ليبيا

الخيارات العسكرية التركية في ليبيا… وقت ضيق وبدائل محدودة

أتخذت كافة دول شرقي المتوسط، وتحديداً كل من مصر واليونان وقبرص وإيطاليا، وحتى إسرائيل، سلسلة من التدابير الأمنية والعسكرية أستعداداً لما يمكن أن يُقدم عليه النظام التركي الحاكم في ما يتعلق بالملف الليبي. فبعد أن أقر البرلمان التركي، (بأغلبية 269 نائب موافق مقابل 125 نائب غير موافق)، نصي مذكرتي التفاهم المتعلقتين بترسيم الحدود البحرية، والدفاع والأمن، واللتين تم توقيعهما بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق في طرابلس، أصبحت كافة الأطراف في المنطقة وعلى رأسها حكومة طرابلس، في انتظار على أحر من الجمر لما يمكن أن تقدمه تركيا في هذه المرحلة لحكومة السراج على المستوى العسكري، في ظل تراجع مستمر لقوات السراج في محاور جنوبي طرابلس المختلفة. فما هي الخيارات العسكرية المتاحة لدى أنقرة في ليبيا؟

مذكرة التفاهم الأمنية والعسكرية … بنود عامة ومضمون غير واضح

حسب نص المادة الرابعة من مذكرة التفاهم الأمنية والعسكرية بين الحكومة التركية وحكومة طرابلس، فإن بنود التعاون العسكري بين الجانبين تتلخص في إنشاء قوة انتشار سريع، تنضوي تحت قيادة رئاسة الأركان التابعة لحكومة طرابلس. هذا النص في مجمله لا يعني أن هذه القوة ستكون مشتركة بين الجانبين، بل أن الدور التركي في تشكيل هذه القوة، حسب ما جاء تالياً في هذه المادة، هو الدعم التدريبي والتسليحي والتخطيطي والإستشاري، بجانب نقل الجانب التركي لخبراته التي اكتسبها من عملياته شمال سوريا، والتي من خلالها قام بتشكيل فصائل مسلحة عديدة من بقايا المجموعات الإرهابية والتكفيرية التي كانت تعمل في المناطق الجنوبية والشرقية لسوريا. 

بقية بنود هذه المادة تتعلق بعمليات تبادل المعلومات الإستخباراتية، والتدريب وتوفير المعلومات التقنية، وعمليات الدعم الفني واللوجيتسي، والتأهيل والصيانة، سواء كانت الخاصة بالمباني ومؤسسات التدريب، او الخاصة بالمعدات والآليات والمنظومات القتالية. بجانب ذكر هامشي لبنود أخرى ربما لا يكون لها في المرحلة الحالية دور، مثل التعليم الأمني والعسكري، والمناورات المشتركة، والتعاون في مجال الصناعات الدفاعية، وعمليات حفظ السلام ومكافحة القرصنة، والمساعدة التركية في أعادة تأهيل وبناء جهاز الشرطة التابعة لحكومة الوفاق.

إذن بنظرة عامة لمواد هذه الاتفاقية، وتحديداً المادة الرابعة، سنصل الى خلاصة مفادها أنها في وضعها الحالي لا تضع اي أسس قانونية أو منطقية لتواجد وحدات “قتالية” تركية على الأراضي الليبي، وهذا هو تماماً عكس ما تروج له وسائل الإعلام التركية والقطرية والليبية الموالية لحكومة السراج. خاصة وأنه على المستوى الدستوري، تحتاج الحكومة التركية الى تصويت جديد من جانب البرلمان في حالة ما إذا أرادت الرد بالموافقة على إرسال قوات تركية الى ليبيا بناء على طلب حكومة السراج، وهذا الطلب لا يوجد حتى الآن ما يدعم بشكل قاطع نبأ تقديمه لتركيا من جانب حكومة السراج، التي إن قامت بهذا ستكون قد أوغلت أكثر في انتهاكها لإتفاق الصخيرات السياسي ولكافة الأعراف السياسية سواء المحلية او الدولية.

ضغوط ميدانية … وبدائل محدودة

بناء على ما سبق، فإن الحكومة التركية تتضائل أمامها الخيارات المتاحة لنجدة حكومة السراج من تبعات الهجوم العسكري الكاسح للجيش الوطني الليبي، الذي حقق منذ بداية المرحلة الثالثة من عملياته في طرابلس تقدماً ملموساً. من ضمن الخيارات المتاحة أمام الحكومة التركية هو خيار “الشركات الأمنية”، أو بمعنى أدق “المرتزقة”. فمنذ أبريل الماضي وحتى اليوم، كان الدعم العسكري الذي يصل الى طرابلس من تركيا يمر في مسارين رئيسيين، الأول هو المسار البحري، الذي فيه كان يتم إستغلال السفن التجارية التي تنطلق من موانئ جنوب وغرب تركيا في اتجاه موانئ الخٌمس ومصراتة وطرابلس، من أجل نقل العتاد العسكري التركي من طائرات مسيرة ومدرعات وذخائر. لكن هذا المسار بات يعاني من مخاطر متزايدة، فاليونان من جهتها تقوم بتفتيش أية سفينة مشتبه بها تمر عبر منطقتها الإقتصادية في اتجاه الموانئ الليبية، كما قامت البحرية العربية الليبية مؤخراً بتفعيل حق التفتيش والزيارة لفحص اية سفينة تجارية تمر قبالة السواحل الليبية.

المسار الثاني كان عبر رحلات جوية مدنية متنوعة، منها ما هو عبر شركات شحن مولدوفية وأوكرانية الجنسية، مثل شركة Aerotrans  المولدوفية، التي وخلال هذا الشهر فقط قامت طائرتها من نوع بوينغ 474-412أف بستة رحلات لنقل العتاد العسكري من مدن ودول مختلفة هي أنقرة واسطنبول والجزائر وبلجيكا، الى مطار مصراتة الليبي، وهذه الطائرة بالذات هي الطائرة التي قصدها المتحدث بإسم الجيش الوطني الليبي مؤخراً حين حذر شركات الطيران الدولية من نقل أسلحة وذخائر إلى حكومة الوفاق. في نفس الإطار تأتي رحلات لطائرات شحن من نوع أنطونوف-26 أوكرانية أنطلاقاً من أسطنبول في اتجاه مطار مصراتة الليبي، وهي طائرات مؤجرة لجأت إليها الحكومة التركية نتيجة لمحاولة زيادة الدعم الجوي المقدم لحكومة السراج، في ظل استحالة قيام اية طائرات تابعة للخطوط الجوية التركية او لسلاح الجو التركي بأية طلعات الى المطارات الليبية حالياً.

المسار الثالث الذي بدأت الحكومة التركية في محاولة استغلاله، هو مسار استقدم عناصر متطرفة من الفصائل التي كانت تقاتل الجيش العربي السوري، ونقلها الى ليبيا عبر رحلات جوية مدنية، وقد لوحظ منذ يوم 25 من الشهر الجاري، أنه بشكل يومي، وفي ساعات متأخرة من الليل، تقلع من أسطنبول ما بين رحلتين الى أربعة رحلات تابعة لشركات طيران ليبية (الأفريقية – الأجنحة الليبية – البراق) في اتجاه طرابلس ومصراتة، وهو ما يمكن تفسيره انه عملية نقل ممنهجة لعناصر من هؤلاء لمحاولة دعم حكومة الوفاق وتعويض خسائرها البشرية الكبيرة. يضاف الى هذه الرحلات رحلات أخرى لشركة “بترو أير” الليبية، على متن طائرات من نوع “إمبراير أي170″، تصل بشكل شبه يومي الى طرابلس. فكرة نقل هذه العناصر التكفيرية من سوريا الى ليبيا تم طرحها مراراً على حكومة الوفاق في طرابلس، وقبلتها أخيراً تحت ضغط الخسائر الميدانية التي تتعرض لها على الأرض. 

عززت هذه الفرضية الأنباء التي نقلها المركز السوري للتوثيق، والتي أفادت ان عدداً من كبار الضباط الأتراك عقدوا سلسلة اجتماعات في طرابلس مع ضباط تابعين لرئاسة أركان حكومة الوفاق، تلتها سلسلة أخرى من الاجتماعات بين ضباط من الاستخبارات التركية وقياديين من ابرز الفصائل المسلحة الموالية لتركيا في الشمال السوري، وتم الاتفاق خلال هذه الأجتماعات على أن ترسل تركيا أعداد من مقاتلي ما يسمى “الجيش الوطني”، الذي شكلته تركيا سابقاً من بقايا الفصائل التكفيرية والمعارضة، ونشرته ضمن مناطق نفوذها في الشمال السوري. وقد عممت تركيا بالفعل، حسب معلومات المركز، دعوات لقيادات مسلحي ما يسمى “الجيش الوطني” لفتح الباب أمام الراغبين من المسلحين لتسجيل أسمائهم وتحضير القوائم تمهيداً لنقلهم إلى ليبيا، حيث تم تخصيص مرتبات شهرية لمن سيقبل نقله الى ليبيا تبلغ قيمتها 2000 دولار أمريكي

الأسلحة التركية في سوريا .. تجربة سيئة

الأسلحة والمعدات التركية الصنع التي تم تزويد حكومة الوفاق بها، والتي تكونت اساساً من العربات المدرعة من نوعي “كيربي” و”ڤوران”، والطائرات دون طيار “بيرقدار”، بجانب ذخائر خفيفة ومتوسط، ووسائط رؤية ليلية واتصالات. خلال منتصف الشهر الجاري نقلت تركيا الى مصراتة عبر البحر معدات أكثر تقدماً، من بينها صواريخ محمولة على الكتف للدفاع الجوي، بجانب صواريخ مضاد للدروع، لكن نجح سلاح الجو الليبي ليلة 19 من الشهر الجاري في تدمير معظم هذه المعدات، بغارات مكثفة شملت مناطق تقع جنوبي غرب مطار مصراتة، مثل معسكر (السكت)، وهو معسكر للدفاع الجوي يعد من أهم وأكبر المناطق التي يتم فيها تخزين المعدات والأسلحة القادمة من تركيا، بجانب مناطق أخرى مثل مزرعة السويحلي ومنطقة غيران، وعدة نقاط في محيط مدينة زليتن. 

يتوقع خلال الفترة القادمة ان تحاول تركيا بالتزامن مع عمليات نقل الأفراد من سوريا الى ليبيا، محاولة تزويد قوات الوفاق بأسلحة مضادة للدروع، مثل صواريخ UMTAS Mizrak-4 المضادة للدروع، بجانب صواريخ مضادة للطائرات مماثلة لصواريخ “سام 7” السوفيتية، وهنا لابد من الإشارة الى أن حليفة تركيا قطر، كان لها سابقة في هذا المجال، حين زودت الفصائل الجهادية في سوريا وليبيا بالمنظومات الصينية المحمولة على الكتف المضادة للطائرات “أف أن-6”. لكن برغم هذا كان من الواضح أن التأثير الذي أحدثته الأسلحة التركية في مسار العمليات العسكرية كان محدوداً، ويؤشر بشكل واضح أن الهدف كان إطالة المعارك وليس تحقيق حسم ميداني لصالح حكومة الوفاق. عملياً تعرضت الأسلحة التركية لإهانة ميدانية، حيث تم تدمير عدد كبير من الطائرات التركية دون طيار “بيراقدار”، وكذا عشرات العربات المدرعة تركية الصنع خلال المعارك جنوبي طرابلس.

المجريات الميدانية في معركة طرابلس

على المستوى الميداني، يستمر تقدم الجيش الوطني الليبي بوتيرة سريعة، يراعي فيها محاولة الوصول الى حسم عسكري سريع، أستباقاً للمحاولات التي يتوقع أن تقوم بها الحكومة التركية أواخر الشهر المقبل من أجل دفع البرلمان للموافقة على إرسال قوات الى ليبيا.في المرحلة الثالثة التي بدأت أوائل الشهر الجاري، كان محور صلاح الدين/ خلّة الفرجان هو المحور الأساس للعمليات، وفيه حقّقت قوات الجيش الوطني تقدّماً على اتجاهين أساسيين، الأول انطلاقاً من معسكر اليرموك شمالاً، والثاني من منطقة معسكر حمزة في اتجاه الشمال الشرقي. خلال الأيام الأولى من المعارك سيطرت قوات الجيش على عدّة مواضِع في خلّة الفرجان، من بينها مبنى الجوازات وأكاديمية الشرطة ومبنى ثانوية الهندسة العسكرية، لكن تبقى هذه المناطق مناطق اشتباك دائمة يتبادل الطرفان فيها السيطرة بشكل شبه يومي. 

المحور الرئيس الثاني هو محور مطار طرابلس، وفيه تتم العمليات على اتجاهين رئيسيين، الأول شمال المطار انطلاقاً من محيط كوبري المطار على خطي اشتباك، أحدهما في مناطق الكازيرما ومشروع الهضبة والخلاّطات، والثاني موازٍ له في اتجاه مسجد صلاح الدين ومعسكر النقلية ومناطق أخرى مُطلّة على طريق المطار، وقد حققت قوات الجيش الوطني في هذا الأتجاه خلال الساعات الماضية تقدماً كبيراً، بسطت فيه السيطرة بشكل كامل على طريق مطار طرابلس، وصولاً الى منطقة خزانات النفط ، مروراً بكوبري الفروسية ومعسكر النقلية. الاتجاه الثاني هو من جنوب وغرب المطار باتجاه الغرب، وفيه تحاول قوات الجيش الوطني قطع طريق الإمداد الذي يصل بين منطقة السوان شمالي غرب المطار ومنطقتي العزيزية وغريان، وتدور المعارك في هذا النطاق في مناطق كوبري الزهراء والتوغار والطويشة والسعدية. وقد سيطرت قوات الجيش خلال الأيام الماضية على مناطق الطويشة والسعدية، ما مكّنها من قطع الطريق المؤدّي جنوباً إلى العزيزية، لكنها تراجعت عن السعدية وأصبح الطريق مفتوحاً، لكنها تحتفظ بمواقعها في الطويشة التي تقع شمال شرق العزيزية. جدير بالذِكر هنا أنه بالتزامُن مع العمليات في هذا الاتجاه، تحاول وحدات الجيش المتواجِدة في منطقتي الزهراء والناصرية جنوبي شرق مدينة الزاوية الواقعة على المدخل الغربي للعاصمة، التقدّم باتجاه الشرق لمُلاقاة القوات المتقدّمة من غربي المطار. 

أقليمياً … تحديات كبرى أمام تركيا شرقي المتوسط

على المستوى الإقليمي، ونظراً للمواقف الصلبة التي اتخذتها دول مثل مصر واليونان وقبرص وإيطاليا وفرنسا، ومؤخراً ألمانيا، حاولت تركيا منذ أيام القيام بمناورة سياسية مفاجئة، بزيارة رئيس حكومتها أردوغان الى تونس، دون سابق إشعار، وبشكل لا يراعي الأعراف الدولية والدبلوماسية. وكان الغرض الأساسي من هذه الزيارة هو فتح جبهة لتوريد الأسلحة والمعدات (والمسلحين) الى ليبيا عن طريق معبر رأس جدير، بعد ان بدأت المخاطر والصعوبات تتزايد امام عمليات نقلها عن طريق البحر أو الجو. لكن كان للرئاسة والأحزاب في تونس رأي أخر، حيث أجمع الجميع على إدانة محاولة توريط تونس في الشان الليبي، او اجبارها على الدخول في حلف تحاول تركيا تشكيله شرقي المتوسط. كما تكلل هذا الموقف برفض الجيش التونسي هبوط أية طائرات عسكرية تركية في المطارات التونسية، وتحديداً بعد توارد معلومات ان تركيا كانت تخطط لتنفيذ ضربة جوية خاطفة على المطارات الليبية.

وأخيراً، نستطيع أن نعتبر الساعات القادمة على المستوى الميداني حاسمة، بعد أن قاربت المهلة التي منحها الجيش الوطني الليبي لفصائل مصراتة، كي ينسحبوا من طرابلس، من نهايتها. كما أن الأسابيع القادمة تبدو حاسمة أيضاً على المستوى الإستراتيجي، ففي مطلع العام الجديد سيتم لقاء هام جداً بين قبرص واليونان ومصر، ستحضره فرنسا، وفيه ستتم مناقشة خطة العمل المشتركة بين هذه الدول لمواجهة تركيا في المرحلة المقبلة، والتي تحمل في طياتها محاولات تركية حثيثة لإرسال قوات الى ليبيا. من وسائل التعاون المطروحة، تشكيل قوة بحرية يونانية – مصرية، تعمل في النطاق الرابط بين المنطقتين الإقتصاديتين لكلا البلدين، إلى أن يتم ترسيم الحدود البحرية بينهما.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى