سوريا

موسكو وأنقرة.. ما اتُفق عليه في أستانا وسوتشي ينهار على عتبات إدلب

على وقع التطورات الميدانية المتلاحقة التي يشهدها الشمال الغربي السوري، وتحديدا في محافظة إدلب، آخر معاقل الفصائل المسلحة في سوريا، برزت خلافات عميقة بين الحليفين اللدودين روسيا وتركيا اللذين اعتادا عقد الصفقات، بعد أن تعارضت مصالحهما في شمال غرب سوريا، وباتا على شفا مواجهة عسكرية مباشرة أو غير مباشرة، تنهار معها كل تفاهماتهما السابقة حول الأرض السورية، وتبدأ بها مرحلة جديدة من لعبة الصفقات.

تصعيد ميداني

مثّلت سيطرة الجيش السوري على مدينة معرة النعمان الاستراتيجية نقطة انطلاق نحو السيطرة على مدن وقرى أكثر في ريف إدلب، وخاصة مدينة “سراقب” الاستراتيجية التي حاولت تركيا كثيرا منع إتمام هذه السيطرة، عبر إرسال تعزيزات عسكرية مكثفة، وإقامة نقاط مراقبة، لاعتراض مسار الجيش السوري، وكانت تركيا تأمل من نشر نقاط المراقبة التابعة لها إلى إجبار الجيش السوري على التوقف، بدعوى الالتزام بالتفاهمات المبرمة بين أنقرة وموسكو بخصوص الالتزام بعدم التعرض لنقاط المراقبة التركية.

ولكن لم تفلح تركيا في مسعاها، ولم تنجح تهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “بالعمل جوًا وبرًا وتنفيذ عملية عسكرية إن لزم الأمر في إدلب”، إذا لم تنسحب قوات الجيش السوري خلف نقاط المراقبة التركية بنهاية فبراير.

وحقق الجيش السوري في نهاية الأمر سيطرته على سراقب يوم 7 فبراير الجاري، محكما الطوق على أربع نقاط تركية موزعة في محيطها، وقاطعًا خطوط إمداد الفصائل المسلحة، وتأمين الطريق الدولي بين سراقب وحماة بشكل كامل.

واستطاع الجيش السوري فرض سيطرته الكاملة على طريق دمشق – حلب الدولي (M5) عدا جزء يسير يقدر بنحو 13 كم، إضافة إلى النقاط الرابطة بين طريق دمشق – حلب، وطريق حلب – اللاذقية (M4). وهو الأمر الذي دفع أنقرة إلى إرسال المزيد من الأرتال العسكرية التي قُدر عدد الآليات العسكرية المكونة منها إلى أكثر من 1300 آلية، والدفع بآلاف المقاتلين على تخوم حلب وإدلب للتجهيز للعملية العسكرية التي لوّحت بها أنقرة.

توترات بين موسكو وأنقرة

يدل الوضع الميداني على أن خلافًا كبيرًا بدأ في الظهور بين روسيا وتركيا، مع استمرار تقدم الجيش السوري غير آبه بالتهديدات التركية وبدعم جوي روسي لا يبقي ولا يذر، ورغم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صرّح بأن تركيا لن تسمح للنظام السوري بتحقيق المزيد من التقدم الميداني في إدلب، وأن “النظام يسعى إلى التقدم ميدانيًا في إدلب عبر تشريد أشخاص أبرياء يتجهون نحو حدودنا، لن نعطي النظام فرصة للتقدم، لأن ذلك سيزيد من العبء علينا”، فإنه بدا أقل حدة في الحديث عن روسيا، قائلًا “في هذه المرحلة، ليس هناك حاجة لبدء نزاع أو صراع كبير مع روسيا. لدينا العديد من الخطط الاستراتيجية مع روسيا”.

وفي المقابل، بدأ أردوغان في تصعيد التوتر مع الشريك الروسي، من خلال تصريحه خلال زيارته إلى العاصمة الأوكرانية كييف، بأن “تركيا لم ولن تعترف بضم روسيا إلى شبه جزيرة القرم”.

وأكد المرصد السوري لحقوق الإنسان أنّ الجيش التركي رفض مُجددًا الخروج بدورية مشتركة مع القوات الروسية في منطقة شمال شرق سوريا، حيث وصلت دورية روسية صباح الخميس، إلى معبر شيريك الحدودي مع تركيا بريف الدرباسية، وانتظرت خروج الجيش التركي من أجل تسيير دورية مشتركة، إلا أن الأخيرة أبلغت الروس عبر أحد الضباط بأنهم لن يخرجوا في دورية، لتسير القوات الروسية دورية بمفردها في قرى ريف الدرباسية.

أستانا وسوتشي في مهب الريح

توصلت الدول المنضوية في مسار أستانا حول الأزمة السورية (تركيا وروسيا وإيران) يوم 4 مايو 2017 في مدينة أستانا الكازخية، إلى اتفاق لخفض التصعيد يقضي بإقامة أربع مناطق آمنة في سوريا لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد، وتشمل هذه المناطق محافظة إدلب وأجزاء من حلب وحماة واللاذقية، مع التزام الدول السابق ذكرها الضامنة لوقف إطلاق النار بالعمل على قتال التنظيمات المسلحة، ونشر قوات للإشراف على وقف الأعمال القتالية، وإنشاء مواقع مراقبة لضمان الالتزام ببنود نظام وقف إطلاق النار.

كما وقعت روسيا وتركيا اتفاقًا في سبتمبر 2018 في منتجع سوتشي الروسي، تتحمل بموجبه تركيا مسؤولية نزع سلاح الفصائل المسلحة، في مقابل امتناع كل من روسيا وسوريا عن القيام بعمل عسكري شامل في إدلب، لتجنب النزوح الجماعي لثلاثة ملايين مدني في المنطقة باتجاه الحدود التركية، مع الإبقاء على منطقة خفض التصعيد في إدلب، وتحصين نقاط المراقبة التركية واستمرار عملها، واتخاذ إجراءات فاعلة لضمان نظام مستدام لوقف النار داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب، ومواصلة محاربة الإرهاب في سوريا بجميع أشكاله.

إلا أن الميدان أثبت أن هذه الاتفاقات كلها ذهبت في مهب الريح، وأن روسيا بدعمها لعمليات الجيش السوري في ريفي إدلب وحلب، تؤكد أنه لا حل إلا الحل العسكري في هذه المنطقة، للتخلص من الفصائل المسلحة في آخر معاقلها، وهي الفصائل التي تدعمها تركيا، وتخشى مصيرها لو فرضت دمشق سيطرتها على إدلب، فلن يكون أمام الفصائل إلا الحدود التركية.

فمن وجهة النظر الروسية، لم تستطع أنقرة الوفاء بتعهداتها فيما يخص نزع سلاح الفصائل وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، أما في وجهة النظر التركية فروسيا هي التي لم تلتزم بالاتفاق ودعمت الجيش السوري في بسط سيطرته، حتى باتت نقاط المراقبة التركية محاصرة، مما دفع الرئيس التركي للقول إن “روسيا، وللأسف، لم تلتزم باستانا أو سوتشي.. لم يعد هنالك عملية أستانا. فقدنا صبرنا في إدلب إن لم تتوقف روسيا عن استهداف إدلب سنتخذ الخطوات اللازمة”، مضيفًا “لقد انتظرنا حتى الآن، ولكن من هذه النقطة، سنتخذ إجراءاتنا الخاصة، هذا ليس تهديدًا، ولكن توقعنا أن روسيا سوف تعطي النظام التحذير اللازم، أعلن أن عملية أستانا تحتضر”.

فيما أكد وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، أن أي اتفاقات أو تفاهمات بشأن منطقة خفض التصعيد في إدلب لا تشمل التنظيمات الإرهابية، مشددًا على أن عمليات مكافحة الإرهاب التي يتم تنفيذها في المحافظة قانونية تمامًا، مؤكدًا أن “النظام التركي لم يفِ بالتزاماته بموجب تفاهمات سوتشي حول منطقة خفض التصعيد في إدلب، والإرهابيون لا يزالون منتشرين في إدلب وبالتالي يتعين على الأتراك الوفاء بتعهداتهم”.

ويؤكد كل ذلك أن هذه الاتفاقات والتفاهمات بين موسكو وأنقرة باتت جزءًا من الماضي، وأن الطرفين باتا أمام مرحلة جديدة من العلاقات، وقد بدأ ذلك بزيارة وفد روسي ضم أحد مساعدي وزير الخارجية ومسؤولين عسكريين واستخباراتيين، إلى أنقرة للتباحث مع الجانب التركي في مقر وزارة الخارجية التركية في أنقرة التطورات في محافظة إدلب يوم السبت 8 فبراير.

واشنطن تظهر مجددًا

“قلنا للرئيس التركي إنه لا يمكن الثقة بيوتين فيما يخص سوريا، واليوم يرى نتائج ذلك!”، هكذا ردّت واشنطن على التطورات الأخيرة في إدلب، عبر مبعوثها إلى سوريا جيمس جيفري، الذي أكد دعم بلاده لوجود نقاط مراقبة تركية في محافظة إدلب، مشددًا على ضرورة عدم إصابة الجنود الأتراك بمكروه في هذه النقاط، كما أكد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن الهجوم على مواقع المراقبة التركية يشكّل تصعيدًا خطيرًا، مشددًا على وقوف بلاده إلى جانب تركيا الحليف في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ودعمها “أعمال تركيا المبرّرة للدفاع عن النفس رداً على ذلك”.

وهو ما يبدو محاولة من واشنطن لإعادة كسب أنقرة في معسكرها المناهض لموسكو، بعد التوترات التي سيطرت على علاقة البلدين في سوريا، ونقض روسيا –حسب الرواية التركية- لتعهداتها في إدلب، مما يفتح الباب لإعادة الحوار بين الجانبين الأمريكي والتركي والتنسيق بشأن التحركات التركية المقبلة، وما إن كانت هناك مواجهة عسكرية قادمة أم لا، والدعم الأمريكي المنتظر في هذا الوقت.

مستقبل التطور الميداني

يبدو أن دمشق عازمة بدعم من موسكو على فرض سيطرتها الكاملة على إدلب، ولن تمنعها أنقرة من ذلك، ولكن صعوبات كبيرة ستعترضها بعد التصعيد الميداني الأخير، والتعزيزات العسكرية التركية المستمرة، مما يطرح إمكانية التوصل إلى اتفاق مرحلي آخر بين موسكو وأنقرة يقضي بوقف إطلاق النار، والاكتفاء في هذه المرحلة بما حرره الجيش السوري من ريفي إدلب وحلب، على أن تُستكمل العمليات في مرحلة لاحقة، والاتفاق على ترتيبات جديدة تخص الفصائل المسلحة التي تدعمها تركيا.

فروسيا لا تريد أن تخسر حليفًا مهمًا وشريكًا استراتيجيًا، في مجالات عدة، كتركيا، وقد لا تريد الانزلاق إلى مواجهة عسكرية واسعة بين تركيا وسوريا، مع الاستمرار في دعم الجيش السوري في عملياته على أرض الشمال الغربي، ولكن بوتيرة أبطأ، على أن تحصل موسكو على نفوذ أكبر في منطقة شرق الفرات، لترسي أقدامها هناك في الوقت الذي أخذت فيه الولايات المتحدة في إرسال تعزيزات عسكرية وإنشاء قاعدة جديدة في ريف الحسكة خلال الأيام الماضية، وحدثت فيه توترات محدودة بين قوات واشنطن وموسكو هناك.

أما إذا لم ينجح الطرفان في التوصل لاتفاق، وبات الخيار العسكري لا مفر منه، فستستمر روسيا بنفس الوتيرة في دعم الجيش السوري في معاركه على تخوم إدلب، وفي المقابل تختار تركيا اللجوء إلى المواجهة المباشرة مع القوات السورية ومن ورائها روسيا، أو أن تختار دعم فصائلها هناك ودعم الفصائل الأخرى الموجودة في حلب لفتح جبهة قتال جديدة تضطر الجيش السوري إلى تأجيل معركة إدلب.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى