
زيارة أردوغان لتونس…الدلالات والأهداف
أعلنت رئاسة الجمهورية التونسية عن استقبال الرئيس “قيس سعيد” لنظيره التركي “رجب طيب أردوغان”، 25ديسمبر2019، وتُعد تلك الزيارة الأولى التي يستقبل فيها “سعيد” رئيس دولة منذ اداءه اليمين الدستوري، 23أكتوبر الماضي، وجرى استقبال “أردوغان” رسميًا بمطار تونس قرطاج الدولي، ثم اتجه الرئيسان الى قصر قرطاج الرئاسي لمناقشة وطرح الملف الليبي. وتمتد الزيارة -وفقًا للبيان- يومًا واحدًا، وتضمنت تنظيم مؤتمر صحفي عقب انتهاء المشاورات.
تؤكد هذه الزيارة ، لم يُعلن عنها مسبقًا، وجود اتجاه قوي داخل المؤسسة الرئاسية التونسية لإيجاد حل للازمة الليبية، بما يضمن دعم موقف حكومة الوفاق الوطني برئاسة “فايز السراج”، وتمكين المبادرات المطروحة للحل، والتي تدعم بقاء حكومة الوفاق ككيان شرعي معترف به دوليًا، بما يتجاهل طبيعة المكون الميليشياوي المُحدد لسلوك “الوفاق”، والدور التركي الداعم لهذا الطرف وتأثيره على استقرار الدولة الوطنية في ليبيا. ويتناول التقرير قراءة في رؤية الرئيس التونسي “سعيد” لمسار حل الأزمة والذي يتماشى مع الطرح التركي، وجود اتجاه لتشكيل محور جديد –مغاربي- لتوفير دعم دولي لهذا الطرح، فضلاً عن السعي لاستباق مؤتمر “برلين” وتفريغ قضية الشرعية الليببية من الثوابت التي جرى مسبقًا تأكيدها ليكون الحل شاملاً لكل الليبيين.
زيارة “أردوغان” الى تونس … ترتيبات التحرك القادم
يمثل لقاء “أردوغان” و “سعيد” إعلان عن بدء تدشين محور دولي داعم لحكومة الوفاق، وهو ما يُعتقد أن يبدأ في عمله عبر قطاع دول جوار ليبيا في المغرب العربي والساحل الافريقي، بما يضمن إعادة ضبط موازين الصراع لضمان حفظ وجود “الوفاق” بالترتيبات القادمة. ويمكن تناول هذا التحرك واهدافه فيما يلي:
- إدخال فواعل جدد للانخراط بالأزمة: وتستهدف تركيا جني دعم دول اتحاد المغرب العربي ودول الساحل الافريقي لطرحها القاضي بدعم حكومة الوفاق؛ كونها دولاً كانت خارج المعادلة الليبية خلال الفترة السابقة، ويمكن توظيفها جوارها للقطر الليبي في تدعيم برنامج العمل التركي القاضي بدعم الوفاق بالمخالفة لقرارات الامم المتحدة ومجلس الأمن، انطلاقًا واستنادًا إلى اعتبارات تتعلق بكونها دول جوار للازمة وتتاثير بشكل كبير باحتدام الصراع والفراغ الامني في ليبيا.
وترى أنقرة أنها قادرة على التنسيق مع تلك الدول لعدة أسباب، فعلى صعيد دول الجوار الغربي لليبيا، توجد أنظمة حديثة العهد بالسلطة، ومساحات جغرافية كبرى مشتركة مع ليبيا. وتستهدف أنقرة الرؤساء الجدد -في تونس والجزائر- الراغبين في تحقيق طفرات بالسياسات الداخلية والخارجية لإرضاء المجال العام بهم، وتمثل القضية الليبية واحدة من المهددات الأمنية لتلك الدول، فضلاً عن فرص التنمية التي يمكن أن تحققها عبر التعاون الاقتصادي مع تركيا. وبالتالي يبدو أن الدخول لمعترك الصراع الليبي كدول للجوار سيفيد الأنظمة الحديثة سياسيًا، ويمنحها فرص للتنمية الاقتصادية والشراكة مع “أردوغان” بشكل كبير. وتأكد هذا الاتجاه بتصريح “اردوغان” خلال المؤتمر الصحفي خلال الزيارة بأن “تحدثت مع (بوريس) جونسون وأبلغته أن مشاركة تونس والجزائر بؤتمر برلين حول ليبيا مهمة”.
وعلى صعيد دول الساحل الافريقي، فان التنسيق التركي القائم مع قيادات الطوارق، والذي جرى في إسطنبول مؤخرًا، وهو ما يثير احتمالات ابتزازها لدول تشاد ومالي والنيجر، والدول الفاعلة فيها كفرنسا؛ حيث أن تلك القبائل تعتبر تلك الدول مجال لإدارة انتقالها وتجارتها للتهريب بكافة أنماطه، وبالتالي يمكن تحقيق التعاون وخفض نشاط تلك القبائل عبر بوابة أنقرة، بما يحقق الاستقرار المنشود في تلك البلدان.
- استباق مؤتمر برلين: وهو مسعى قطري تركي -التي تشعر بالعزلة- كونها تعي الاجماع الدولي لإيجاد حل شامل للازمة قائم على القضاء على الإرهاب والمظاهر المسلحة، وبالتالي إنهاء وجود المليشيات التي تستثمر فيها أنقرة والدوحة منذ 2011، وخسارة “أردوغان” لما اكتسبه معنوياً بعد توقيع “السراج” معه على اتفاقيات أمنية وبحرية. لذلك فان “إعلان تونس للسلام” ومخرجاته المتمثلة في عقد مؤتمر للأطراف الليبية وآخر تأسيسي وانتخابات متعددة المستويات من شأنه إعادة خلط أوراق الصراع، وتقويض الجهود الدولية الرامية لحل الصراع المشتعل التي تراها أنقرة مهددة لمصالحها.
- بدء ترتيبات موازية لادارة ملف الغاز بالبحر المتوسط: ومن المُحتمل أن تصبح تلك الصورة التعاونية مع دول الجوار الغربي لليبيا خطوة أولى لتفعيل نموذج وهيكل تنظيمي جديد لادارة التعاون في قضية الاستثمار بغاز والموارد الاقتصادية بمياه المتوسط، عبر تشكيل تحالف (تركي تونسي جزائري بالإضافة إلى حكومة الوفاق بطرابلس) والاستناد إلى الاتفاق البحري بين أردوغان والسراج في اجراء اتفاقيات بين أنقرة وتونس والجزائر بما يجعل أزمة الاتفاق دولية ومتعددة الاطراف. وما يعزز هذه الفرضية تصريح الرئيس التونسي”سعيد” عقب لقاءه التركي أن مسألة الاتفاق بين طرابلس وأنقرة غير مطروح خلال اللقاء، وتأكد “اردوغان” بأن الاتفاقيات مع السراج “هي شأن خاص للدولتين”، ما يعكس اتفاق الرؤى بينهما في تقويض المصالح الاقتصادية لدول شرق المتوسط لصالح تركيا.
تحركات مبكرة لدعم محور “الوفاق”
ظهرت عدة مؤشرات، منذ تولي “سعيد” مقاليد السلطة، تقود الى أن الرؤية التونسية القادمة ستركز على دعم حكومة الوفاق والكيانات المنبثقة عن اتفاق الصخيرات كي تكون محور أي حل قادم للمشهد الليبي المتأزم. وهو ما تبلور في مجموعة من الأحداث والمواقف التي أعلنها الرئيس التونسي خلال حملته الانتخابية، وصولاً الى اللقاءات الرسمية التي استقبل فيها مسئولي حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي، ومن قبلهم أعضاء المجلس الأعلى للدولة في ليبيا بقصر قرطاج، فضلاً عما تضمنه “إعلان تونس للسلام” حول الازمة الليبية -الصادر في 23ديسمبر الجاري- في أعقاب لقاء “سعيد” بأعضاء المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية. ويمكن تناول مؤشرات التقارب التونسي وحكومة الوفاق فيما يلي:
- مواقف “سعيد” من الصراع الليبي خلال المناظرات الانتخابية: وهو موقف أعلن فيه أنه حال فوزه “سيستقبل كل الأطراف الليبية لوضع حد للوضع الليبي المتأزم، ولكي يتمكن الشعب الليبي من تقرير مصيره بنفسه”. كما وجه الانتقاد لمؤتمر برلين؛ كونه يستبعد الليبيين من المشاركة فيه. وطالب الدول المتدخلة في ليبيا برفع “أيديهم عن الشعب الليبي”، وأكد أن “دور تونس تجاه الملف الليبي هو الأساس”، ووصفها بأنها ستكون “أرض الحوار”.
- تصريحات “سعيد” بعد حسم السباق الانتخابي: وتضمنت تلك التصريحات أنه “يتمنى زيارة ليبيا ولقاء رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج من أجل بحث آليات تحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا”، وكانت الخطوات الرسمية التالية بذات المستوى الذي أظهره “سعيد” تجاه التحرك والاشتباك مع الملف الليبي وتكريس الدعم لحكومة الوفاق الوطني.
- زيارة وزير الخارجية الألماني: فمع استقبال الرئيس التونسي لـ “هايكو ماس” وزير الخارجية الألماني -بعد أقل من أسبوع على توليه الرئاسة- تم تركيز اللقاء على تناول الملف الليبي، وكيفية تقريب وجهات النظر لبلورة رؤية مشتركة مع برلين لإيجاد حل دائم وإنجاح المؤتمر. وبذلك انتقل “سعيد” من حالة الانتقاد لفكرة المؤتمر التي تبناها خلال حملته الانتخابية الى محاولة الانخراط بترتيبات المانيا مع الدول المشاركة به، وتقديم رؤية لحل سياسي يحرص الرئيس على تضمينها.
- استقبال الأعلى للدولة الليبي: ظهر اتجاه “سعيد” جليًا خلال استقباله لـ “خالد المشري” رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، 29أكتوبر الماضي، والذي جرى فيه مناقشة مبادرة “مجلس الدولة” لحل الازمة، وطلبه أن تواصل تونس دورها في الملف الليبي. وعلى الجانب الاخر، أكد الرئيس التونسي على تمسكه بالشرعية الدولية لحل الصراع، وأهمية أمن ليبيا لبلاده والتزامها بالعمل لتكون قوة اقتراح وطرفًا لإيجاد حلول نافذة للتسوية.
- “السراج” يبادر بالاتصال: لم تمر ثلاثة أيام على اللقاء السابق حتى أجرى رئيس حكومة الوفاق “فايز السراج” اتصالاً بالرئيس التونسي، في 2ديسمبر الجاري، وإن أتى الاتصال في سياق تقديم التعازي في ضحايا حافلة “عين السنوسي”، إلا أنه تضمن بالتأكيد عرض لوجهات التقارب بين الطرفين، وهو ما تأكد بدعوة “السراج” لقصر قرطاج والتي تم تلبيتها في الأسبوع التالي للاتصال.
- لقاء “سعيد” و”السراج” وتأطير اتجاهات التعاون: استقبل الرئيس التونسي رئيس حكومة الوفاق، 10ديسمبر2019، والوفد -رفيع المستوى- المرافق له بقصر قرطاج. وتضمن اللقاء طرح مجموعة من الملفات السياسية والاقتصادية كتيسير إجراءات الانتقال بين تونس وطرابلس، والحالات الإنسانية التونسية العالقة في ليبيا، والليبيين الممنوعين من الدخول الى تونس. وأكد “سعيد” خلال اللقاء على أهمية حل الازمة وفقًا للشرعية الدولية، وأن يكون الليبيون طرفًا بمسارات حل الازمة.
- “إعلان تونس للسلام” استراتيجية تكوين محور داعم لـ “الوفاق”: مثل اجتماع “سعيد” بممثلي “المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية” بداية تدشين فعلي لمحور داعم لحكومة الوفاق والانخراط التونسي بشكل أكبر في الازمة الليبية؛ حيث كشفت الرئاسة التونسية عن تفويض المجلس للرئيس التونسي للتدخل ووضع حل للصراع، وهو ما جرى إعلانه في الإعلان الصادر بقصر قرطاج،23ديسمبر الجاري، وتم تسميته “إعلان تونس للسلام” والذي تم الاتفاق عليه باللقاء كأسس لحل الازمة.
وتضمن هذا الإعلان مجموعة من المحاور الرئيسية، والتي تم اعتمادها كرؤية ومبادئ للحل وعلى رأسها دعوة كلّ الليبيين للحوار للتّوصل إلى صيغة توافقيّة للحل واحترام الشرعية الدولية، والتأكيد على محورية أن يكون الحل ليبي-ليبي يضم كافة المكونات المدنية، والعمل على الاعداد لمؤتمر تأسيسي واعتماد قانون مصالحة وطنيّة شاملة وتنظيم انتخابات تشريعيّة ورئاسيّة ومحليّة حرّة ونزيهة.
ومما سبق، فان الاتجاه الذي يجري اعتماده في أروقة قصر قرطاج هو رؤية لإعادة تفعيل الدور التونسي في الازمة وحلها، ولكن ما ركزت عليه تلك الأنشطة الرئاسية في التواصل مع طرف واحد من أطراف الازمة الليبية، وهو الطرف الأضعف شرعيةً، وتجاهل أن يكون البرلمان الليبي الجسم الوحيد المنتخب في قلب تلك المبادرات هو تأكيد على أنها تمثل محاولة لإعادة الصراع الليبي الى المربع صفر، وتشكيل محور دولي داعم لحكومة الوفاق الخاضعة لسطوة مليشيات ومجموعات متطرفة. وجاءت زيارة الرئيس التركي “أردوغان” كإعلان رسمي عن هذا المحور.
وبالرغم من محاولة إضفاء صورة مشتتة لاهداف الزيارة وأرتباطها بالتعاون التجاري مع تونس، إلا أن الوفد الامني المرافق للرئيس التركي -وزراء الدفاع والخارجية ومدير المخابرات ومستشارين أمنيين- يكشف عن الطبيعة الحقيقية للزيارة، وقد برز اتجاه تونسي رافض لتلك التحركات وجاء أبرزها في دعوة حزب “مشروع تونس” رئاسة الجمهوريّة للتحلي بالشفافيّة التامّة مع الشعب التونسي بصدد أهداف الزّيارة واللّقاءات المرتبطة بها ومخرجاتها، كما دعى الحزب للنأي بتونس عن هذه الاصطفافات، وحذر “من أي تفكير في استعمال تونس منصة لأي عمل استخباراتي أو أمني أو عسكري لصالح تركيا في اتجاه ليبيا”. كما أصدرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بيانًا نددت فيه بمنع الصحافيين من تغطية الزيارة، وما تم إعلانه بان الزيارة “غير مُعلنة” واحتجاز بطاقات الصحفيين. والذي يمثل محاولة لاخفاء طبيعة الملفات التي جرى طرحها بين “سعيد” و “أردوغان”.
ومجمل القول، فقد تقاطعت خطط “أردوغان” وسياسات “قيس سعيد” بشكل واضح في التعاطي مع الأزمة الليبية بشكل عام، وفي دعم كيان حكومة “الوفاق” بشكل خاص، فضلاً عن تجاهل شرعية البرلمان الليبي المنتخب، والاستناد إلى الشرعية الدولية التي كانت حكومة السراج تحوذها عبر اتفاق الصخيرات. وبذلك فان مساحات التحرك التي فقدتها تركيا في السواحل والمجال الجوي الليبي يجري البحث عن انفاذها عبر الالتفاف من دول جوار أخرى تتفق على ذات الرؤية الأردوغانية لمستقبل ليبيا، والهادفة لتعطيل مسارات الحل السلمي العادل للازمة والقضاء على المليشيات والتنظيمات الإرهابية وقواعد دعمها من جماعات الاسلام السياسي المتطرف في طرابلس ومصراتة.



