ليبيا

طمعاً في “هويلس” جديدة.. حكومة السراج تكتوي بنيران الميليشيات

في مشهد تكرر خلال السنوات الماضية، تعود ميليشيات طرابلس مرة أخرى للاشتباك فيما بينها، في تأكيد جديد على كل ما صرحت به قيادة الجيش الوطني، بشأن الوضع داخل العاصمة، وعن ضرورة حل مشكلة الميليشيات إذا ما كانت هناك رغبة حقيقية في إيقاف المعارك غربي ليبيا. على ما يبدو، فإن أطراف عدة في حكومة الوفاق، باتت تريد تكرار تجربة قاعدة “هويلس” الجوية الأمريكية، تلك القاعدة التي تم الاتفاق عليها بين الملك “إدريس السنوسي” والولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر 1951، ضمن اتفاقية موسعة، شملت أيضاً إعطاء الولايات المتحدة حق البقاء في هذه القاعدة لمدة 20 عام، وحرية استخدام الأجواء والمياه الإقليمية الليبية، باستخدام المنشآت العسكرية الليبية سواء كانت مطارات أو محطات رادار، وإعفاء القوات الأمريكية من جميع الرسوم والضرائب، وكذا منحها حصانة قانونية.

في التفاصيل، قامت عدة ميليشيات، على رأسها ميليشيا “النواصي” وميليشيا “الدعم المركزي”، بمحاصرة مبنى مديرية أمن طرابلس، واعتقال عدد من الضباط، على رأسهم العميد ناجي الزوبي، رئيس ما يسمى جهاز البحث الجنائي. وقد سبق هذا التحرك، مداهمات نفذتها هذه الميليشيات ليلاً، تم فيها اقتحام منازل عائدة لضباط تابعين للمديرية، واعتقلت خلال هذه المداهمات 21 منهم.

ليست هذه المرة الأولى التي تعاني فيها العاصمة الليبية من تبعات النشاط الميليشياوي بداخلها، والذي يعد خير دليل على أن العاصمة الليبية تعيش حالة فوضى بامتياز، تغيب عنها أدنى مقومات الحياة الديموقراطية أو المدنية، حيث الاحتكام فيها حصراً للسلاح، دون أي اعتبار لشرعية أو لقانون. سبق واقتحمت الميليشيات المذكورة، عدة مقرات حكومية في طرابلس، مثل اقتحام مبنى مصرف ليبيا المركزي في أبريل الماضي، واقتحام مبنى وزارة المالية في ديسمبر الماضي، بالإضافة إلى اقتحامات متكررة لقاعدة أبو ستة البحرية، ومقرات حكومية أخرى، مثل مطار معيتيقة الدولي، الذي شهد جولات متكررة من التراشق المدفعي والصاروخي بين عدد من الميليشيات خلال فترات سابقة.

مؤشرات ودلائل التحرك الميليشياوي في طرابلس

هذا التطور الميداني، يرتبط في الواقع بعدة مؤشرات ودلائل، فبالإضافة إلى كونه مؤشر واضح على دقة كل البيانات التي أصدرها الجيش الوطني الليبي، حول وقوع العاصمة تحت سلطة الميليشيات، ووضعه لمبدأ إنهاء “الظاهرة الميليشياوية” في طرابلس، كمبدأ أساسي للنقاش حول مسار جنيف العسكري، وكهدف استراتيجي لعملياتها في طرابلس. جاء أيضاً ضمن سياق أوسع، يتصدره ثلاثة عناوين رئيسية، الأول: هو بدء بعض الأطراف الحديث عن حلول للوضع الميليشياوي في العاصمة، والثاني: هو اعتراف وزير الداخلية المفوض في حكومة الوفاق، فتحي باشاغا، مع صحفية بلومبرج الأمريكية، بأن حكومته عرضت بشكل واضح على الإدارة الأمريكية، إقامة قاعدة عسكرية دائمة للجيش الأمريكي في العاصمة طرابلس. والثالث: هو خلط الأوراق على خلفية تصاعد الخلافات الداخلية على المستوى الحكومي والميليشياوي في طرابلس، بسبب ملف المرتزقة السوريين إلى العاصمة، واحتمالات استبعاد أطراف متواجدة حالياً في طرابلس، نتيجة لأي تسوية سياسية محتملة للملف الليبي.

في العنوان الأول، صدرت خلال الأيام الماضية، عدة تصريحات لأطراف سياسية ليبية، تتناول ملف الميليشيات في طرابلس، منها تصريح لنائب رئيس الوزراء بالحكومة الليبية المؤقتة عبد السلام البدري، الذي أكد في تصريحات صحفية، ضرورة انحصار بحث المسار العسكري، على ملف تفكيك الميليشيات، وطرد المرتزقة الذين وصلوا إلى ليبيا خلال الفترة الماضية. وقد تناول هذا الموضوع أيضاً وزير الدفاع الليبي الأسبق محمد البرغثي، الذي رأى أنه في حال تحصلت ميليشيات طرابلس، على ضمانات بعدم الملاحقة القانونية، فسترضى بتسليم أسلحتها وعدم مواجهة الجيش الوطني. بدوره تناول عضو مجلس النواب جبريل أوحيدة، هذا الملف لكن من زاوية أخرى، حيث يرى أن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، يرغب من خلال محاولاته الترويج بإن الجيش الوطني يقصف المدنيين في طرابلس، أن يفرض عن طريق المجتمع الدولي، ما يشبه “منطقة خضراء” في طرابلس، تحميه والميليشيات من تقدم الجيش الوطني في العاصمة، بعد أن باتت وحدات الجيش في الأحياء الجنوبية للعاصمة. هذه النقطة ربما تفسر التناحر الذي بدء بين وزارة الداخلية في حكومة الوفاق والميليشيات، وهو ما يعاكس تماماً التعاون والتوافق الذي كان بينهما طيلة السنوات الماضية. هذا التناحر ناتج عن شعور قادة الميليشيات، أن ملفهم أصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يتم فتحه محلياً وإقليميا ودولياً.

في العنوان الثاني، يحاول وزير الداخلية المفوض فتحي باشاغا، أن يرتدى ثوب “رجل الدولة”، المناهض للميليشيات والمنادي بدولة القانون والمؤسسات، مع أنه كان في الأساس مهندس تنظيم العمل الميليشياوي في العاصمة عبر عملية “بركان الغضب”، والتزم الصمت لسنوات على نشاط الميليشيات داخل العاصمة وفي مدن أخرى مثل الزاوية وسرت ومصراتة. باشاغا بات يستشعر جسامة الخطأ الذي وقع فيه، حين تحدث عن رغبة حكومة الوفاق في استضافة قاعدة عسكرية أمريكية، فألقى بورقته الأخيرة، التي حسب ما يرى عضو المجلس الأعلى للدولة عبد الرحمن الأطرش، يمهد من خلالها استقالته من منصبه. باشاغا أصبح هدفاً لسهام الانتقاد، حتى من الأطراف المتحالف مع حكومة الوفاق، ومنها جماعة الإخوان المسلمين، حيث أدلى عضو ذراعها السياسية في ليبيا (حزب العدالة والبناء)، محمود عبد العزيز، بتصريحات هاجم فيها كلام باشاغا حول القاعدة الأمريكية، واصفاً إياه بأنه “تصريح غبي”، وحمله المسئولية عن التبعات الناتجة عن هذا التصريح.

في العنوان الثالث، أصبحت الخلافات الداخلية في طرابلس، مستعرة على المستوى السياسي والميداني، سياسياً، أصبحت معظم الأطراف داخل العاصمة، تنتقد بعضها البعض بشكل لاذع، خاصة فيما يتعلق بالموقف من مسار جنيف السياسي، ومن ملف الميليشيات. سامي الساعدي، “المسؤول الشرعي” في الجماعة الإسلامية المقاتلة، المصنفة كتنظيم إرهابي، شن مؤخراً هجوماً حاداً على رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، عبر حسابه الشخصي بموقع فيسبوك، معتبراً أن الميليشيات التي يطالب الجيش الوطني بحلها، هي من حمت حكومة الوفاق، من الوقوع في الأسر أو التعرض للقتل، وهي القوة التي تحول دون عودة “الطغيان والاستبداد”. كلام الساعدي تبدو فيه مخاوفه من تحركات دولية ضد التواجد الميليشياوي في طرابلس.

على المستوى الميداني، بدا واضحاً أن تواجد المرتزقة السوريين في العاصمة طرابلس، وتلقيهم مبالغ مالية كبيرة شهرياً، وكذا امتيازات أخرى، أثار غضب بعض قادة الميليشيات الليبية، وربما يكون هذا من أسباب التحرك الميليشياوي الأخير في طرابلس. ولهذا السبب سبق وانسحبت الأسبوع الماضي، عدة وحدات تابعة لميليشيا “لواء المحجوب”، من مواقعها في العاصمة إلى مدينة مصراتة، بعد اندلاع خلاف بينها وبين وزير الداخلية المفوض، حول المستحقات التي يتم تسليمها للمرتزقة السوريين.

في نفس الإطار، تكررت خلال الفترة الماضية، تصريحات لعدد من القادة العسكريين في ميليشيات الوفاق، ينتقدون فيها شخصيات سياسية في الحكومة والمجلس الأعلى للدولة، على رأسهم قائد ما يسمى بسلاح المدفعية في ميليشيات الوفاق، العقيد فرج أخليل، الذي تعددت تصريحاتها المنتقدة لأعضاء حكومة الوفاق، فقد وصف سابقاً رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق بـ (كرزاي ليبيا) و(المريض) و(المعتوه)، على الرغم من أن رئيس المجلس الرئاسي، هو القائد الفعلي لقوات الوفاق وجميع ضباطها!، كما أن هجوم أخليل تكرر ضد شخصيات سياسية أخرى في طرابلس، منها رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، ومؤخراً، وجه سهام الانتقاد إلى وجه بارز من الوجوه الميليشياوية في العاصمة، وهو قائد ما يسمى المنطقة العسكرية الغربية، أسامة الجويلي، واتهمه بقطع الإمدادات عن قائد ما يسمى بالمنطقة العسكرية الوسطى محمد الحداد.

على أثر التحرك الميليشياوي الأخير، بدأ التحزب فيما بين الميليشيات المتواجدة في العاصمة يظهر بقوة، فميليشيا (لواء الصمود)، أعلنت عبر صفحتها الرسمية على موقع فيسبوك، مساندتها الكاملة لوزير داخلية الوفاق، كما أعلنت في موقف أخر تأييدها تصريحات وزير الداخلية حول بناء قاعدة أمريكية في ليبيا، معتبرة أن هذا الموضوع (جائز شرعًا). جدير بالذكر ان هذه الميليشيا يقودها صلاح بادي، المدرج على قوائم العقوبات الأمريكية والأممية. اللافت هنا، أن المندوب الليبي في الأمم المتحدة، صرح لقناة بي بي سي البريطانية، أنه لا يوجد في ليبيا مقاتلين سوريين، ولا توجد اية ميليشيات، بل أن جميع التشكيلات المسلحة بما فيها (الصمود)، منضوية تحت لواء وزارة الداخلية ورئاسة الأركان، وهو ما يخالف الواقع تماماً، ويخالف حتى تصريحات المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، وكذلك تصريحات الرئيس أردوغان نفسه والذي اعترف في حشد من جماهيره في إسطنبول بوجود مقاتلين سوريين في ليبيا جنبا إلى جنب مع قادة من الجيش التركي.

على الجانب الأخر، هاجم أحد قادة ميليشيا (النواصي) المدعو الرملي الطرابلسي، وزير الداخلية، مهدداً بإمكانية طرده هو والمرتزقة الذين أتى بهم من سوريا خلال ساعتين، وقد سبق هذا التصريح، تصريح أخر لقائد هذه الميليشيا، المدعو محمد الأزهر، أعتبر فيه وزير الداخلية (عدو)، واعترف فيه أن من قُتلوا في قصف شحنة الأسلحة بميناء طرابلس كانوا عسكريين وليسوا مدنيين كما أدعى وزير الداخلية.

ختاما،

يتوقع أن تشهد العاصمة طرابلس جولة من الاقتتال الداخلي، خاصة في ظل الحشد لبعض الميليشيات التي تريد استهداف مواقع تمركز ميليشيات الصمود، للضغط عليها كي تفرج عن الضباط المحتجزين لديها، لكن الأكيد أن أيا كان ما سيحدث في العاصمة خلال الساعات المقبلة، فأن الحل السياسي في ليبيا يبدو بعيداً، والحل العسكري يبدو هو الحل الوحيد، رغماً عن كل الجهود السياسية الدولية، وأخرها مسارات جنيف السياسية، التي علق مجلس النواب الليبي اليوم، مشاركته المقبلة فيها، بسبب تدخل البعثة الأممية في اختيارات المجلس لأعضاء اللجنة الممثلة له في جنيف.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى