ليبيا

الدرونز التركية.. بين استهداف المساعدات الدولية ونيران الدفاعات الجوية الليبية

عدة متغيرات ميدانية وتكتيكية بدأت تأثيراتها في الظهور بشكل تدريجي على الاستراتيجية التركية العامة في ليبيا، بشقيها السياسي والعسكري، وهي متغيرات نتجت عن ثلاثة عوامل رئيسية، الأول هو استيعاب الجيش الوطني للتطورات الميدانية الأخيرة، والثاني هو فشل رهان أنقرة على حدوث شرخ في العلاقة بين اللاعبين الأساسيين في المنطقة الشرقية (القبائل – الحكومة المؤقتة – الجيش الوطني – مجلس النواب)، والعامل الثالث هو الجدية الأوروبية في تفعيل العملية البحرية (إيريني) قبالة الساحل الليبي.

عملية إيريني.. الهستيريا التركية تستهدف المدنيين

ظلت أنقرة تراهن حتى اللحظة الأخيرة على أن التناقضات الأوروبية الداخلية بشأن العلاقات مع تركيا والنظرة الحالية للأزمة الليبية يمكن أن تساهم جميعها في تعطيل جهود إطلاق العملية البحرية (إيريني) التي باتت أنقرة ومن خلفها حكومة طرابلس على ثقة مطلقة في أنها موجهة بصفة أساسية ضدهما، وذلك بهدف الحد من عمليات نقل الأسلحة والذخائر والمرتزقة التي تزايدت بصورة غير مسبوقة خلال الأسبوعين الماضيين. راهنت أنقرة أيضًا في هذا الملف على الخلافات اليونانية الإيطالية بشأن مقر قيادة هذه العملية.

رهان أنقرة لم يكن ناجحًا، إذ فوجئت بإطلاق هذه العملية بشكل رسمي أواخر الشهر الماضي، بعد أن نجحت فرنسا في إنهاء الخلاف الإيطالي اليوناني، والاتفاق على تداول مركز القيادة الخاص بهذه العملية بين البلدين، كل ستة أشهر. بحيث تحتضن إيطاليا مقر القيادة خلال الستة أشهر المقبلة، بقيادة الأدميرال الإيطالي فابيو أجوستيني.

العملية بدأت بمشاركة بحرية فرنسية وإيطالية ويونانية، حيث باشرت الفرقاطة الفرنسية “جان بارت” منذ أوائل الشهر الجاري دورياتها البحرية شرقي المتوسط، على أن تلتحق بها خلال أسابيع الفرقاطة (هيدرا) التابعة للبحرية اليونانية، وقطعة تابعة للبحرية الإيطالية، يُحتمل أن تكون سفينة الهجوم البرمائي (سان جورجيو). (جدير بالذكر هنا أن البحرية الإيطالية تحتفظ داخل ميناء طرابلس بسفينة دعم إمداد تدعى (جورجونا).

يُضاف إلى هذه القطع البحرية عدد من الطائرات، حيث بدأت بالفعل طائرة مراقبة بحرية تابعة للوكسمبورغ، في مسح المناطق الشرقية للبحر المتوسط، وستنضم إليها قريبًا طائرتان من ألمانيا وبولندا. وتشارك مالطا في هذه العملية عبر فريق بحري متخصص في عمليات الزيارة والتفتيش، وسوف تنضم معدات وقوات أخرى إلى هذه العملية في القريب العاجل، حيث تشارك رسميًا فيها 20 دولة أوروبية.

هيستريا أنقرة ومساراتها المتعددة

الهيستيريا التركية من هذه العملية لم تقتصر فقط على سلسلة من التصريحات التي أطلقها بعض المسؤولين في حكومتها وحكومة طرابلس تنتقد هذه العملية وتحاول التقليل من أهميتها، بل بدأت أنقرة في عدة مسارات بهدف الاستعداد لمواجهة التحديات الناجمة عن إطلاق هذه العملية، المسار الأول كان عبر محاولة إعادة اللعب على وتر بعض التباينات في وجهات النظر بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن ليبيا، فأبرزت وسائل أعلامها تصريحات الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، حول شرعية حكومة الوفاق في طرابلس، وهي التصريحات التي ردت عليها بعنف الخارجية اليونانية، التي أكدت على أن هذه الرؤية لا تعبر عن وجهة نظر الاتحاد الأوروبي الرسمية.

المسار الثاني كان محاولة التكثيف من عمليات نقل الأسلحة والمرتزقة عبر الرحلات المدنية البحرية والجوية، استباقًا للصعوبات التي قد تنجم عن تفعيل عملية إيريني وتوسيعها خلال الأسابيع المقبلة. هذا التكثيف تمثل في خمس رحلات يومية تقوم بها الطائرات المدنية الليبية، التابعة للخطوط الليبية، وشركة الأجنحة الليبية، والخطوط الجوية الأفريقية، ما بين إسطنبول التركية ومصراته الليبية، وأصبحت هذه الرحلات تتم في وقت واحد تقريبًا، حيث تقلع أربعة طائرات بشكل متزامن، تتبعها الطائرة الخامسة، في اتجاه إسطنبول، ثم بعد ساعة تعود هذه الطائرات إلى مطار مصراته بنفس التشكيل، محملة بمجموعات جديدة من المرتزقة. وفي بعض الأحيان، تنضم إلى الطائرات الخمس طائرة شحن من نوع (اليوشن 76)، تقوم بنقل الأسلحة والذخائر مباشرة من تركيا إلى مصراته.

تكثفت كذلك رحلات سفن الشحن التركية وغير التركية، من موانئ الجنوب التركي، خاصة ميناء مرسين، باتجاه موانئ الخمس ومصراتة وطرابلس، حيث يتواجد في المياه الإقليمية الليبية بشكل دوري ما بين ثلاثة إلى خمس سفن، بعضها يحمل الجنسية التركية، وبعضها يرفع أعلام دول أخرى، لكنه يعمل في الأساس على الخطوط الملاحية ما بين تركيا وليبيا.

تونس دخلت على خط المحاولات التركية لإيجاد بدائل عن خطوطها البحرية والجوية الحالية إلى ليبيا، ففي توقيت لافت، تم أواخر الشهر الماضي، تدشين الخط البحري الرابط بين ميناء صفاقس التونسي وميناء طرابلس الليبي، حيث بدأت سفن الشحن في العمل على هذا الخط، الذي تبلغ مدة الرحلة فيه يوم واحد فقط، واذا ما وضعنا هذا التطور جنبًا الى جنب، مع الرحلات الجوية المشبوهة من تركيا إلى تونس، والتي كان آخرها هبوط طائرة عسكرية تركية في مطار جربة التونسي، ونقل الحمولة التي كانت على متنها بصورة سرية وغير معلنة إلى الحدود الليبية، تحت ستار أنها مساعدات طبية وإنسانية، (مع ملاحظة أن الرحلات الجوية بين تركيا وليبيا مستمرة كما أوضحنا في الفقرات السابقة)، نستطيع أن نصل إلى خلاصة مفادها أن تونس تحت ضغط تركي متزايد من أجل أن تكون جزءًا من مجهود أنقرة الداعم لحكومة الوفاق.

ملف الغاز مرة أخرى

البيان الخماسي الذي أصدرته مؤخرًا كل من فرنسا ومصر واليونان وقبرص والإمارات الذي طالب تركيا بالتوقف عن إرسال المرتزقة والسلاح إلى ليبيا كان مهمًا في توقيته، خاصة أنه تم بالتزامن مع إطلاق عملية إيريني، ولهذا لم يكن مستغربًا أن تلجأ تركيا للورقة الأساسية التي تمتلكها شرقي المتوسط، وهي ورقة ملف الغاز، حيث قدمت شركة البترول التركية (تباو)، طلبًا إلى حكومة طرابلس للحصول على رخصة للتنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية الليبية، في خطوة تعد استفزازًا أساسيًا لليونان التي تم انتهاك منطقتها الاقتصادية نتيجة للاتفاقية التي وقعتها تركيا مع ليبيا، وتم بموجبها ترسيم الحدود البحرية في ما بينهما. بيان الدول الخمس، والتي من بينها ثلاث دول أوروبية، كان بمثابة باعث إضافي لقلق أنقرة، من خلفيات وأهداف عملية (إيريني) البحرية، التي تدور بعض الأقاويل حول إمكانية مشاركة دول تنتمي لساحل البحر المتوسط فيها، خاصة مصر.

قصف المدنيين وشاحنات المؤن والمساعدات.. استراتيجية تركيا الجديدة

ميدانيًا، توسعت تركيا وميليشيات حكومة الوفاق، في عمليات الضغط على المدن وسط وجنوب البلاد، بهدف التراجع عن دعمها للجيش الوطني، أو عن حيادها إزاء الصراع الحالي في طرابلس. لذلك استمرت عمليات قصف العربات المدنية وشاحنات نقل الوقود والمؤن، المتجهة إلى الجنوب الليبي، وزادت وتيرتها بشكل طال حتى المساعدات الطبية المرسلة إلى مدن الجنوب، لمساعدتها في مواجهة جائحة كورونا.

خلال الأيام القليلة الماضية، استهدفت الدرونز التركية شاحنة تحمل خضروات قرب منطقة القريات، وأخرى قرب منطقة سوكنة، وشاحنة تنقل أغنامًا كانت متجهة إلى منطقة الشويرف من منطقة نسمة، وكذلك بعض المنازل الواقعة في هذه المنطقة. كما استهدفت حافلة مدنية صغيرة قرب مدينة بني وليد كانت متجهة إلى مدينة سبها جنوبي البلاد. يضاف إلى ذلك قصف سيارة مدنية قرب محطة للوقود في منطقة اشميخ الواقع غربي مدينة بني وليد. الغارة اللافتة في هذه السلسلة من العمليات الجوية كانت غارة على البوابة الشمالية لمنطقة الرجبان، الواقعة جنوب شرق قاعدة الوطية الجوية غربي البلاد.

الدفاع الجوي الليبي.. نجاحات مستمرة

الوتيرة المتزايدة لأعداد الدرونز التركية التي تم إسقاطها في معركة طرابلس حتى الآن، كانت أبرز دليل على الخبرات القتالية التي راكمتها وحدات الجيش الوطني الليبي خلال السنوات الأخيرة، فقد تمكنت من تأهيل المعدات والمنظومات القديمة التي كانت في الخدمة سابقًا، وآخرها تأهيل أربع مقاتلات من نوعي ميج 21 وميج 23، بجانب منظومات الدفاع الجوي، سواء كانت صاروخية (مثل منظومتي سام 2 والمنظومة الذاتية الحركة سام 6)، أو مدفعية مثل طائفة واسعة من المدافع المضادة للطائرات مختلفة الأعيرة. كذلك أدخل الجيش الوطني في الخدمة منذ فترة، منظومات الدفاع الجوي الروسية متوسطة المدى (بانتسير)، التي حققت نتائج ممتازة على المستوى الميداني، خاصة في مواجهة الدرونز التركية التي كانت تعمل في بعض الأحيان بمواكبة عمليات حرب إلكترونية تبثها الفرقاطات التركية المتوقفة قبالة الساحل الليبي.

جهود الجيش الوطني لم تتوقف عن هذا الحد، بل تعدته لتصل إلى مستوى تسليح متقدم، فتحصلت على المنظومات المحمولة المضادة للدرونز (دي – 1000) التي تصنعها شركة (ألوها) الصينية للأغراض التجارية، وهي منظومة تعم على أربعة ترددات، ويصل مداها إلى 1 كيلو متر.

كذلك بدأت وحدات الجيش الوطني، في استخدام عدة أنواع من الذخائر الجوالة، مثل الذخيرة البولندية (وور مايت)، وذخيرة أخرى غير محددة النوع، ظهرت خلال الأيام الماضية فوق مدينة غريان جنوبي العاصمة، يعتقد أنها صينية الصنع.

https://twitter.com/LNA2019M/status/1261557915288305664

هذه الجهود أسفرت خلال الشهر الحالي، عن إسقاط درون تركية من نوع (بيرقدار) في أجواء قاعدة الوطية الجوية، لتصبح الدرون الثالثة من هذا النوع التي يتم إسقاطها منذ بداية الشهر، بعد إسقاط واحدة في منطقة الشويرف جنوبي بني وليد، والثانية في عين زارة جنوبي العاصمة. اليوم تم إسقاط درون قتالية من نوع (أنكا أس)، هي الثانية من نوعها منذ بدء التدخل التركي في ليبيا.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى