
تأثير كورونا على الاقتصادين العالمي والمصري واستراتيجيات المواجهة
يتلقى الاقتصاد العالمي ضربات موجعة على جميع قطاعاته الاقتصادية -تُضاعف مُعاناته من الحروب التجارية وعدم اليقين- بسبب تأثير انتشار فيروس كورونا شبه الوبائي، وارتفاع عدد المُصابين به لحوالي 120 ألف مُصاب و4500 وفاة، الأمر الذي أطلق ظلالًا من الخوف، سيطرت على المُستثمرين في شتى أنحاء العالم، ما ولّد أجواءً لا يمُكن لمُعظم الاستثمارات أن تستمر فضلًا عن أن تبدأ فيها، إذ إن رأس المال في الأساس جبان، لا يتحرك إلا في حالات الاستقرار والاطمئنان، كذلك امتدت حالات الخوف إلى المُستهلكين الذين هجروا الأسواق وآثروا السلامة بالمكوث في المنازل على التحرك والمخاطرة بالتعرض للعدوى، ولذلك ينشأ التهديد الاقتصادي للفيروس مما يُحدثه من اضطرابٍ على جانبي العرض والطلب على المُستوى العالمي.
فعلى جانب الطلب تضررت صناعة السياحة بسبب ما تُشكله الصين من ثقل، فوفقًا لمُنظمة السياحة العالمية (UNWTO) احتل السائحون الصينيون المركز الأول على قائمة أكثر السُياح إنفاقًا في العالم بنحو 277 مليار دولار في عام 2018، بحصة تُشكل خُمس الإنفاق العالمي، كذلك استقبلت الصين في ذات العام 63 مليون سائح كرابع أكبر وجهة عالمية بعد كُلٍ من فرنسا وإسبانيا والولايات المُتحدة الامريكية، يُضاف إلى الصين تضرر بعض أهم الوجهات السياحية الأخرى كإيطاليا والتي تحل خامسًا في ذات القائمة، إذ استقبلت 62 مليون سائح. لذلك أدى انتشار الفيروس في هاتين الوجهتين على وجه الخصوص وغيرهما عمومًا إلى إلغاء ملايين الرحلات السياحية، حيث بلغ عدد المُسافرين عبر المطارات الصينية وإليها فقط 1.26 مليار شخص في 2018.
انتقل ذلك التأثير إلى قطاع النقل العالمي وعلى وجه الخصوص قطاع النقل الجوي، الذي يظفر بالحصة الأكبر من نقل السياح إلى وجهاتهم، فارتفع عدد الرحلات المُلغاة بحلول الأول من فبراير 2020 عن الرحلات المُنفذة فعليًا كنسب من الرحلات مُسبقة الحجز، وفقًا للمُنظمة الدولية للطيران المدني (ICAO)، لذلك توقعت المُنظمة انخفاض أرباح صناعة النقل الجوي بما يُعادل 4.82 مليار دولار في أفضل الأحوال و5.3 في أسوئها خلال الرُبع الأول من 2020. نقلت هذه الانخفاضات في عدد الرحلات المُنفذة التأثير إلى قطاع النفط المُتضرر أصلًا بسبب انخفاض الطلب من القطاع الصناعي، فانخفض نفط الطائرات –مصحوبًا بتأثير عوامل أخرى- إلى 54.3 دولار للبرميل في 6 مارس 2020، بنسبة 18% عن الشهر السابق و32% عن العام السابق، ويُتوقع أن ينخفض أكثر بعد تدني أسعار خام برنت إلى مستوى 36 دولار للبرميل في 11 مارس الجاري.
أما على جانب العرض فقد أظهر استفتاء أجرته غرفة التجارة الأوروبية في الصين للشركات الأوروبية التي لها مقار في المُقاطعات المُتضررة من الفيروس، في 27 فبراير الماضي أن 59% منها تأثرت بشدة من الإجراءات التي اتخذت لمواجهة الفيروس، بالإضافة إلى أن 45% منها واجه تأخيرات في تسليم طلبياته بسبب قصور في سلاسل توريد مُدخلات الإنتاج، علاوة على 47% أخرى واجهت نقصًا حادًا في العمالة، كذلك أبلغ بعض أهم المصنعين العالميين من أمثال أبل، تسلا وسامسونج عن توقف عددٍ من مصانعها بسبب نقص الإمدادات من مُدخلات الإنتاج الصينية.
هذه الضغوط التي يُشكلها الفيروس على جانبي العرض والطلب أدت بعدد من الوكالات الدولية سواء الحكومية أو الخاصة لخفض توقعاتها لنمو الاقتصاد العالمي، حيث خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو في 2020 من 3.3% إلى 2.9% مبدئيًا مع استمرار فتح الباب لمزيد من الخفض في حالة تحول الفيروس للحالة الوبائية، أما وكالة “موديز” فقد أظهر تقرير لها أن كُل انخفاض للناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة 1% يؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.4%، وهو ما دفعها إلى خفض توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى 2.5%.
الانعكاسات المُتوقعة على الاقتصاد المصري
يرتبط الاقتصاد المصري بالاقتصاد العالمي عبر عدة روابط رئيسة، تُشكل هذه الروابط مناطق التأثر الرئيسية التي يُمكن أن يطالها تأثير انتشار الفيروس، وفيما يلي أهمها:
1- انخفاض عائدات قناة السويس في المديين المتوسط والطويل: تُشكل إيرادات قناة السويس المصدر الرابع للدخل القومي لمصر بالعملات الأجنبية وذلك بعد الصادرات وتحويلات العمالة المصرية في الخارج وقطاع السياحة. إذ تُمثل عائدتها حوالي 5٪ من الناتج القومي الإجمالي و10٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ويُضاف إلى ذلك أنها أحد أهم مصادر العملة الصعبة إذ تبلغ إيراداتها سنويًا أعلى من 5 مليارات دولار. وترتبط هذه العائدات مع حجم التجارة العالمية بعلاقة طردية، إذ يعبُر القناة ما يزيد عن 13% من حجم التجارة العالمية، بالتالي فإن انخفاض حجم التجارة العالمية يؤدي مُباشرة إلى انخفاض عائداتها.
كذلك أدى انخفاض أسعار النفط إلى اتخاذ بعض السُفن القادمة من شرق آسيا إلى أوروبا والعكس، طريق رأس الرجاء الصالح بدلًا من عبور قناة السويس، لما يوفره ذلك من رسوم عبور القناة رغم طول أمد الرحلة، وهو ما دفع إدارة القناة إلى تخفيض رسوم العبور لعدد كبير من خطوط الشحن حتى تعاود استخدام القناة من جديد في رحلتها بين الشرق والغرب، الأمر الذي انعكس سلبًا على إيرادات القناة.
2- انخفاض أسعار الطاقة: يصب انخفاض الأسعار في مصلحة الدولة المصرية والتي تُعتبر في المُحصلة مُستوردة لمُنتجات الطاقة، حيث بلغ صافي الميزان السلعي لمُنتجات النفط مُنذ العام المالي 2014/2015 وحتى الرُبع الثالث من العام 2018/2019 ما إجماليه 16.5 مليار دولار، بالتالي يؤدي انخفاض الأسعار تقليل الضغط على الميزان التجاري من ناحية بسبب انخفاض ثمن الوارد منه، ما يُقلل الحجم الإجمالي للواردات، وبالتالي يُحسن من الوضع الهيكلي للعجز المُستمر الذي يتسم به هذا الميزان، يُضاف إلى ذلك أنه يُخفض من عجز الموازنة العامة للدولة والتي كانت قد وضعت عند تقديرها على أساس أن يبلغ سعر برميل النفط في المتوسط 70 دولار للبرميل في العام المالي 2018/2019، و68 دولار خلال العام المالي 2019/2020، في حين بلغ المتوسط للعام المالي 2018/2019 ما يُعادل 68.75 دولار للبرميل. فيما بلغ المتوسط خلال العام المالي الحالي نحو 59.79 دولار للبرميل حتى فبراير 2020.
3- انخفاض تكلفة الاقتراض: سبب كورونا ومن قبله الحرب التجارية انخفاضًا في مُعدلات النمو الأمريكي –كما سبق- وهو ما دفع البنك الفيدرالي الأمريكي إلى البدء في موجة من خفض أسعار الفائدة لأول مرة مُنذ ديسمبر 2008، ليقضي على أطول موجة ارتفاع تشهدها مُعدلات الفائدة الأمريكية على الإطلاق في أغسطس 2019، عندما انخفضت مُعدلاتها بمقدار رُبع نقطة مئوية من 2.5% إلى 2.25%، ثم خُفضت مرة أخري إلى مُعدلات 2% في سبتمبر الماضي، واستمر البنك في ذات الاتجاه بسبب كورونا فخفض سعر الفائدة بنصف نقطة مئوية في تاريخ 3 مارس الجاري للتغلب على آثار كورونا على أسواق المال الأمريكية لتتراوح ما بين 1: 1.25%، وعلى إثر ذلك خفضت العديد من البنوك المركزية في العالم أسعار الفائدة، ومن بينها البنك المركزي المصري الذي أجرى تخفيضات مُتتالية على أسعار الفائدة لتستقر عند 12.25 % وسعر فائدة الإقراض عند 13.25 %.
يؤدي انخفاض سعر الفائدة إلى انخفاض تكلفة اقتراض الدولة المصرية من الخارج بسبب انخفاض مُعدلات الفائدة العالمية، خاصة في الوقت الذي تشهد فيه مؤشرات الاقتصاد المصري استقرارًا أدى إلى تحسُن التصنيف الائتماني للحكومة المصرية، وهو ما يؤدي إلى انخفاض تكاليف خدمة الدين الخارجي في المُستقبل، يسري ذات الوضع على الدين الداخلي المصري والذي يُشكل العبء الأكبر على الموازنة العامة المصرية، إذ سيُخفض تكلفة الاقتراض وبالتالي أعباء خدمة الدين الداخلي في الموازنة.
4- انخفاض عائدات السياحة: كانت إيرادات السياحة قد بلغت في العام المالي 2018/2019 ما إجماليه 12.5 مليار دولار كأكبر عائد في تاريخ القطاع، لكن ظروف القطاع السابق الإشارة إليها ستُشكل تحديًا كبيرًا للقطاع في الحفاظ على هذه الإيرادات نتيجة انخفاض أعداد السياح القادمين من المصادر السياحية الكُبرى مثل ألمانيا وروسيا وأوكرانيا.
5- انخفاض تحويلات المصريين في الخارج: سيؤدي انتشار الفيروس تشديد إجراءات السفر والانتقال بين دول العالم، وبالتالي سيجد الكثير من المصريين العاملين في الخارج أنفسهم غير قادرين على العودة إلى وجهات عملهم، أو قد يُفرض حظر على انتقالهم إلى بعض هذه الوجهات على نحو ما فعلت قطر والكويت، بالإضافة إلى ما ستوجهه الدول الخليجية من ضغوط بعد انخفاض النفط وهو ما سيؤثر على تحويلات المصريين العاملين في الخارج والذين بلغت تحويلاتهم نحو 25.1 مليار دولار خلال العام المالي 2018/2019.
استراتيجيات التحرك الاقتصادية
يخلق انتشار الفيروس عددًا من الفرص الاقتصادية كما يخلق العديد من التحديات، في القطاعات التالية:
1- قطاع الطاقة:
- يُمثل الفيروس فرصة جيدة للموازنة العامة للدولة لخفض أعبائها من تكلفة شراء النفط، لذلك يجب التوسع في ملئ نسبة مُعتبرة من الخزانات الاستراتيجية المصرية من النفط والغاز في الوقت الحالي، وكذلك التوسع في الوقت الحالي في بناء مزيد منها بما يرفع الطاقة الاستيعابية الكُلية لها، لمواجهة تقلبات الأسعار في المُستقبل.
- استغلال انخفاض الأسعار الحالية في سوق الوقود الأحفوري وما يُمثله من ضغط على أسواق الطاقة البديلة مثل الرياح والطاقة الشمسية، والتوسع في إجراء تعاقدات جديدة، يُمكن تنفيذها بأسعار ذات ميزة نسبية كبيرة وفي ذات الوقت بتسهيلات حقيقية خاصة في ضوء خفض أسعار الفائدة الأمريكية.
2- المالية العامة:
- تنفيذ أجزاء واسعة من الطروحات لأذون الخزانة وسنداتها بما يُلبي جانبًا كبيرًا من الطلب المصري على التمويل في العام المالي الحالي والقادم، استغلالًا لوضع أسواق المال الحالية سواء من ناحية موجات الخسارة الكبيرة التي تُشهدها أو اتجاهات الخفض التي تعيشها البنوك المركزية.
3- الاستعداد لعودة موجات من المصريين العاملين في الخارج:
- قد يؤدي تحول الفيروس إلى وباء للضغط على الدول المُستقبلة للمصريين العاملين في الخارج والدفع في اتجاه عودتهم إلى مصر، وخاصة دول الخليج وما قد تواجهه من صعوبات اقتصادية نتيجة انخفاض أسعار النفط، ولذلك يجب العمل على توفير أماكن للحجر الصحي بالأحجام المُناسبة، وتجهيز الموانئ البرية والبحرية والجوية لاستقبال أعداد كبيرة منهم.