت مغامرات أنقرة الخارجية من أهم أسبابه يجعل من المستحيل على أنقرة تمويل أنشطتها العسكرية في ليبيا، التي تشمل تكاليف نقل ونشر وتشغيل الأنظمة القتالية الثابتة والمتحركة ووسائل إعاشة الضباط الأتراك المتواجدين على الأراضي الليبية، وكذا رواتب المرتزقة السوريين في ليبيا، الذي تعدت أعدادهم حاليًا 13 ألف مرتزق.
لذلك لجأت تركيا إلى اتجاهين لتمويل هذه الأنشطة الخارجية من جهة، ومن جهة أخرى لدعم الليرة، ومنعها من مواصلة الانهيار أمام الدولار الأمريكي، الاتجاه الأول كان نحو الدوحة، فقد مولت الدوحة منذ سنوات التدخلات العسكرية والسياسية التركية في المنطقة، وكذا قدمت دعمًا مباشرًا للاقتصاد التركي عن طريق الضخ المنتظم لملايين الدولارات في حسابات تابعة للبنك المركزي التركي، في شكل ودائع واستثمارات وصلت وفقًا لبيانات الحكومة القطرية إلى حوالي 15 مليار دولار عام 2018، وهذه المبالغ لا تشمل ملايين الدولارات التي تم تقديمها لأنقرة كتبرعات مباشرة من الأمراء القطريين ورجال الأعمال. وقد قدّم الرئيس التركي طلبات جديدة لأمير قطر من أجل توفير تمويل إضافي للعمليات التركية في ليبيا، وذلك حسب ما كشفت عنه صحيفة (أحوال) التركية من تفاصيل لمحادثة هاتفية تمت بين الجانبين الشهر الماضي.
الاتجاه الثاني كان نحو حكومة الوفاق، ولم تتضح أبعاد هذا الاتجاه إلا متأخرًا، فقد بدأت أنقرة في تلقى الأموال الليبية، منذ منتصف العام الماضي، وذلك حسب ما أفادت به وثائق مسربة تم الكشف عنها أوائل العام الجاري، حيث أقرت حكومة الوفاق في طرابلس خلال الفترة ما بين مايو ونوفمبر 2019 مخصصات مالية ضخمة لوزارة الداخلية التابعة لها تجاوز مجموعها 570 مليون يورو، وهو مبلغ ضخم جدًا من الصعب تصديق أن تم تخصيصه من أجل رواتب العاملين بالوزارة، أو حتى لاستيراد معدات وأسلحة لهم، وبالتالي هذه المبالغ وما سبقها تم ضخها في تمويل المجهود العسكري التركي بشقيه التسليحي والبشري.
وقد اتضح سبب تخصيص هذه المبالغ بعد أن كشفت الوثائق أنه تم تحويلها إلى شركة تركية تسمى شركة الصناعات الدفاعية (SSTEK)، والتي تم تأسيسها عام 2016 ومنذ ذلك التاريخ ساهمت في عقد شراكات بين تركيا وعدة دول في الشرق الأوسط، من أجل بناء مصانع عسكرية، أو توريد معدات دفاعية وهجومية، ومنها قطر التي ساهمت هذه الشركة فيها عام 2018 بتأسيس شركة للصناعات العسكرية تدعى شركة (برق). وبذلك أصبح واضحًا أن تمويل التجهيزات العسكرية التركية التي وصلت إلى حكومة الوفاق بدأ فعليًا منذ العام الماضي تحت ستار شراء مستلزمات لوزارة الداخلية التابعة لحكومة الوفاق، وجدير بالذكر هنا، أن هذه الخطة تم الاتفاق عليها خلال زيارة وزير داخلية حكومة الوفاق فتحي باشاغا إلى أنقرة في ديسمبر 2018.
لكن ومع بدء أنقرة في إرسال الأسلحة والذخائر والمرتزقة إلى غرب ليبيا أواخر العام الماضي وجدت أنقرة ضرورة في وضع اليد بصورة أكبر على الاقتصاد الليبي؛ لخدمة هدفها الاقتصادي المزدوج وهو تمويل حملتها العسكرية ودعم اقتصادها المتردي. فبدأت في مراجعة الأرصدة الليبية المجمدة لديها، وكذا حجم وقيمة المشروعات التركية في ليبيا التي توقفت عام 2011 عدد المشروعات التركية المتوقفة يبلغ أكثر من 160 مشروع تركي، تبلغ قيمتها حوالي 18 مليار دولار، ولهذا بدأت تركيا أوائل العام الجاري، عبر تصريحات لمظفر أقصوي رئيس مجلس الأعمال التركي الليبي، أفاد فيها لوكالة رويترز، أن بلاده باتت قريبة من توقيع مذكرة تفاهم، مع حكومة الوفاق تحصل أنقرة بموجبها حول توقيع بلاده وحكومة الوفاق على 2.7 مليار دولار كتعويض عن المشروعات التركية المتوقفة في ليبيا مقسمة على النحو التالي خطاب ضمان بقيمة مليار دولار، بجانب تعويض عن المعدات والآلات التركية المتضررة، تبلغ قيمته 500 مليون دولار، إضافة إلى مبلغ 1.2 مليار دولار فوائد ديون غير مسددة.
هذه المبالغ تم بالفعل تسديدها من جانب حكومة الوفاق؛ لتنضم إلى نحو أربعة مليارات دولار، هي قيمة الأرصدة الليبية المجمدة في البنوك التركية، منذ عام 2011، ومن ضمنها حصص للبنك المركزي الليبي في البنوك التركية. لم تكتفي أنقرة بذلك، بل تلقت مؤخرًا ما مجموعه 28 مليار دولار على الأقل، من الأموال الليبية، وذلك خلال ثلاثة اجتماعات متتالية جمعت بين محافظ البنك المركزي الليبي الصديق الكبير والرئيس التركي أردوغان، وصهره بيرات البيرق، خلال الفترة ما بين 26 يونيو و1 يوليو، حيث تم الاتفاق على تحويل ودائع ليبية في أوروبا، تبلغ قيمتها ثمانية مليارات دولار، إلى البنك المركزي التركي، من أجل دعم الليرة التركية، خاصة وأن هذه الودائع تم إيداعها في تركيا، بدون فائدة، ولمدة أربعة سنوات كاملة، كما تم الاتفاق أيضًا على تلقى أنقرة مبلغ 20 مليار دولار، تخص غرامات حكم بها القضاء التركي، نتيجة لعدم تنفيذ التعاقدات التي تم الاتفاق عليها، في الفترة ما قبل عام 2011.
وقد ألقى رئيس قسم السيولة بالبنك المركزي الليبي، بمدينة البيضاء، رمزي الأغا، مزيدًا من الأضواء على هذا الاتفاق، مشيرًا إلى أن البنك المركزي التركي أخبر محافظ البنك المركزي الليبي أن الأرصدة الليبية في تركيا، سواء المجمدة أو المودعة بدون فائدة، لن يتم استخدامها أو التعامل عليها من جانب الحكومة الليبية، حتى يتم تسوية كافة المديونيات المترتبة على الحكومة الليبية، بما في ذلك المستحقات الخاصة بالمشروعات السابقة، وتكاليف المساعدات العسكرية، وتكاليف نقل وعلاج الجرحى الليبيين في المستشفيات التركية، وتكاليف نقل وإعاشة نفقات نقل المرتزقة السوريين. وقد حذر الأغا، أن احتياطيات البنك المركزي الليبي من الدولار الأمريكي والتي تبلغ نحو 80 مليار دولار يتم تحويل أجزاء منها إلى البنك المركزي التركي بصورة منتظمة.
قطاع النفط، يعد من القطاعات الأساسية التي تعول أنقرة على استغلالها في ليبيا، خاصة وأن تركيا تستورد ما يقرب من 95% من احتياجاتها النفطية وعلى الرغم من استمرار عمليات تهريب النفط إلى تركيا، من الموانئ الليبية وقد أكد هذا مؤخرًا، قائد نقطة حرس السواحل الليبي، في ميناء الزاوية النفطي، عبدالرحمن ميلاد، الذي قال في تصريحات تلفزيونية إن ناقلات نفط أجنبية تدخل بموجب تصاريح رسمية من المؤسسة الوطنية للنفط من أجل تفريغ الوقود الذي تحمله، تم تتوجه إلى نقاط تهريب قرب ميناء الزاوية، لتحميلها بوقود مهرب، من أجل نقله إلى وجهات خارجية. هذه العمليات تقلصت بصورة كبيرة، منذ قرار القبائل الليبية، إيقاف عمليات استخراج وضخ النفط إلى الموانئ، ولهذا لجأت تركيا من أجل توفير الموارد المالية التي تحتاجها إلى التفاوض مع حكومة الوفاق على بدء سلسلة من المشروعات على الأراضي الليبية، في ظل تنامي الصادرات التركية إلى ليبيا، والتي حسب تصريحات للرئيس الحالي لمجلس الأعمال التركي – الليبي، مرتضى كارانفيل قد تصل إلى 10 مليار دولار قريبًا.
فيما يتعلق بالمشروعات فقد تناقش المسؤولون الأتراك وعلى رأسهم وزير الخارجية مولود أوغلو، ووزير المالية بيرات البيرق، والسفير التركي في ليبيا سرحان أكسان مع رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج خلال زيارته لأنقرة أوائل الشهر الماضي استئناف الشركات التركية لعملياتها في ليبيا، حيث وقع الجانبان، على عدد من العقود المتعلقة بإنشاء مشاريع إسكانية وأسواق تجارية، بجانب بدء شركة (جاليك) القابضة الاستعداد لتشييد عدد من محطات توليد الطاقة الكهربائية، وقد التقى مؤخرًا علي ساسي الرئيس التنفيذي للشركة العامة للكهرباء في ليبيا بالسفير التركي في طرابلس سرحان أكسان؛ لمناقشة عرض تركي يتضمن تأجير حكومة الوفاق لمحطات توليد كهرباء عائمة عملاقة تتبع شركة (كارادينيز) التركية لتشغيلها قبالة الساحل الليبي، لسد الفجوة في شبكة الكهرباء الليبية، وهي صفقة سبق واقترحت شركة الكهرباء الليبية توقيعها في مذكرة أرسلتها إلى فايز السراج.
في المدى المنظور، تركز أنقرة على وضع قدم ثابتة في عقود إعادة الأعمار المستقبلية في ليبيا، وكذلك في السوق الاستهلاكي، وفي المجال الزراعي، الذي كانت قد اقتربت حثيثًا من الاستثمار الواسع فيه قبيل عام 2010.
نكسة جديدة للسلاح التركي في ليبيا
كافة ما سبق ذكره من مكاسب اقتصادية حالية أو محتملة لتركيا في ليبيا، ربما تفسر الإصرار الواضح من جانب أنقرة على إجهاض أية حلول سياسية ممكنة لهذه الأزمة، بما في ذلك إعلان القاهرة الذي تحاول أنقرة تحديه باستمرار حشد القوات في اتجاه الشرق، وكذا تأسيسها لوجود عسكري دائم في الغرب الليبي.
الضربة الجوية المركزة التي تعرضت لها قاعدة الوطية الجوية، منذ أيام قليلة، حولت الخط الأحمر المرسوم من جانب الجيش الوطني الليبي وداعميه إلى أقصى الغرب الليبي ليشمل منع أي وجود تركي دائم على الأراضي الليبية، لكن من أهم نتائج هذه الضربة، كان تعرض صورة السلاح التركي (المتفوق) إلى هزة عنيفة.
فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية تعرض مواضع نشر بطاريات الدفاع الجوي (هوك)، في الأطراف الشرقية والغربية لقاعدة الوطية لأضرار جسيمة، طالت القواذف التي تم نشرها في هذه المناطق منذ أيام. جدير بالذكر أن هذه البطاريات كانت قد وصلت إلى ليبيا في يناير الماضي على متن سفينة شحن مدنية ترفع العلم اللبناني، تسمى (بانا). وتم نشر جزء منها في قاعدة معيتيقة الجوية في العاصمة.
منظومة (هوك) هي منظومة أمريكية الأصل، لكن تصنع تركيا النسخة الأحدث منها (XX1) بترخيص، بجانب امتلاكها للنسخة الأقدم من هذه المنظومة (Phase 1) تتكون هذه المنظومة من قواذف صاروخية ثلاثية، يصل مداها الأقصى إلى 45 كيلو متر، على ارتفاع أقصى يصل إلى 20 كيلو متر، وتوجيهها راداري شبه نشط. وقد سبق ونشرت تركيا هذه المنظومة على الحدود بينها وبين سوريا، وحتى في مناطق تقع على الأراضي السورية.
النسخة التي تم نشرها في ليبيا هي النسخة الأحدث من هذه المنظومة، نظرًا لأن الرادار الذي ظهر مصاحبًا لهذه المنظومة هو الرادار ثلاثي الأبعاد (سينتينال)، وهو رادار أمريكي الأصل أيضًا، لكن تصنعه شركة (أسيلسان) التركية للصناعات الدفاعية بترخيص. وهو رادار متخصص في التتبع والاستهداف، ويعمل على الموجة (X). نجاح الطائرات التي نفذت هذه الغارة على قاعدة الوطية، شكل ضربة قوية لهذه المنظومات، وأظهرت فشلها وفشل الفرقاطات التركية الموجودة قبالة الساحل، في تهديد الطائرات المغيرة، أو منعها من تنفيذ المهمات الموكلة إليها.
هذا الفشل يعيد إلى الأذهان فشل آخر، وهو مأساة الطائرات التركية دون طيار من نوع (بيرقدار)، التي تم إسقاط نحو 30 طائرة منها على الأقل خلال ستة أشهر من المعارك، والمفارقة هنا أن هذه الطائرات تعرضت إلى نكسة جديدة، لكنها هذه المرة في أوكرانيا، حيث فشلت طائرة من هذا النوع تابعة للجيش الأوكراني خلال إحدى المناورات في إصابة هدفها بدقة، رغم أن القنبلة المستخدمة كانت موجهة بالليزر، وسقطت القنبلة بجوار الهدف بعدة أمتار، علمًا بأن عملية الإطلاق تمت من مسافة ثمانية كيلو مترات، وهي مسافة قريبة جدًا.
بنك الأهداف الليبي … وتوجهات الأيام القادمة
القيادة العسكرية التركية، تلقت بشكل واضح الرسائل التي تم إيصالها عبر غارة الوطية الجوية، لكن على ما يبدو مازال هناك إصرار من جانبها على الاستمرار في التصعيد الميداني، وذلك كان واضحًا في البيان الذي اعتبر قاعدة الجفرة الجوية “هدفًا مشروعًا”، لذلك يُتوقع خلال الأيام القليلة المقبلة أن تهاجم الطائرات التركية المسيرة هذه القاعدة أو مدينة سرت، أو حتى النطاق المحيط بمدينة سبها جنوبي البلاد، وذلك للرد على الضربة القوية التي تلقاها الأتراك في الوطية.
التوقعات تشير إلى أن الجيش الوطني الليبي، يمتلك معلومات دقيقة عن التمركزات التركية الأساسية في المنطقة الغربية، خاصة في الساحل الغربي، خاصة مدينتي الزاوية وزوارة، بجانب مدن مصراتة وطرابلس، وبالتالي يُتوقع أن يشن ضربات جوية جديدة تشمل بعض هذه المناطق في حالة محاولة القوات التركية التقدم أو استهداف مواقع الجيش الوطني.
وهنا لابد من التذكير بأن سلاح الجو الليبي أجهض بجدارة محاولتين كبيرتين للهجوم على سرت والجفرة خلال الشهر الماضي تم خلالهما تدمير عدد كبير من آليات حكومة الوفاق، بشكل منعهم من محاولة الهجوم مجددًا لمدة أسابيع مضت. النهج التركي خلال الأيام المقبلة، ربما سيحدد بصورة كبيرة ما إذا كانت العمليات العسكرية الخاصة بالجيش الوطني، ستقتصر على الضربات الجوية الجراحية، أم أن هذه العمليات ستتحول إلى هجوم شامل على التخوم الشرقية لمصراتة وطرابلس، وذلك في حالة إصرار الطرف الآخر على الهجوم على المنطقة الشرقية.
باحث أول بالمرصد المصري