
ماذا قدمت مصر على المستوى الاقتصادي خلال رئاستها للاتحاد الإفريقي؟
تولت مصر رئاسة الاتحاد الإفريقي لأول مرة في فبراير 2019، وذلك بعد 17 عامًا على إنشائه، رغم كونها من أهم دول القارة وصاحبة أكبر اقتصاداتها من حيث الناتج المحلي الإجمالي. وقد استمرت رئاستها بطول العام على أن تنقلها في فبراير الجاري، وتأتي هذه الرئاسة في ظل تحديات جسام توجه القارة على المستوى الاقتصادي، وتطلُعات وآمال عريضة لشعوبها، ليس أقلها الدفع في اتجاه استمرار رفع مُعدلات نمو دولها ومستويات معيشة شعوبها، وتحديث البنية التحتية الداخلية لهذه الدول لتُصبح مُنطلقًا للربط القاري، ومن بين أكبرها تحقيق التكامل الاقتصادي بين دولها. وقد حملت مصر هذه الآمال والتطلعات أثناء رئاستها للاتحاد، ففرضتها على جداول أعمال المحافل الدولية جميعها، سواء تلك التي شاركت فيها بصفتها رئيسًا للاتحاد الافريقي أو دون ذلك، وضغطت داخليًا لتجمع كلمة الدول الأعضاء على أولويات تنموية موحدة، فأنجزت في عامًا واحد ما يستعصي على الإنجاز في عقود، ونستعرض أهم هذه الجهود فيما يلي:
أولًا – على المستوى القاري الداخلي
عملت مصر في المستوى القاري الداخلي على تمهيد البيئة المؤسساتية الإفريقية، لمواجهة تحديات التباطؤ الاقتصادي العالمي، والتضافر من أجل تحقيق مُعدلات نمو اقتصادية تُعزز الاستقرار السياسي والأمني للدول الأعضاء، بما ينعكس على تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية إلى الداخل الإفريقي، حيث تحل القارة أخيرًا بين القارات الخمس الكُبرى في قائمة تلقي الاستثمارات الأجنبية المُباشرة، إذ استقبلت فقط ما إجماليه 45.9 مليار دولار، سبقتها قارة أمريكا اللاتينية باستثمارات بلغت 146.7 مليار، في حين حلت أسيا على رأس القائمة بـ 511.7 مليار دولار في عام 2018، ولذلك فقد اتخذت مصر مُقاربات ثلاثة لتغير هذا الوضع وهي تعزيز الأُطر التنظيمية الحاكمة للعلاقات الاقتصادية البينية، والاستثمار في البنية التحتية القارية، وأخيرًا تطوير مهارات شباب القارة، على التفصيل التالي:
1- تعزيز الأطر التنظيمية الحاكمة للعلاقات الاقتصادية البينية:
تُعاني القارة من عدم وجود بنية تنظيمية أو مؤسساتية تدفع دولها للتعاون الاقتصادي فيما بينها، على الرغم من الثروات الطبيعية الضخمة التي تحتكم عليها، ولذلك عملت مصر مع العديد من الدول الإفريقية على خلق أُطر جديدة للتعاون البيني وتعزيز الأطر الموجودة فعلًا، فأنشئت على سبيل المثال “المعهد الإفريقي للتحويلات المالية” وهو مؤسسة تابعة لمفوضية الاتحاد الافريقي، بهدف تحسين القياس الإحصائي وقدرات الدول الأعضاء على جمع البيانات المُتعلقة بالتحويلات المالية فيما بينها والعالم الخارجي، بما يُحسن استخدامها في خدمة التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول الأعضاء، وكذلك أقرت النصوص التنظيمية “للسوق الافريقية الموحدة للنقل الجوي” بهدف تعزيز وضمان منافسة حرة ونزيهة في مجال خدمات النقل الجوي داخل أفريقيا، بغية تطوير وتنمية صناعة النقل الجوي والإسهام في رفاهية مواطني الدول الأطراف.
لكن أكبر إنجازين في هذا الإطار كانا: (أ)- إدخال “اتفاقية التجارة الحُرة الإفريقية” حيز النفاذ في مايو 2019، وتُعتبر هذه الاتفاقية خطوة مُتقدمة على طريق إنشاء اتحاد جمركي قاري وسوق مُشتركة قارية، وذلك عبر خلق سوق موحدة للسلع والخدمات، ثم تحريرها من خلال جولات مُتتالية من المُفاوضات، بما يرفع في النهاية التبادل التجاري البيني من 16% إلى 52% من إجمالي التجارة الخارجية للدول الأعضاء. (ب)- تبني النظام الأساسي “لوكالة الفضاء الإفريقية” التي تهدف إلى تسخير فوائد وعلوم تكنولوجيا الفضاء في مُعالجة الفرص والتحديات الاجتماعية والاقتصادية في القارة، ثم تطوير سوق وصناعة فضاء محلية تُعزز وتستجيب لاحتياجات القارة الإفريقية، خاصة بعدما تعاظم اقتصاد الفضاء عالميًا ليبلغ في 2018 ما إجماليه 360 مليار دولار، منها 277.4 مليار في سوق صناعة الأقمار الصناعية وحدها.
2- الاستثمار في البنية التحتية الإفريقية:
دفعت مصر في اتجاه تنمية البنية التحتية الإفريقية على نحو ما انتهجته في الداخل المصري، ولذلك فقد تبنت “المبادرة الرئاسية لتنمية البنية التحتية في أفريقيا PICI”، بما تشمله من مشروعات لربط دول القارة مثل مشاريع الربط الملاحي كمشروع الربط بين بحيرة فكتوريا والبحر المتوسط والذي يخدم الدول الأفريقية الحبيسة ويوفر لها منفذاً اقتصاديًا على باقي دول القارة والعالم الخارجي ومشروع الطريق السريع عبر الصحراء الكبرى، ومشروع خط الغاز العابر للصحراء، ومشروع خط الألياف الضوئية العابر من الجزائر إلى نيجيريا مروراً بالنيجر، وشبكة الألياف الضوئية للربط بين رواندا والدول المجاورة. ونتاجًا لذلك برز مشروعان هامان للغاية هما:
(أ) – مشروع “طريق الإسكندرية – كيب تاون“ للربط البري بين دول القارة والذي يمتد عبر تسعة محاور طولية وعرضية وعبر 15 دولة وبطول إجمالي يبلغ 9.7 ألف كيلو متر، ومن بين أهم هذه المحاور عرضيًا الإسكندرية – داكار، ليربط شرق القارة بغربها فيبدأ من الإسكندرية ليمر بدول شمال إفريقيا بالكامل ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا لينتهي في داكار بالسنغال. وطوليًا يأتي محور الإسكندرية – كيب تاون ليربط أقصى الشمال بأقصى الجنوب فيبدأ من الإسكندرية ليمر بالسودان، اثيوبيا، كينيا، تنزانيا، زامبيا، زمبابوي، بتسوانا ليصل إلى كيب تاون في جنوب إفريقيا ويختصر هذا الطريق المسافة إلى أربعة أيام بعدما كانت تستغرق شهور.
(ب)- مشروع “الربط الكهربائي بين دول القارة” والذي بدأ فعليًا بالربط الكهربائي بين مصر والسودان لكن المشروع أكبر من ذلك حيث ينضوي تحت ما يُعرف بـ مشروع Champion الذي يهدف إلى تطوير شبكة الربط الكهربائي القاري، وتتولي مصر تطوير هذه الشبكة بناء على طلب من وكالة الاتحاد الإفريقي للتنمية “نيباد”، بهدف خلق شبكة الرئيسية للربط الكهربائي بين دول القارة وبين القارة بالكامل وقارة أوروبا، فبعد إتمام المرحلة الأولى من مرحلتي الربط الكهربائي بين مصر والسودان، تتمثل المرحلة التالية في الربط الكهربائي مع الشبكة الإثيوبية فيما يُعرف بمشروع ربط شبكات دول حوض النيل الشرقي، ثم في مرحلة لاحقة ربط شبكات دول حوض النيل الإحدى عشر، يلي ذلك مرحلة أخرى تربط بين الشبكة الأخيرة وشبكة أخرى في نهر الكونغو، مما يجعل الشبكتان معًا توفران الطاقة الكهربية لعدد كبير من دول القارة وتُصدر الفائض إلى أوروبا عبر مصر.
3- الاستثمار في الشباب الإفريقي:
مُنذ تولي مصر رئاسة الاتحاد الافريقي أظهرت اهتمامًا غير مسبوق بالشباب الأفريقي، ولعل أبرز تجليات ذلك كان إطلاق الرئيس السيسي في مارس 2019 “ملتقى الشباب العربي الإفريقي” في أسوان، كأول منصة تجمع شباب التجمعين الذين يُشكلان بعضًا من أهم الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، تلى ذلك إطلاق “البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب الإفريقي للقيادة” تنفيذًا لإحدى توصيات منتدى شباب العالم 2018، ويهدف البرنامج إلى تجميع الشباب الإفريقي بمختلف انتماءاته ومعتقداته تحت مظلة واحدة هدفها التنمية والسلام، وذلك استكمالًا لدور مصر في المشاركة الفعالة مع الحكومات الإفريقية الأخرى بالاستثمار في شباب القارة، بهدف تنمية قُدرات أكثر من ألف شاب من قارة إفريقيا عبر 10 دورات كل دورة بسعة 100 شاب.
ثانيًا – على المستوى الدولي
أما على المستوى الخارجي فقد وظفت مصر الدبلوماسية لخدمة الاقتصاد، حيث عُقدت بين دول الاتحاد والقوى العُظمى الاقتصادية عددًا من المؤتمرات خلال العام أتى على رأسها:
- القمة الإفريقية – الصينية المُصغرة التي كان الرئيس السيسي قد شارك فيها على هامش قمة العشرين في أوساكا اليابانية خلال يونيو 2019، بصفته رئيسًا للاتحاد الإفريقي، وذلك بحضور رؤساء الصين، جنوب إفريقيا، والسنغال. وفيما تحتل الصين المركز الثاني عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي بما يُعادل 14.1 تريليون دولار، فإنها تُشكل الشريك الاقتصادي الأول للقارة، حيث بلغت صادراتها 105 مليار دولار بما يزيد عن خُمسة واردات دول القارة، كما بلغت واردتها 99 مليار دولار بما يوازي تقريبًا رُبع الصادرات الإفريقية في عام 2018. ورغم ذلك فقد خرجت هذه القمة بنتائج تخدم مصالح الدول الإفريقية التي تُعاني من قواعد تجارة غير عادلة مع نظيرتها المُتقدمة، حيث دعي البيان النهائي للقمة إلى تعزيز التنسيق والحفاظ على التعددية، وحماية النظام التجاري الدولي القائم على القواعد، وتشجيع الأنماط التنموية والتجارية العادلة والمستدامة والقائمة على الاحترام المتبادل، ووضع جدول أعمال أكثر توازنا للمفاوضات التجارية الدولية، لتحقيق الرخاء المشترك والنمو الاقتصادي العالمي.
- أمام مجموعة العشرين ذاتها جاءت كلمة الرئيس مُطالبة الدول المُتقدمة بتذليل العقبات أمام النفاذ للتمويل لدول القارة، وتيسير الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية والتكنولوجيا البازغة وتسخيرها لخدمة أغراض التنمية، وتضييق الفجوة الرقمية، فضلًا عن توفير الخدمات الأساسية ومنها التعليم والنفاذ للدواء والتكنولوجيا العلاجية بتكلفة أقل لدولها.
- أكدت مصر على ذات المعاني مُجددًا، في 25 أغسطس من ذات العام عندما طالبت الدول المُتقدمة بتنفيذ التزاماتها التنموية تجاه دول القارة، حيث جاءت كلمة الرئيس في فرنسا أمام قمة مجموعة دول السبعة التي صدرت مُجتمعة ما إجماليه 125 مليار دولار للدول الإفريقية واستورد منها ما قيمته 152 مليار دولار من السلع في 2018، لتبرز الحاجة إلى العمل الجماعي بين إفريقيا وشركائها الدوليين، خاصة الدول الصناعية الكبرى، لإيجاد حلول للمشاكل والتحديات، حيث إنه يجب بلورة حلول بشكل عملي وواضح وقابل للتنفيذ على أرض الواقع، وفى إطار المصلحة المتبادلة والمتوازنة بين إفريقيا ودول العالم.
- برزت الدبلوماسية الاقتصادية للاتحاد الافريقي بقيادة مصر في أبهى صورها خلال جلسات مؤتمر طوكيو الدولي السابع للتنمية الأفريقية “تيكاد 7” في 27 أغسطس 2019، والذي يجمع دول القارة مع اليابان، كونها أحد أهم الشُركاء التنمويين في إفريقيا حيث بلغت مُساعداتها التنموية 4.5 مليار دولار في الفترة من 2014-2017 عبر Official Development Assistance (ODA)، واستثمرت ما إجماليه 20 مليار دولار في الفترة من 2016 وحتى 2018، ولا ترتبط معوناتها أو استثماراتها النقدية أو الفنية بشروط سياسية. لذلك ركز المؤتمر الذي حضره 40 دولة على محاور ثلاثة رئيسية تعلقت منها اثنتين بالجانب الاقتصادي هما: تسريع التحول الاقتصادي الإفريقي بمساعدة اليابان، وتحسين بيئة الأعمال والاستثمار في إفريقيا من خلال إشراك القطاع الخاص، وكذلك بناء مجتمعات مستديمة، أما المحور الأخير فخصص لتكريس أسس الأمن والاستقرار في القارة الأفريقية. وقد جاءت كلمة الرئيس فيه داعية كافة مؤسسات القطاع الخاص والشركات اليابانية والعالمية ومؤسسات التمويل الدولية، للتعاون والاستثمار في أفريقيا، مُطالبةً إياها بالاضطلاع بدورها في تمويل التنمية بأفريقيا، وتوفير الضمانات المالية لبناء قدرات القارة، بما يسهم في تعزيز التجارة وزيادة الاستثمار. وقد انتهت القمة بوعود باستثمار القطاع الخاص الياباني ما إجماليه 20 مليار دولارًا أخرى خلال السنوات الثلاث القادمة، وتدريب 3 آلاف شاب إفريقي من خلال برنامج تنموي ليشكلوا مُحرك لتنمية دول القارة خلال ستة أعوام.
- لم تمل مصر من عرض الرؤية الإفريقية للتنمية في كُل المحافل الدولية، ففي نوفمبر 2019 خلال القمة غير الرسمية بين مجموعة العشرين ودول القارة التي انعقدت في برلين، شدد الرئيس خلال كلمته على أن جذب الاستثمارات العالمية قاطرة لا غنى عنها للاستقرار والازدهار في القارة، بالنظر إلى دور هذه الاستثمارات في زيادة فرص التشغيل ونقل التكنولوجيا، وبناء القدرات الإنتاجية وتقوية إسهام الدول الأفريقية في الإنتاج والتجارة العالميين.
- عُقدت تحت رئاسة مصر للاتحاد لأول مرة قمة روسيا إفريقيا الأولى، حيث باتت القوة الروسية الاقتصادية تتنامى مؤخرًا فارتفعت الصادرات الروسية للقارة من 8.4 مليار دولار في 2014 إلى 17.4 مليار في 2018، فيما استقرت وارداتها عند مستوى 2.5-3 مليار دولار سنويًا. وقد خرجت هذه القمة بسبعة محاور للتعاون بين الطرفين، أهمها المحور الاقتصادي، والذي هدف إلى تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي عن طريق توثيق الجهود الداعمة للتجارة والاستثمار والتنمية المُستدامة بينهما، دعم رجال الأعمال الروس والأفارقة في دراسة سُبل التعاون متبادل المنفعة، وكذلك اتخاذ خطوات لتحديد المجالات الواعدة للشراكة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين روسيا الاتحادية والاتحاد الأفريقي، ثم تعزيز التعاون في مجال تأمين وتنويع مصادر الطاقة، وأخيرًا الاتفاق على المواجهة المشتركة للإملاءات السياسية والابتزازات التجارية في سياق التعاون التجاري والاقتصادي.
- بالمثل عُقدت للمرة الأولى في يناير 2020، وتحت رئاسة مصر للاتحاد الأفريقي قمة الاستثمار البريطانية- الإفريقية الأولى في العاصمة البريطانية لندن، والتي وضعت الأسس لإقامة شراكات جديدة بين المملكة المتحدة والدول الأفريقية، على أساس التجارة والاستثمار والقيم المشتركة والمصالح المتبادلة. وانتهت بإعلان ما قيمته مليارات الجنيهات من الصفقات التجارية الجديدة بين الطرفين.
جمعت هذه القمم والمؤتمرات دول القارة مع القوى العظمى من أهم المُستمرين فيها، وعلى رأسهم فرنسا باستثمارات تبلغ 64 مليار دولار، هولندا، 63 مليارًا، الولايات المُتحدة بـ 50 مليارًا، المملكة المُتحدة 46 مليارًا، الصين 43 مليارًا، وإيطاليا بـ 28 مليارًا، والتي تُشكل مُجتمعة ما إجماليه حوالي 300 مليار دولار من الاستثمارات المُتراكمة، وتبلغ صادرات القارة وواردتها منها وإليها ما يزيد عن نصف تجارتها الخارجية، ومع ذلك مُثلت فيها القارة على قدم المُساواة مع تلك الدول وعرضت أجندتها ورؤيتها للتطوير بعيدًا عن الاستغلال الاستعماري القديم لمُعظم هؤلاء الشركاء، وقد كان ذلك في جزء كبير منه بفضل ما تتمتع به مصر من ثقل سياسي واقتصادي على المُستوى الدولي، جنته من نجاح برنامجها للإصلاح الاقتصادي والذي أهلها لتكون مثلًا يُحتذي به في الخروج من ضيق الأزمة إلى ما رحابة ما يُتوقع أن يكون نموً مُستدامًا طويل الأجل.