أوروبا

انتكاسة سياسية.. تراجع مخطط إيطالي لمكافحة الهجرة الأوروبية

بعد أن لاقت صفقة المهاجرين التي أبرمتها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بشأن إرسال المهاجرين غير النظاميين إلى بلد غير عضو في الاتحاد الأوروبي، وهي “ألبانيا”، إشادات واسعة على الصعيد الداخلي الإيطالي وعلى الصعيد الخارجي من الاتحاد الأوروبي، تعرضت هذ الصفقة لانتكاسة قوية بعد أن قضت محكمة إيطالية بعودة المهاجرين إلى إيطاليا مرة أخرى باعتبارهم قادمين من دول “غير آمنة”، وهي ضربة قوية للاتفاق المثير للجدل بين حكومة روما اليمينية وتيرانا، والذي يهدف إلى الحد من وصول المهاجرين، وهي القضية التي تعد أحد أهم شواغل الداخل الأوروبي.

تعد إيطاليا من أكثر الدول التي يعبر إليها المهاجرون إلى الاتحاد الأوروبي بشكل غير شرعي خاصة القادمون من السواحل الإفريقية، وكان هذا الملف ضمن أولويات الحكومة اليمينية الحالية بقيادة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني التي رأت في خطة إرسال المهاجرين إلى ألبانيا نموذجًا لحل واحدة من أكثر مشاكل الغرب إثارة للتوترات السياسية، وهي الهجرة غير الشرعية، وكصفقة مربحة لرئيس وزراء ألبانيا للمساعدة لاحقًا في الدفع قدمًا بطلب بلاده للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والمعلق منذ عام 2009.

ووفق التقديرات، فقد بلغت تكلفة مركز الاستقبال في ألبانيا نحو 710 ملايين دولار لمدة خمسة سنوات، ورغم أن هذه المنشآت ستقام على الأراضي الألبانية فإنها ستكون تحت إدارة موظفين إيطاليين وستعمل تحت الولاية القضائية الإيطالية. واقتضت الخطة إرسال المهاجرين الذين يتم اعتراضهم في البحر إلى معسكر لجوء في ألبانيا، على أن يتم استضافة تيرانا لـ 3 آلاف مهاجر شهريًا ومعالجة طلباتهم للجوء عن بُعد بواسطة القضاء الإيطالي، كجزء من جهد واسع النطاق لنقل قضايا الهجرة إلى ما هو أبعد من حدود الاتحاد الأوروبي، وفي حالة الرفض يُعادون إلى بلادهم الأصلية.

وفي العموم، ترفض إيطاليا أكثر من نصف طلبات اللجوء التي يقدمها الوافدون الجدد، فقد تلقت العام الماضي 155 ألف طلب لجوء قبلت منهم 40% فقط، ولكن روما رغم ذلك لا تمتلك آلية يمكن من خلالها فرض ترحيل البقية، وذلك بسبب عدم وجود اتفاقيات إعادة توطين مع العديد من بلدان المنشأ للمهاجرين، ولكنها تمكنت من ترحيل 2242 شخصًا فقط في النصف الأول من 2024، بالرغم من إصدار أمر بترحيل أكثر من 13 ألف شخص من أصل 55 ألف مهاجر وصلوا إلى الشواطئ الإيطالية منذ بداية هذا العام، بحسب أرقام الحكومة الإيطالية. ولهذا تحاول “ميلوني” ردع المهاجرين قبل وصولهم إلى الأراضي الإيطالية.

يجب الأخذ في الاعتبار أن هذا الاتفاق لا يسري إلا على المهاجرين الذين يتم انتشالهم من خارج المياه الإقليمية لإيطاليا وبواسطة السفن الإيطالية، وليس على الجميع، حيث يتم استثناء النساء والأطفال والرجال المعرضين للخطر بإرسالهم مباشرة إلى إيطاليا، وكذلك أي شخص يدّعي أنه من بلد غير مدرج على قائمة “البلدان الآمنة” المكونة من 22 دولة أبرزها مصر وتونس والجزائر وبنجلاديش وغيرها ممن يحاول مواطنوها في كثير من الأحيان الوصول إلى إيطاليا، أما البقية فيتم إرسالهم إلى ألبانيا لدراسة طلباتهم خلال 28 يومًا، وبما أن أغلبهم قد يكون من دول تعتبر آمنة، فمن المتوقع أن يتم رفض غالبية الطلبات واعتبارهم مهاجرين اقتصاديين، وليسوا فارين من حرب أو اضطهاد.

وقد حظيت الفكرة بترحيب كبير على الصعيد الداخلي الإيطالي الذي يعاني من مشكلة الهجرة غير الشرعية، وخاصة اليمين المتشدد، وأيضًا على صعيد دول الاتحاد الأوروبي التي تحاول صياغة خطط مشابهة لردع المهاجرين إلى أراضيهم بصورة غير شرعية. ورغم ذلك فإن الخطة أيضًا تواجه انتقادات عدة، حيث يصف المنتقدون، وعلى رأسهم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، المعسكر بأنه غير قانوني وغير إنساني، ويعد احتجازًا قسريًا للمهاجرين، ما يتعارض مع التزامات إيطاليا بموجب القانون الدولي والأوروبي، كما يرى معارضو “ميلوني” في الداخل أنه دعاية باهظة وإهدار المال العام، ويفتقر إلى النجاح، وأنه لن يحقق مبتغاه في السيطرة على الهجرة.

ولم تكن خطة ألبانيا هي الوحيدة ضمن أجندة ميلوني لمجابهة الهجرة، فقد أبرمت حكومتها اليمينية اتفاقيات موسعة مع دول شمال أفريقيا لاعتراض المهاجرين، وفرضت عقوبات قاسية على المنظمات غير الحكومية التي تحاول إنقاذ المهاجرين في البحر، هذا بجانب صياغة سياسات من شأنها أن تجعل من الصعب على المهاجرين غير الشرعيين العيش في إيطاليا، وكل ذلك بالتوازي مع توسيع مسارات الهجرة القانونية، وزيادة تأشيرات العمل خاصة في المجال الطبي الذي تحتاج إليه إيطاليا.

وما سبق جعل المراقبين يرون أن “ميلوني” تحاول رسم مسارات متنوعة تجاه الهجرة غير النظامية؛ سعيًا إلى إظهار حزبها اليميني كحزب قادر على التصرف في هذا الملف المهم لأوروبا بنجاح حيث لم ينجح أحد به حتى الآن، وخاصة السياسات التي تتسم بالتسامح في هذا الملف.

كانت الخطة تسير في مسارها الذي رسمته “ميلوني”، فقد شهدت المؤشرات انخفاضًا حادًا في أعداد الوافدين غير النظاميين عن طريق البحر في الفترة بين الأول من يناير إلى منتصف أكتوبر 2024 بنسبة 65% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، ليصل العدد إلى 54 ألف شخص تقريبًا. ولكن مع ذلك، قوّضت الخطة بالفعل المجهودات التي قد تبذل لإنقاذ المهاجرين في وسط البحر؛ إذ تمنع السلطات الإيطالية المنظمات غير الحكومية عادة من إنقاذ أكثر من قارب مهاجرين في مهمة واحدة، وتضطرهم إلى تجاوز الموانئ الإيطالية القريبة والنزول في مواقع أكثر بعدًا، كما تفرض عليهم عقوبات شديدة، بما في ذلك مصادرة طائرات البحث والإنقاذ، في حالة عدم التنسيق مع مراقبة الحركة الجوية وتتبع التعليمات الدقيقة من السلطات.

وبعد أسبوع من بدء تنفيذ الخطة، واجهت خطة “ميلوني” تحولًا هائلًا في المسار بعد أن قضت محكمة الهجرة الخاصة في إيطاليا بموجب القانون الإيطالي هذا الأسبوع بنقل 16 طالب لجوء تم إرسالهم بالفعل إلى مركز الإيواء بألبانيا يوم 17 أكتوبر إلى إيطاليا للنظر في طلبات لجوئهم، وعدم السماح بعودتهم إلى بلادهم الأصلية. ويأتي رفض المحكمة الإيطالية التصديق على الاتفاق في إطار انتقاد رئيس وجهته المحكمة الأوروبية للاتفاق، وهو تعريف “الدول الآمنة”، بجانب عدم وجود ضمانات لحماية حقوق الإنسان في ألبانيا. وترى المحكمة أن حكمها يتوافق مع قرار صدر مؤخرًا عن محكمة العدل الأوروبية يقضي بأن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لا يجوز لها اعتبار بلد ما آمنا إلا إذا كان البلد بأكمله آمنا، وهو ما يعني عدم وجود اضطهاد أو تعذيب أو تهديد بالعنف العشوائي.

وانتقدت “ميلوني” القضاة بعد صدور الحكم، معتبرة أن اعتبار دول المهاجرين غير آمنة يعني منع جميع المهاجرين من برنامج ألمانيا، الأمر الذي سيقوض الخطة بالفعل ويجعلها غير قابلة للتطبيق، كما اتهم حزب “إخوان إيطاليا” اليميني المتشدد ما وصفه بالـ “يسار القضائي”، زاعمًا أن القضاة بالمحكمة يساعدون اليسار البرلماني الذي يعارض فكرة مراكز الإيواء في ألبانيا. وبجانب ذلك، فقد دعت ميلوني حكومتها للاجتماع العاجل بعد طلب الاستئناف على الحكم، وذلك للموافقة على بعض المعايير ولتحديد البلدان التي يمكن اعتبارها آمنة للخروج من هذه الأزمة.

تمثل الهجرة معضلة كبيرة في الداخل الأوروبي، فهو الملف الأشد حساسية، ويتم التعامل معه بحذر شديد لدرجة أنه يعدُّ سببًا لاختيار الحكومات داخل دول الاتحاد. وخلال السنوات الماضية، تشهد القارة الأوروبية صعودًا لافتًا لليمين المتشدد في السلطة، ولهذا نجد أن تلك الحكومات تناقش مسألة الهجرة في المقام الأول، وبالفعل هناك محاولات عدة لطرح حلول للهجرة غير النظامية، لكنها لم تحقق مبتغاها حتى الآن، بسبب التغيرات التي تشهدها المنطقة الأوروبية وتزايد أعداد الفارين من أوطانهم للقارة الأوروبية من الشرق والجنوب لأسباب سياسية أو اقتصادية وغيرها.

وخلال اجتماعاتهم في بروكسل، يناقش رؤساء حكومات الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين ملف الهجرة بشكل مستمر، حيث جددت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، التزامها بإيجاد “سبل مبتكرة” لمعالجة الهجرة غير النظامية، داعية إلى تشديد القواعد الخاصة بترحيل المهاجرين الذين لا توجد أي احتمالات لنجاح طلبات لجوئهم إلى بلدانهم الأصلية بسرعة أكبر، كما تمت الإشارة إلى إمكانية دراسة الاستعانة بمصادر خارجية “آمنة” على غرار النموذج الإيطالي، ومناقشة المزيد من اتفاقيات الشراكة بين دول الاتحاد ودول أخرى يمكن أن تردع محاولات الوصول إلى أوروبا.

وفي وقت سابق من هذا العام، أقر الاتحاد الأوروبي ميثاق الهجرة” الذي طال انتظاره، والذي صُمم لتسريع طرد طالبي اللجوء وتوزيع عبء استضافة اللاجئين بين الدول الأعضاء. لكن هذا أيضًا لم يضعف اهتمام الحكومات بملاحقة صفقات الاستعانة بمصادر خارجية مع دول أخرى. ومن أبرز الدول الأوروبية التي طرحت حلولًا مشابهة الدنمارك، ففي عام 2021، أقرت الدنمارك قانونًا يسمح بمعالجة اللجوء في سجون كوسوفو، حيث يتم إرسال ما يصل إلى 300 سجين أجنبي لتخفيف الضغط على السجون الدنماركية.

وفي ألمانيا، التي تمثل ثلث طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي، ستقدم وزارة الداخلية خيارات لمعالجة الطلبات خارجيًا، بالرغم من تشكك المستشار الألماني “أولاف شولتز” في الفكرة، وقد التزم المحافظون المعارضون، الذين من المرجح أن يتولوا السلطة قريبًا بالفعل باتفاقيات اللجوء مع دول ثالثة، كما يريد بعضهم محاكاة النموذج البريطاني، والمعروف بـ “خطة رواندا”.

وتتشابه خطة رئيس الوزراء البريطاني السابق “ريشي سوناك” من حزب المحافظين، مع خطة ميلوني ومشاكلها القانونية، حيث كانت تقتضي إرسال المهاجرين إلى رواندا بتكلفة تقدر بـ 700 مليون جنيه إسترليني، ولكن المحاكم البريطانية أحبطت الخطة ثم أبطلتها حكومة حزب العمال بقيادة “كير ستارمر” في نهاية المطاف، نظرًا لتكلفتها الباهظة، وبسبب ما تواجهه رواندا من انتقادات بسبب انتهاكات حقوق الإنسان.

ولكن الصفقة الإيطالية مع ألبانيا تختلف في جوانب مهمة، فهي تسمح لبعض المهاجرين دخول إيطاليا، وبدلًا من ترحيل الأشخاص الذين وصلوا بالفعل دون تقييم مطالباتهم، فإنها على العكس تتعهد بالنظر في طلبات اللجوء المقدمة عبر محاكمات عادلة بموجب القانون الإيطالي، لكن خطة رواندا تضع مصير اللاجئين في أيدي الحكومة الرواندية.

وبشكل عام، تواجه مثل هذه المخططات عقبات مالية وقانونية ولوجستية لا حصر لها، ويبدو أن مبدأ الاستعانة بمصادر خارجية في التعامل مع قضايا اللجوء قد ينتهك قانون اللاجئين، خاصة فيما يتعلق بحظر الإعادة القسرية إلى أماكن غير آمنة. وعليه، قد تضطر الحكومات الأوروبية إلى النظر في إعادة تقييم المعايير التي يمكن أن تمر عبر المحاكم الأوروبية وإجراء تعديلات قانونية بموجبها، حتى لا يتم عرقلة خططهم قانونيًا كما حدث مع إيطاليا ومن قبلها بريطانيا.

على صعيد آخر، تعارض دول كالمجر وهولندا وبولندا الإصلاحات المتعلقة بالهجرة، وتطالب جميعها بالانسحاب الكامل من سياسة اللجوء في الاتحاد الأوروبي، بينما تطبق المجر منفردة قانونها الخاص وترفض قانون اللجوء في الاتحاد الأوروبي لسنوات، بل وتتجاهل العديد من الأحكام الصادرة في هذا الشأن من محكمة العدل الأوروبية. أما فرنسا والنمسا والدنمارك والسويد ومن بعدها ألمانيا، فقد أعادت جميعها فرض عمليات تفتيش على الحدود، وكذلك فنلندا المتاخمة لروسيا، والتي قد وصل المهاجرون إليها بأعداد كبيرة، فقد قررت إعادتهم إلى روسيا، متهمة روسيا وبيلاروسيا بتعمد إرسال أعداد هائلة من المهاجرين بهدف زعزعة استقرار الكتلة الأوروبية.

Website |  + posts

باحثة بالمرصد المصري

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى