الصحافة المصرية

لماذا اتجهت مصر لتعمير سيناء والمنطقة الغربية؟

قدمت التحولات الأمنية والسياسية المركبة التي يمر بها النظام الدولي في العقد الحالي، فضلاً عن ثورة الثلاثين من يونيو، والاستدارة الكبيرة التي حققتها في تحول مصفوفة الأدوار الإقليمية؛ الظرف الاستراتيجي المناسب لتبني مصر سياسة خارجية ايجابية نشطة تجاه قضايا الإقليم والعالم بعد سنوات من الكُمُون والانكفاء على ذاتها. ولمّا كان ارتباط القوة الشاملة للدولة ونشاطها الخارجي، أساسياً، ليس فقط بقدراتها العسكرية وإنما أيضاً بتماسك جبهتها وقوتها الداخلية عبر مجموعة متضافرة ومتكاملة من السياسات التنموية، والخطط الكبرى Grand Strategy تهدف لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة؛ وجدت مصر نفسها أمام واحدة من أكبر محطات الاشغال بالتنمية في تاريخها المعاصر. 

بيد أن المتغيرات الديناميكية المتسارعة الذي يشهدها النظام الدولي والتحولات العنيفة والحادة في قضايا الأمن والطاقة بالمنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط، قد فرضا علي مصر تسريع وتيرة التنمية الشاملة والمستدامة بأبعادها ومستوياتها المختلفة، ومن جهة، ظهر ارتباط وثيق بين خطط التنمية المصرية واستراتيجيات الدفاع علي نحو ستوضحه الفقرات التالية. 

وقد استهدف المخطط الاستراتيجي المصري تنفيذ التنمية علي ثلاثة اتجاهات:

  •  الأول: الاتجاه الاستراتيجي الشمال الشرقي بحصيلة 883 مشروع.
  • الثاني: الاتجاه الاستراتيجي الغربي بحصيلة 128 مشروع.
  • الثالث: الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي بحصيلة 96 مشروع.

بيد أن المشروعات المشار إليها تنوعت ما بين مشاريع إسكان وتعليم وتموين واقتصاد وبترول وغاز وموانئ وبحث علمي وبنية تحتية وتطوير عشوائيات وتطوير مدن وصرف صحي وزراعة رعاية صحية وصناعات سفن وصناعات عسكرية وصناعات كيماوية وطاقة شمسية وطاقة نووية.

حيث أولت الدولة المصرية للأقاليم الصحراوية على ضفتي وادي النيل اهتماماً كبيراً بحيث كانت السمة الغالبة على نشاطها التنموي، وقد حل كُلِ من إقليم قناة السويس والمنطقة الغربية ضمن نقاطها المكثفة للتنمية. ولتوضيح أسباب ودوافع اتجاه مصر لتعمير إقليم قناة السويس والمنطقة الغربية علي وجه الخصوص، يجب أولاً الوقوف علي أنماط التحرك وأبرز المشروعات في تلك المنطقة.

أولاً: إقليم قناة السويس 

يضم إقليم قناة السويس الظهير الصحراوي لمحافظة الشرقية ومحافظات (بورسعيد والإسماعيلية والسويس وشمال سيناء وجنوب سيناء)، وتكمن الأهمية هنا أنه يشرف علي خليجي السويس والعقبة فضلاً عن ضمه لقناة السويس عقدة الربط البحري الأقصر بين الأراضي المحيطة بالمحيط الهندي وغربي المحيط الهادي من جهة، وأوروبا من جهة أخرى. كما أنه الإقليم الأقرب جغرافياً لوادي النيل ما جعله علي رأس أولويات خطط التنمية والهادفة لانشاء مناطق عمرانية خارج الوادي المكتظ بالسكان والذي يستحوذ علي أكثر من 95% من السكان علي مساحة تقدر 6% فقط من مساحة الأراضي المصرية. ومن جهة أخري تحويله – أي الإقليم – ليكون واحداً من أكبر التجمعات الاقتصادية في العالم. حيث عمدت الدولة إلي تنفيذ ثلاثة مشروعات عملاقة بهذه المنطقة فضلاً عن عشرات مشاريع الإسكان بطول ظهيرها الصحراوي، كالاتي:

  • قناة السويس الجديدة:

بتكلفة تعدت العشرين مليار جنية، وبواقع زمني قدره 354 يوماً، أنجِز مشروع قناة السويس الجديدة، بإجمالي طول بلغ 72 كلم. يهدف المشروع لتقليل زمن عبور السفن من خلال قناة السويس لتحقيق ربحية أكبر، ولإجمال أكثر تفصيلاً، زيادة القدرة الاستيعابية للقناة لتكون 97 سفينة قياسية عام 2023 بدلا من 49 سفينة عام 2014. وتحقيق العبور المباشر دون توقف لعدد 45 سفينة فى كلا الاتجاهين مع إمكانية السماح لعبور السفن حتى غاطس 66 قدم في جميع أجزاء القناة. زيادة عائد قناة السويس بنسبة 259% عام 2023 ليكون 13.226 مليار دولار مقارنة بالعائد الحالى 5.3 مليار دولار مما يؤدي إلى الانعكاس الإيجابي المباشر على الدخل القومي المصري من العملة الصعبة. زيادة فرص العمل لأبناء مدن القناة وسيناء والمحافظات المجاورة مع خلق مجتمعات عمرانية جديدة. تعظيم القدرات التنافسية للقناة وتميزها على القنوات المماثلة فضلاً عن رفع درجة التصنيف العالمي للمجرى الملاحي نتيجة زيادة معدلات الأمان الملاحي أثناء مرور السفن.

  • المنطقة الاقتصادية لقناة السويس

إذا كانت الأسس والدوافع التى بُنيت عليها المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ذات جانب تطويري استثماري، تستهدف خلق فرص عمل للشباب وإقامة مجتمعات عمرانية متكاملة، فالمزايا التي تتمتع بها المنطقة وتجعلها من أهم وأفضل المناطق الاستثمارية، كذلك أيضاً، حيث تتمتع المنطقة الاقتصادية بموقع جغرافى عبقرى، فمن خلالها يسهل الوصول لـ 2 مليار مستهلك بمختلف الأسواق الإقليمية والدولية. كما تتميز المنطقة بـ”صفر%” جمارك لـ 22 دولة عربية، و 24 دولة أفريقية، وأيضاً تتمتع المنطقة بسياسة الشباك الواحد فى إنهاء كل ما يتعلق بالاستثمار بها، حيث يمكن للمستثمر بها تأسيس الشركة وإنهاء كافة الإجراءات خلال 48 ساعة فقط.

ورغم أن تدشين وإنشاء المنطقة الاقتصادية لم يمر عليه سوى 3 أعوام فقط، إلا أن حجم الاستثمارات القائمة بها تجاوز 25 مليار دولار، من خلال 192 مشروعاً، هذا بالإضافة إلى، نحو 20 مليار دولار أخرى لاستثمارات وصناعات قيد التنفيذ. يهدف المشروع لانشاء وتطوير 6 موانئ وأربعة مناطق صناعية بداخلها تكن اللبنة الأولي لتقديم خدمات الدعم اللوجيستي وصيانة السفن.

  • ربط سيناء وإقليم قناة السويس بوادي النيل

بإجمالي أربعة أنفاق، نفقين في محافظة بورسعيد شمالاً، وأخرين في مدينة الإسماعيلية جنوباً، وبطول 4 كيلومترات لكل نفق، وعلي عمق 64 متراً تحت سطح القناة، أٌنجِزت الأنفاق الجديدة. والتي تختصر زمن العبور للقناة من 10 لـ 20 دقيقة بدلاً من الانتظار ساعات طويلة باستخدام المعديات. بيد أن شبكة الانفاق تم دمجها بمحور 30 يونيو، لربط سكان الوادي والدلتا بإقليم قناة السويس وسيناء. وهنا يأتي دور التخطيط القومي الواعي كمذيب للعزلة، فبعد درس العدوان الإسرائيلي المتكرر وتجربة احتلال العدو التعيسة، أصبح ربط سيناء بالوطن الأب ودمجها في كيانه العضوي وادخالها في دائرة كهربائه الحياتية والحيوية، بديهية أولية للبقاء.

يُلاحظ أن المخطط المصري يعمد علي انشاء البني التحتية ولاسيما شبكة الطرق القومية بأنساق أفقية تشمل الغرب والشرق وتواكب إلي حدِ كبير طموحات حركة المرور من وإلي سيناء والوادي. 

ثانياً: المنطقة الغربية

استهدفت الخطط المصرية التنموية المنطقة الغربية بمشاريع الطاقة والبني التحتية، إذ يجري انشاء محطة الضبعة للطاقة النووية، فبعد ستة عقود من الآمال المبعثرة، تُوضع أولي لبنات محطة الطاقة النووية في مصر. في 19 نوفمبر،2015 وقعت مصر وروسيا على إتفاق مبدئي، بموجبها ستقوم روسيا ببناء وتمويل أول محطة للطاقة النووية في مصر. وفي نوفمبر 2017 تم توقيع العقود الأولية لبناء 4 وحدات VVER-1200 بحضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تبلغ تكلفة المشروع نحو 40 مليار جنية.

وعلي صعيد البني التحتية المدنية، كان مشروع تنفيذ مدينة العلمين الجديدة، وهي إحدى مدن الجيل الرابع، وموقعها المميز سيجعلها بوابة مصر على إفريقيا، فهي تشهد نسبة مشروعات غير مسبوقة، وجذبت عدد من الشركات العالمية للاستثمار بها. فالمدينة ستغير خريطة الساحل الشمالى بأكمله والمفهوم الذى أنشئ على أساسه، فهى ستكون مدينة سكنية تستقطب المواطنين طوال العام، وليس موسم الصيف فقط كما هو معتاد.

ومن المخطط لها أن تستوعب أكثر من 3 ملايين نسمة فى نهاية مراحلها الأولى. تبدأ حدود مدينة العلمين من طريق وادى النطرون إلى الضبعة.

لماذا إقليم قناة السويس والمنطقة الغربية؟

  • معالجة أخطر اتجاه في جسد الدولة المصرية:

بالنظر إلي خريطة القُطر المصري نجد أن أخطر اتجاه في جسد الدولة المصرية هو الشمال الشرقي، الممتد من ظهير قناة السويس والواصل حتي شبه جزيرة سيناء، فمن هذا الاتجاه جاءت جميع حملات الغزو والاحتلال التي تعرضت لها البلاد المصرية طوال فترات تاريخها الممتد، بدءا من الهكسوس والآشوريين والفرس والرومان، وحتي الحملة الفرنسية بقيادة نابليون والاحتلال الإنجليزي نجحوا في السيطرة علي مصر بعدما استداروا عبر ظهيراها الصحراوي الشرقي وباغتوا العاصمة القاهرة. ووصولاً للاحتلال الإسرائيلي التعيس لسيناء، جاء من ذلك الاتجاه، حيث الفراغ العمراني يعني أن تلك المنطقة هي ميدان جاهز لمعركة العدوان.

بعكس حملة لويس التاسع، حين اصطدمت بالمعمور في دلتا مصر، فحققت فشلاً ذريعاً وفي زمن قياسي. 

قدمت الجغرافيا للامة المصرية ثلاث خطوط دفاعية، الأول: سيناء، الثاني: قناة السويس وإقليمها، والأخير وادي النيل، بالتتابع. فيجب تعمر الأول والثاني ليكون الأخير صعب المنال في المواجهات المباشرة النظامية والغير نمطية.

فمن يسيطر علي فلسطين يهدد خط دفاع  سيناء الأول، ومن يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط يتحكم في سيناء، من يسيطر علي سيناء يتحكم فى خط دفاع مصر الأخير.

  • نسف بؤر وحواضن ظاهرة الإرهاب العابر للحدود

لعل أبرز أهداف ظاهرة الإرهاب، هو تعطيل الدولة عن تحقيق مسارات وأهداف التنمية الشاملة المستدامة كونها من مرتكزات تبوء مصر لموقع وموضع هامين في الإقليم كقوة تاريخية صاحبة ريادة، وفي النظام الدولي كقوة متوسطة لها وزنها في التفاعلات والتحولات السياسية الجارية.

يعتمد الجيل الجديد من الإرهاب على جملة تكتيكات غير نمطية في مواجهة قدرة الدولة الشاملة، ومنها التمركز على الأطراف الصحراوية والمدن والبلدات المترامية الأطراف، ولعل الحالة المصرية أوضح نموذج لذلك، فالإرهاب ينشط في أطرافها الصحراوية الشمالية الشرقية ولا يجد موطئ قدم له في مدن وادي النيل، لبساطة البيئة الديموغرافية وتوزيعها ولفظها لبيئة أمراء الحرب. تلجأ الدولة من خلال التنمية إلي إحداث نقلة نوعية في السياسات الدفاعية، مفادها أن التنمية هي أصل الدفاع وليس العكس. ولعل أول ردّة فعل للدولة وقواتها المسلحة علي حادثة بئر العبد الدموية قبل عامين، كان في إنشاء مدينة بئر العبد الجديدة، بالتوازي مع مدينة رفح الجديدة.  باتجاه الدولة نحو طرفيها الصحراويين الشرقي والغربي تقلص فرص استغلال التنظيمات الإرهابية لمناطق الظهير الصحراوي لأعمال التمركز والدعم والتموين. بيد أن كل تحرك تنموي في القطر المصري تصاحبه قوة عسكرية تحميه، فالاتجاه الاستراتيجي الغربي شهد انشاء قاعدة محمد نجيب العسكرية، وهي أكبر قاعدة عسكرية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وكذا نقطة لفرض السيطرة علي طول الحدود الغربية ومواجهة الأخطار الناجمة علي تشظي ظاهرة الإرهاب في دول الجوار الغربي والساحل والصحراء.

  • توطين ملايين المصريين في سيناء والمنطقة الغربية

اذ أعلنت الحكومة المصرية قبل عام ومن خلال رئيس الوزراء الدكتور مصطفي مدبولي، خططها لتوطين 8 ملايين مصري في سيناء من أجل منع توطين الإرهاب هناك كأولوية قصوي. وشملت الخطة إعادة توزيع خريطة مصر السكانية، وتوطين الملايين بهما، وإيجاد قاعدة لجذب الاستثمارات والسكان من خلال القطاعات الصناعية والزراعية والتعدينية والسياحية والمناطق الحرة والمجمعات الصناعية والجامعات الإقليمية. وترتكز الخطة على إنشاء مطار دولي محوري بمنطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط، ومراكز إبداعية منتجة قابلة للامتداد، تصدر منتجاتها المتميزة من الصناعات الزراعية والسمكية، والمنتجات المختلفة، مع استخدام أحدث أساليب الزراعات والصناعات الذكية المبنية على الإنتاج البحثي المتطور. كما تهدف الحكومة لتوطين أكثر من 3 ملايين مصري علي الاتجاه الاستراتيجي الغربي من خلال مدينة العلمين الجديدة.

ختاماً، تشكل مناطق إقليم قناة السويس والمنطقة الغربية موصلات للخطر في ظل تصاعد ظاهرة الإرهاب الدولي واستخدام دول بعينها في الإقليم لورقة الإرهاب لتحقيق مكاسب استراتيجية ولا سيما تلك المتعلقة بالتغييرات الحاصلة في خريطة الطاقة، كما إن تعمير هذه المناطق وجذب استثمارات الفواعل الدولية الكبرى فيها كالصين وروسيا تحديداً، يجعل منها “عوازل استراتيجية” بدلاً من كونها “موصلات للخطر”.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى