ليبيا

“مؤتمر برلين”.. مرحلة جديدة لتسوية الأزمة الليبية

تستضيف العاصمة الألمانية “برلين”، الأحد 19 يناير 2020، محادثات السلام الليبية، التي تهدف إلى الحد من التدخلات الأجنبية التي تعزز الصراع الداخلي، في محاولة لاستئناف الحوار بين الفرقاء الليبيين تمهيدًا للتسوية سياسية، وذلك بحضور طرفي الصراع الليبي، ومُمثلين لعدد من المنظمات الدولية “الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الجامعة العربية، الاتحاد الأفريقي”، بجانب مشاركة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن “الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، والمملكة المتحدة”، علاوة على حضور إيطاليا، وألمانيا الدولة المنظمة.

 أما دول الجوار فستحضر مصر، الجزائر، بالإضافة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى المستوى الأفريقي فقد دُعيت دولة الكونغو، لكونها رئيسة لجنة رفيعة المستوى معنية بالشأن الليبي، لمدة ثلاث سنوات بتكليف من الاتحاد الأفريقي. فيما تتزامن القمة مع زيارة “أردوغان” الرئيس التركي إلى برلين، التي ستستغرق يومًا واحدًا، ولم يعط مكتبه الذي أعلن عنها الزيارة، أية تفاصيل أخرى.

جاء قرار الانعقاد في أعقاب دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين حكومة الوقاف، والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير “خليفة حفتر”، حيز التنفيذ، اعتبارًا من يوم 12 يناير، بعد مرور أكثر من 9 أشهر على بدء عملية تحرير طرابلس بقيادة “حفتر”؛ حيث تقدمت القوات وسيطرت على مدينة “سرت” ذات الأهمية الاستراتيجية التي تقع على الساحل الليبي. علاوة على اجتماع قادة طرفي الصراع في موسكو للتشاور بشأن ترسيخ وقف إطلاق النار تمهيدًا للتسوية السياسية في البلاد، إلا أن المشير “حفتر” غادر بدون التوقيع على اتفاق نتيجة عدم التوافق حول عدد من البنود التي تتعلق بوضع المليشيات الإرهابية، ورغبه أنقرة في زيادة نفوذها في الأزمة الليبية. كما توجه “حفتر” إلى اليونان في زيارة مفاجئة، قبل المؤتمر لبحث عدد من القضايا محل الاهتمام؛ حيث أوضح “نيكولاس ديندياس” وزير الخارجية اليوناني أن “أثينا على استعداد لدعم ليبيا لكي تكون دولة ديمقراطية مستقرة”، فضلاً عن مسانداتها محادثات السلام في برلين لاستعادة الأمن وإنهاء القتال بين طرفي الصراع. 

إذن ما الجديد في مؤتمر برلين؟

يعد مؤتمر برلين خطوة أوروبية جديدة تم الإعداد لها من خلال التنسيق بين المبعوث الأممي “غسان سلامة” والمستشارة الألمانية منذ منتصف أغسطس 2019، كما تم مناقشة التحضيرات الخاصة به من خلال عقد اجتماع وزاري على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019، تمهيدًا لتقارب وجهات النظر حول الأوضاع الراهنة، بالتنسيق مع عدد من القوى الإقليمية والدولية، بجانب الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية. 

ويسعى المؤتمر إلى إنشاء مظلة داعمة وحامية لما سيتوصل إليه الليبيين، لدعم العملية السياسية بقيادة المبعوث الأممي، وليس حل الأزمة على كافة الأصعدة، كما تم الاتفاق على أن مخرجات المؤتمر سيتم متابعة تنفيذها من قبل القوى الدولية التي ساهمت في التحضيرات من خلال إنشاء لجنة للمتابعة، إلى جانب بعثة الأمم المتحدة لتنفيذها، وذلك على عكس ما شهدته مخرجات الاجتماعات السابقة التي كان يُطرق تنفيذها إلى بعثة الأمم المتحدة التي كانت تنفذها بشكل منفرد بعد حصولها على الدعم الدولي، وأحيانًا لم تتمكن من الحصول عليه، وذلك وفقًا لما أوضحه المبعوث الأممي

فيما كشفت مسودة البيان الختامي لمؤتمر برلين، عن عدد من المسارات المقترحة، التي من المفترض تبنيها في المؤتمر، لكي يتم إحالتها إلى مجلس الأمن الدولي لبحثها التي تتضمن:

  • وقف إطلاق النار؛ يحث البيان على وقف إطلاق النار بين طرفي الصراع، تمهيدًا على المدى الطويل أن يؤدي إلى “وقف شامل لجميع الأعمال العدائية، بما في ذلك العمليات التي تنطوي على استخدام الطائرات فوق الأراضي الليبية”، على أن تقوم الأمم المتحدة على متابعة تنفيذ متابعة الهدنة. كما يدعو إلى وقف تنقل القوات المتحاربة، أو نقل قوات “من أجل تقديم دعم مباشر لتلك الأطراف في جميع الأراضي الليبية منذ بدء سريان الهدنة”. 
  • استعادة العملية السياسية؛ يؤكد البيان على أهمية استعادة العملية السياسية برعاية أممية، تمهيدًا لتشكيل حكومة موحدة، ومجلس رئاسي في ليبيا، مع التحضير لانتخابات برلمانية مستقلة، بجانب مُطالبة مجلس الامن الدولي، والاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية إلى التصدي لأي إجراء يُعرقل العملية السياسية. فيما أكد على أهمية الدور الذي تلعبه دول الجوار في استقرار ليبيا.
  • الإصلاحات الأمنية؛ يدعو البيان إلى “إصلاح قطاع الأمن، واستعادة احتكار الدولة للاستخدام القانوني للقوة”، علاوة على دعم إنشاء قوات مسلحة ليبية، وقوات للأمن الوطني والشرطة، خاضعة للقوى المدنية المركزية، بناء على المحادثات التي عقدت في القاهرة والوثائق ومخرجاتها.
  • الإصلاحات الاقتصادية؛ يقترح البيان تشكيل لجنة من خبراء اقتصاديين، لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني الليبي، وذلك تمهيدًا “لوضع آلية من شأنها أن تعيد إعمار الاقتصاد في كافة المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة الوفاق الوطني الجديدة”. 
  • حظر توريد الأسلحة؛ يتعهد المشاركون بالتطبيق الكامل وغير المشروط لقرارات مجلس الأمن فيما يتعلق بحظر الأسلحة، مع مناشدة مجلس الأمن فرض عقوبات على الدولة التي ستقوم بانتهاك حظر الأسلحة، واتفاق وقف إطلاق النار. 
  • الأوضاع الإنسانية؛ يؤكد البيان أهمية احترام حقوق الإنسان في ليبيا، مع تحسين أداء المؤسسات القضائية، بالإضافة إلى وضع حد للاعتقالات التعسفية، وإطلاق سراح جميع من تم اعتقاله بشكل غير قانوني. مع حث السلطات الليبية على إغلاق مراكز احتجاز المهاجرين وطالبي اللجوء، وإخضاع التشريعات الليبية الخاصة بالهجرة واللجوء وفقًا للقانون الدولي. 

دوافع برلين لتسوية الأزمة الليبية

تسعى القيادة الألمانية إلى تسوية الأزمة الليبية، لدرء المخاطر، وكنهج استباقي لمواجهة تعقيدات المشهد السياسي الداخلي الذي ساهم في تأزم الأوضاع، علاوة على استمرار الانقسام بين الفرقاء الليبيين، بالإضافة إلى تنامي الفاعلين الدوليين في الأزمة، الأمر الذي حذر منه وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس”، من إن تداعيات هذه الوضاع ستنعكس بشكل سلبي على ليبيا، رافضًا تحولها إلى ساحة للحرب بالوكالة. 

لذا تعتبر الحكومة الألمانية قوى دولية محايدة تجاه طرفي الصراع، ولديها علاقات جيدة بالدول الفاعلة في الأزمة، فضلاً عن رغبتها في ريادة عملية الاستقرار في ليبيا، وبروزها في السياسة الأوروبية، كما إن برلين قلقة بالفعل من أن تصبح ليبيا، مثل سوريا وهو ما حذرت منه المستشارة الألمانية.

 وعليه يبدو أن “ميركل” تحركها مصلحة بلدها في الصراع ورغبتها في تشكيل إرثها في نهاية فترة ولايتها كمستشارة؛ مما دفعها إلى التدخل في الأزمة بشكل مباشر من خلال تبني جهود الوساطة، وعقد مؤتمر دولي لتقريب وجهات النظر بين طرفي الأزمة، والقوى الدولية الداعمة لهم خوفًا من استمرار حالة الفوضى وعدم الاستقرار، ومعاناة الشعب الليبي، وزيادة موجات الهجرة غير الشرعية، هربًا من ويلات الحرب الأهلية، وتحولها إلى دولة عبور للمهاجرين الأفارقة في تجاه أوروبا

بجانب كونها ستصبح ملاذًا آمنًا للجماعات الإرهابية والمرتزقة الفارة من مناطق الصراع والنزاعات وخاصة من سوريا، الذين يتم توظيفهم من بعض القوى الإقليمية لصالح خدمة مصالحهم الخاصة التي تتجسد في تقويض أمن واستقرار دول الجوار الليبي، علاوة على الإضرار بمصالحهم في عمقهم الاستراتيجي. الأمر الذي سينعكس بشكل سلبي على الأمن الأوروبي بشكل عام، وألمانيا بشكل خاص. فمازالت حالة الانقسام الأوروبي تجاه قضية اللاجئين والمهاجرين مستمرة، نتيجة عدم التوافق والتنسيق حول إدارتها، كما أصبحت ورقة ضغط عليهم من قبل تركيا، بالرغم من إبرام اتفاق معها بشأن تسوية المسألة، لم يتم تسويتها داخل العواصم الأوروبية. 

بالإضافة إلى استمرار الخلاف بشأن التسوية السياسة الليبية بين القوى الأوروبية، الذي تمثل في عدم التوافق بين فرنسا وإيطاليا على إدارة الأزمة، فالنسبة لباريس فإنها تعد موطئ قدم لها ومجال للنفوذ في المنطقة، علاوة على الرغبة في الاستفادة من مواردها الاقتصادية والنفطية، وموقعها الاستراتيجي المقابل للسواحل الأوروبية المطلة على البحر المتوسط، لذا فقد دعمت باريس “حفتر” باعتباره فاعلًا أساسيًا في إدارة التسوية السياسية، أما روما فيرجع اهتمامها بالدولة الليبية إلى كونها كانت مستعمرة إيطالية، وتمثل مجال حيوي لها، ومصدر من مصادر الطاقة، كما ترغب روما في تأمين استثمارات شركة إيني الإيطالية فيها، مما دفعها إلى دعم  حكومة الوفاق الوطني لفترات من الوقت، وعارضت عدد من المبادرات المطروحة بشأن التسوية بما فيها المبادرة الفرنسية، التي تجاهلت روما.

ألمانيا على خطى القوى الأوروبية

جاء الدور الألماني في تسوية الأزمة الليبية كرد فعل على تحركات القوى الأوروبية الأخرى، وليس مبادرًا، كما أن التحرك رغم كونه منفردًا، وحاول التنسيق مع القوى الدولية الفاعلة في الأزمة، إلا إنه جاء وفقًا لما تقضيه المصالح الوطنية لبرلين، لذا فقد أطلقت “ميركل” منذ عام ما يُسمى بـ “عملية برلين” التي من شأنها تعبئة جميع الدول الفاعلة في ليبيا وجمعهم حول طاولة المفاوضات، تمهيدًا لتسوية الأوضاع الليبية. 

وفيما يتعلق بالمبادرات الأوروبية الأخرى التي جاءت بشأن ليبيا؛ فقد تبنى الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” جهود الوساطة بين الفرقاء الليبيين من خلال استضافة مؤتمرين في باريس الأول في 25 يوليو 2017، لوقف إطلاق النار، مع التعهد بإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن، والثاني في 29 مايو 2018، مع اقتراح تحديد موعد يوم الانتخابات في 10 ديسمبر من ذلك العام.  

في المقابل؛ نظمت إيطاليا – بمبادرة من رئيس الوزراء جوزيبي كونتي – مؤتمراً آخر في باليرمو في الفترة 13-14 نوفمبر 2018، الذي يدعم خطة المبعوث الأممي، الساعية على تحقيق الاستقرار والتسوية السلمية للأوضاع الداخلية، ولكن نتيجة عدم التوافق بين القوى الفاعلة وطرفي الصراع، لم تتحقق مخرجات المؤتمرات، وأصبح الشعب الليبي أكثر المتضررين من هذه المفاوضات التي لم تحسم الموقف بين طرفي الصراع بشكل فعال. 

وعليه فقد وجدت برلين نفسها وسط مشهد شديد التعقيد ينعكس عليها بشكل عميق، كما إن قيادتها للموقف الآن من المتحمل أن تواجه عدد من تحديات التي تكمن في عدم القدرة على السيطرة على الخلافات بين القوى الفاعلة في الأزمة، وتأثيرها على طرفي الصراع الليبي، كما أن تراجعها سيمنح شرعية للقوى الأجنبية التي تحاول إعادة التمركز والانتشار فيها على التصعيد.

إجمالًا؛

 يمثل المؤتمر بوتقة جامعة لكل القوى المتضادة، في محاولة للتوافق حول عدد من الإشكاليات التي تكمن في التصدي للتدخلات الخارجية في الشئون الليبية، علاوة على مواجهة تنامي موجات المرتزقة، التي تتدفق إلى البلاد مستغلة حالة الانقسام الداخلي لكي تتمركز داخل الأراضي الليبية، مع وقف تصدير السلاح.  

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

آية عبد العزيز

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى