نهاية حقبة المحافظين.. ماذا يعني فوز حزب العمال بالقيادة البريطانية بعد 14 عامًا؟
أسدل “حزب المحافظين” الستار على حكمه الممتد لبريطانيا لأكثر من عقد، بعد النهاية التي كتبها “ريشي سوناك” رئيس الوزراء البريطاني-السابق- لحزبه بدعوته لانتخابات برلمانية مبكرة أجريت في الرابع من يوليو الحالي، بالرغم من تقدم حزب العمال المنافس في استطلاعات الرأي بنحو 20 نقطة، الأمر الذي سرعان ما تُرجم إلى واقع بالإعلان عن فوز “العمال” المنتمي إلى يسار الوسط بأغلبية ساحقة بقيادة “كير ستارمر” وتشكيل حكومة جديدة، وسط ترقب كبير داخل أوساط السياسة البريطانية القادمة.
خسارة متوقعة
أنهى “المحافظون” 14 عامًا من قيادتهم التي شهدت تغيير خمسة رؤساء للوزراء- ثلاثة منهم فقط في فترة لم تتعد الأربعة أشهر-، وذلك بأسوأ نتيجة انتخابية للحزب في تاريخه الممتد لأكثر من مئتي عام. وكما المتوقع، شهدت الانتخابات مشاركة منخفضة على مستوى البلاد، إذ بلغت أقل من 60%، وهي ثاني أدنى نسبة في انتخابات المملكة المتحدة منذ عام 1885.
وبعد إحصاء الدوائر الانتخابية، حصل “حزب العمال” على 412 مقعدًا في مجلس العموم الذي يتألف من 650 مقعدًا بنسبة 63% من المقاعد وبنسبة 33.8% من الأصوات، في مقابل 121 مقعدًا فقط احتفظ بها المحافظون من أصل 252 مقعدًا بنسبة 19% من المقاعد وبنسبة 23.7% من الأصوات، وهو أقل عدد من المقاعد حصل عليها في التاريخ، فضلًا عن خسارة العديد من الشخصيات البارزة للحزب مقاعدهم، الأمر الذي عكس أن مسألة الانتخابات بالنسبة للناخبين البريطانيين ما هي إلا مسألة تتعلق بتعمد إقصاء المحافظين أكثر من تعلقها بالاقتناع بحزب العمال، الأمر الذي أجبر سوناك على الاستقالة من منصب رئيس الوزراء ومنصب رئيس حزب المحافظين، والاعتذار للشعب البريطاني معلنًا تحمله مسؤولية الخسارة.
وعلى صعيد آخر، شهدت هذه الانتخابات حصول الأحزاب الأصغر حجمًا كـ “حزب الديمقراطيين الليبراليين” على 72 مقعدًا بعد أن كانوا يشغلون 8 مقاعد فقط بعد الانتخابات العامة التي أجريت عام 2019، بينما فاز “حزب الإصلاح” في المملكة المتحدة، الحزب الشعبوي اليميني المتمرد بقيادة “نايجل فاراج” حليف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بالمركز الثالث بنحو 14.3% من الأصوات لكنه لم يحصل إلا على خمسة مقاعد في البرلمان، ولكن التصويت لصالح هذا الحزب ومدى الدعم الذي أصبح يحظى به من شأنه أن يبقي الاستراتيجيين في حزب العمال وحتى حزب المحافظين على أهبة الاستعداد لسنوات قادمة.
كما كانت نتيجة الانتخابات جيدة بالنسبة لـ “حزب الخضر”، فبالرغم من قيام الحزب بترشيح عدد قياسي من المرشحين في عدد كبير من الدوائر الانتخابية، إلا أنه كان يستهدف الفوز بأربعة مقاعد فقط، وقد تمكن بالفعل من الفوز بها بنسبة 7% من الأصوات بعد انتزاع مقعدين من المحافظين. أما “الحزب الوطني الأسكتلندي”، فقد عانى من هزيمة كبيرة، وانتهى به الأمر بالحصول على تسعة مقاعد فقط مقارنة بـ 47 مقعدًا في البرلمان الأخير، مع العلم أن هذه الهزيمة قد تقوض المحاولات من أجل استقلال اسكتلندا في الوقت الحالي.
وكانت هناك مفاجأة أخرى بضمان الحزب القومي الأيرلندي “شين فين” 7 مقاعد في البرلمان الجديد، ليصبح الحزب الأكبر في أيرلندا الشمالية، بالرغم من مقاطعة هذا الحزب لمجلس العموم، كجزء من رفض الحزب الاعتراف بالسيادة البريطانية على أيرلندا الشمالية، نظرًا لأنه يدعو إلى إعادة توحيد أيرلندا الشمالية مع جمهورية أيرلندا في الجنوب، وفي الوقت نفسه، تمكن “الحزب الديمقراطي الاتحادي” من الفوز بمقعدين فقط، وهو الحزب الذي يريد إقامة علاقة أوثق بين أيرلندا الشمالية وبقية المملكة المتحدة.
وقد ساعد على تحقيق الفوز للأحزاب السابقة النظام الانتخابي في المملكة المتحدة الذي يعتمد على “الفائز الأول”، حيث يختار الناخبون مرشحًا واحدًا فقط من قائمتهم المحلية في كل من الدوائر الانتخابية الست والخمسين في البلاد، ويتم انتخاب الشخص الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات في كل دائرة كعضو في البرلمان في مجلس العموم، وذلك على النقيض من أنظمة التصويت الأخرى في بلاد عدة، حيث لا توجد جولات ثانية أو ترتيب للمرشحين من الدرجة الأولى والثانية، مما يعني أنه قد يكون من الصعب على الأحزاب الصغيرة ترجمة حصة متزايدة من الأصوات الشعبية إلى مقاعد برلمانية.
من هو كير ستارمر، وماذا فعل حزب العمال للفوز في هذه الانتخابات؟
وُلد ستارمر عام 1962 في لندن، ودرس القانون في جامعة ليدز، وأكمل دراساته العليا في جامعة أكسفورد، ليبدأ العمل كمحامٍ عام 1987 حيث تولى قضايا بارزة، كما عمل مستشارًا لحقوق الإنسان خلال “اتفاقية الجمعة العظيمة” التاريخية في أيرلندا الشمالية التي أبرمها رئيس الوزراء العمالي السابق “توني بلير”.
وفي عام 2008، أصبح ستارمر مديرًا للادعاء العام، مما وضعه على رأس خدمة الادعاء العام في المملكة المتحدة، حيث أشرف على محاكمة أعضاء البرلمان المتهمين بالاختلاس والصحفيين المتهمين باختراق الهواتف. وفي عام 2014، تم منح ستارمر لقب فارس لخدماته في مجال العدالة الجنائية، وتم انتخابه لعضوية البرلمان في العام التالي، حيث شغل منصب وزير الهجرة ووزير الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي في المعارضة. وفي عام 2020، تم تعيينه زعيمًا لحزب العمال وقام بتحفيز إصلاح كبير للحزب بعد استقالة “جيريمي كوربين”، الذي قاد الحزب إلى خسارة قياسية في انتخابات عام 2019.
ومنذ ذلك الحين، سعى ستارمر إلى إبعاد الحزب عن جناحه اليساري الأكثر اشتراكية والاقتراب من الوسط لجذب مجموعة أوسع من الناخبين، كما قاد ستارمر المعارضة ضد قرارات وإصلاحات حزب المحافظين، والتي واجهت انتقادات شعبية واسعة، الأمر الذي تُرجم مع الوقت إلى تقدم كبير في استطلاعات الرأي لصالح حزب العمال، حتى دعا سوناك لانتخابات مبكرة اعتقد من خلالها أن بإمكانه تجديد الثقة في حكم المحافظين.
وهنا وجد “ستارمر” أن الفرصة قد منحت إليه على طبق من ذهب، وحدد في البيان الانتخابي للحزب عدة وعود وإجراءات من شأنها تعزيز فرص الحزب للفوز بالانتخابات، ولكنه رغم ذلك كان حذرًا من القيام بمراهنات كبيرة أو الظهور مدفوعًا بأيديولوجية مبالغ فيها، وركز فقط على معالجة أكبر القضايا التي تواجه بريطانيا الفترة الأخيرة، بما في ذلك تكاليف المعيشة والهجرة وإعادة بناء خدمات البلاد مثل أنظمة الصحة والنقل والإسكان، كما تعهد ستارمر، الذي صوت لصالح حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي في استفتاء المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، بتحسين العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، بما في ذلك في مجالات مثل التجارة والبحث والأمن، ورغم ذلك، أصر على أنه لا توجد حالة تسمح لبريطانيا بالانضمام مجددًا إلى الكتلة.
“إصلاح بريطانيا”.. ملفات تنتظر رئيس وزراء بريطانيا الجديد
سقطت المملكة المتحدة في ركود طفيف في النصف الأخير من العام الماضي حيث واجهت الأسر والشركات تضخمًا حادًا وظروفًا مالية أكثر صرامة، على الرغم من تسجيل نمو بنسبة 0.6٪ في الربع الأول من عام 2024 ووصول التضخم إلى نسبة 2% لأول مرة منذ ثلاث سنوات، وهو التحسن الذي كان يراهن عليه سوناك في تحسين فرص حزبه الانتخابية، وسيتعين على حزب العمال الوفاء بتعهداته حول القضايا السياسية الرئيسية التي تشغل البريطانيين من أجل خلق الحكومة المستقرة التي يحتاج إليها للبقاء في السلطة.
ومنذ الساعات الأولى لتولّيه المنصب، أجرى ستارمر تغييرات جذرية في الوزارات الحكومية، وقام بتعيين “أنجيلا راينر” نائبة له ووزيرة للإسكان، فيما أصبحت “راشيل ريفز” كأول مستشارة للخزانة في المملكة المتحدة، وأصبح “ديفيد لامي” وزيرًا للخارجية، و”إيفيت كوبر” وزيرة للداخلية، و”جون هيلي” وزيرًا للدفاع. ومن المتوقع أن يقدم ستارمر إصلاحات بعيدة المدى على الصعيد الداخلي، الذي يواجه تحديات وإخفاقات عدة تسبب بها حزب المحافظون، وعلى الصعيد الخارجي في ظل الأزمات الحالية التي تتمحور حول استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وحرب الشرق الأوسط بين غزة وإسرائيل. وقد حدد حزب العمال خمس مهام “داخلية” طويلة الأجل وهي:
- دفع النمو الاقتصادي لتأمين أعلى نمو مستدام في مجموعة السبع:
فبريطانيا تحت حقبة المحافظين كانت تعاني من إخفاقات اقتصادية على صعيد الخدمات الاجتماعية، والتي نبعت من سياسة “الميزانيات المصغرة” التي انتهجها المحافظون، والتي اقتضت سحب الاستثمارات الحكومية من الخدمات الصحية والتعليم والنقل والإسكان، ما ساهم في ارتفاع تكاليف الرهن العقاري، وارتفاع الضرائب، وهذا أدى إلى استثمارات أقل وتدهور في كافة الخدمات العامة.
ورغم أن الأزمة الاقتصادية وتكاليف المعيشة ليست فريدة من نوعها في المملكة المتحدة، إلا أن بعض قرارات حزب المحافظين جعلت وضعها صعبًا بشكل فريد، فقد كان اختيار الخروج من الاتحاد الأوروبي “بريكست”، الذي تقرر لأول مرة في استفتاء عام 2016 ودفع به رئيس الوزراء المحافظ بوريس جونسون في عام 2019، آثارًا ضارة على التجارة والعمالة وتكاليف المعيشة.
وعليه، يُنظر إلى تعزيز النمو باعتباره أمرًا حيويًا، وإلا فلن تتمكن الحكومة من جمع الإيرادات الضريبية اللازمة لإدخال تحسينات أكثر أهمية على الخدمات العامة المتدهورة. ولهذا يتعهد العمال بالاعتماد على قواعد مالية قوية تحكم كل قرار سيتم اتخاذه في الحكومة الجديدة، والعمل على تغطية التكاليف اليومية من خلال الإيرادات، والسعي إلى خفض الدين العام لبريطانيا، وإعطاء الأولوية للاستثمار، وإعادة بناء الموارد المالية العامة، وكذلك خفض الضرائب على العمال والرهون العقارية قدر الإمكان، وخفض تكلفة الطاقة والمواد الغذائية، وتحديث البنية الأساسية للنقل، ودعم ريادة الأعمال، وتحسين الأجور.
ولتنفيذ ذلك، أعلن ستارمر عن إنشاء “صندوق الثروة الوطني” بقيمة 7.35 مليار جنيه إسترليني للاستثمار في مجالات تشمل صناعات الصلب والسيارات وتكنولوجيا احتجاز الكربون والمصانع العملاقة، وهناك مخطط لعقد قمة استثمارية مع قادة الأعمال خلال أول 100 يوم للحكومة الجديدة.
- إصلاح نظام الصحة الوطني
تعاني المنظومة الصحية في بريطانيا من مشكلات عدة وصلت إلى حد الإضرابات في السنوات الأخيرة، بدءًا من أزمة كوفيد التي أظهرت مدى النقص البشري في هذا القطاع، والضغوط المتزايدة التي أدت إلى تأخيرات قياسية في العلاج وحتى الكشف الطبي، وصولًا إلى ارتفاع قوائم الانتظار، إذ يبلغ عدد الحالات 7.57 مليون حالة ينتظر منهم 6.33 مليون شخص العلاج، وهذا يعادل 10% من سكان البلاد.
وقد تعهد حزب العمال بتقليص أوقات الانتظار، وتوفير 40 ألف موعد إضافي أسبوعيًا، ومضاعفة عدد أجهزة الكشف عن السرطان، وقد حدد الحزب ميزانية قدرها 5.230 مليار جنيه إسترليني لهذا الملف يتم جمعها عبر اتخاذ إجراءات صارمة ضد التهرب الضريبي على ما يسمى بالأفراد غير المقيمين، وإزالة الإعفاءات الضريبية للمدارس المستقلة، وإغلاق الثغرة الضريبية لمستثمري الأسهم الخاصة، وزيادة الضرائب على مشتريات العقارات السكنية من قبل غير المقيمين في المملكة المتحدة.
- جعل بريطانيا قوة عظمى في مجال الطاقة النظيفة
فلقد توقفت مشاريع الطاقة المتجددة في بريطانيا بسبب البيروقراطية وعمليات التخطيط المعقدة والمعارضة المحلية، مما أدى إلى إعاقة التحول إلى الطاقة الخضراء، ومن المقرر أن تتضمن إصلاحات حزب العمال تدابير عدة لتسريع بناء البنية التحتية للطاقة النظيفة، وذلك بهدف خفض الفواتير، وخلق فرص عمل جديدة تصل إلى 650 ألف وظيفة، وتوفير الأمن من خلال كهرباء أرخص وخالية من الكربون بحلول عام 2030، والتسارع إلى صافي الصفر.
كما يخطط الحزب لإنشاء شركة طاقة جديدة مملوكة للقطاع العام، وحظر منح تراخيص جديدة للنفط والغاز في بحر الشمال، وإجراء استثمارات خضراء إضافية من خلال” ضريبة محدودة الوقت” على شركات النفط والغاز، مع العلم أن التمويل المستهدف لتحقيق ذلك هو 8.3 مليار جنيه إسترليني.
- رفع الثقة في الشرطة ونظام العدالة الجنائية إلى أعلى مستوى
تواجه بريطانيا تحذيرات من أن السجون في إنجلترا وويلز سوف تصل إلى “نقطة انهيار”، كون السجون تقترب من السعة القصوى، ويأتي ذلك بسبب فشل الحكومات المتعاقبة في الاستثمار في السجون أو بناء سجون جديدة، جنبًا إلى جنب مع العدد المتزايد من السجناء، فضلًا عن تباطؤ النظام القضائي في بت عدد كبير من القضايا البسيطة، الأمر الذي دفع حكومة المحافظين إلى إطلاق سراح بعض السجناء مبكرًا لتحرير السعة.
ومن المرجح أن يستهدف حزب العمال خفض جرائم العنف الخطيرة إلى النصف، ومواصلة الإفراج المبكر عن السجناء، هذا بجانب إمكانية النظر في خيارات من شأنها خلق القدرة مثل نقل الأشخاص إلى أماكن إصلاحية أخرى أو بناء مساحات إضافية قصيرة الأجل.
- توفير” الفرص” من خلال إصلاح أنظمة رعاية الأطفال والتعليم
وذلك للتأكد من عدم وجود سقف طبقي لطموحات الشباب في بريطانيا، كان إصلاح النظام التعليمي من أولويات حزب العمال، خاصة مرحلة التعليم المبكر، ولذا تقتضي خطة العمال توفير 1.510 مليار جنيه إسترليني تُجمع من تطبيق ضريبة القيمة المضافة ورفع الضرائب على المدارس والجامعات الخاصة، لرفع المعايير وتحديث المناهج الدراسية، وخلق مسارات تدريب وتوظيف أعلى جودة، وذلك من خلال تمكين المجتمعات المحلية من تطوير المهارات التي يحتاجها المواطنون، ويخطط العمال لتوظيف 6500 معلم جديد في المواد الأساسية، وافتتاح 3 آلاف حضانة جديدة في المدارس الابتدائية، مع تقديم نوادي إفطار مجانية في كل مدرسة ابتدائية، بالإضافة إلى مراجعة نظام الإجازات حتى تتيح المرونة الكافية للآباء العاملين.
وعلى صعيد التعليم العالي، سيعمل حزب العمال على تحويل كليات التعليم العالي إلى كليات متخصصة في التميز التقني، وستعمل هذه الكليات مع الشركات والنقابات العمالية والحكومة المحلية على توفير فرص عمل أفضل للشباب والقوى العاملة المدربة تدريبًا عاليًا والتي تحتاج إليها الاقتصادات المحلية، بجانب خطة الحزب الخاصة بقطاع الصناعات الإبداعية كجزء من استراتيجية الصناعية، مما يؤدي إلى خلق فرص عمل جيدة وتسريع النمو في مجال الأفلام والموسيقى والألعاب وغيرها من القطاعات الإبداعية.
- غلق ملفات “المحافظين”
وبجانب الأولويات الخمسة السابقة، نجد أن هناك ملفات داخلية أخرى من شأن الحكومة الجديدة الاهتمام بها، يأتي على رأسها حل معضلة “الهجرة” التي سببت صداعًا للمحافظين عبر السنوات الماضية، فبريطانيا كانت لسنوات عدة ملاذًا للهاربين من الاضطهاد وسوء الأوضاع في بلادهم، إلى أن تفاقم الأمر وتسبب بالضغط على الموارد الداخلية للدولة، بجانب انتشار أزمة القوارب الصغيرة التي تغذيها عصابات تجار البشر، والتي تقوض الأمن البريطاني وتكلفه المزيد من الأرواح، وفي عام 2023، هاجر للمملكة المتحدة بشكل قانوني 1.2 مليون شخص، بينما عبر القناة الإنجليزية بشكل غير شرعي ما يقرب 30 ألف شخص، ومنذ بداية 2024، عبر أكثر من 13 ألف شخص حتى الآن.
وكان سوناك قد فعل سياسة ترحيل اللاجئين إلى روندا قبل ترك منصبه، والتي كلفت البلاد ملايين من الجنيهات الإسترليني، لكن ستارمر وبعد توليه منصبه قد أعلن عن إلغاء تلك السياسة، بسبب عدم إثبات كفاءتها واحتمالية فشلها كرادع للهجرة غير النظامية، وتعهد بفرض سياسات جديدة لتأمين الحدود البريطانية، عبر ملاحقة العصابات التي تسهل عمليات العبور، وإنشاء قيادة جديدة لأمن الحدود تضم مئات من المحققين وضباط المخابرات والشرطة العابرين للحدود، وسيتم تمويل ذلك من خلال إنهاء شراكة الهجرة والتنمية الاقتصادية المسرفة مع رواندا، واستحداث اتفاقية أمنية جديدة مع الاتحاد الأوروبي لضمان الوصول إلى المعلومات الاستخبارية في الوقت المناسب لوقف نزيف الهجرة غير الشرعية.
وبجانب ذلك، تعهد الحزب بإعادة نظام اللجوء النظامي للعمل بشكل أسرع، بما يطبق القواعد بشكل صحيح، وذلك من خلال زيادة عدد الموظفين في هذا المجال للتعامل مع القضايا المتراكمة، ما يسرع من إنهاء ما يسمى بـ “فنادق اللجوء” التي تحمل الدولة ما يقرب من 8 مليون جنيه استرليني لتشغيلها يوميًا، ما يوفر مليارات الجنيهات سنويًا لدافعي الضرائب البريطانيين، هذا بالإضافة إلى إنشاء وحدة جديدة لعمليات الترحيل، وستضم 1000 موظف إضافي، لتسريع عمليات الترحيل إلى بلدان آمنة للأشخاص الذين ليس لديهم الحق في البقاء، مع العمل على زيادة عدد البلدان الآمنة التي يمكن إعادة طالبي اللجوء المرفوضين إليها بسرعة، وأخيرًا تعهد الحزب أن يتحرك نحو حل الأزمة من المنبع، وذلك عبر العمل مع الشركاء الدوليين لمعالجة الأزمات الإنسانية التي تدفع الناس إلى الفرار من بلادهم، ولتعزيز الدعم للاجئين في مناطقهم الأصلية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، يستهدف حزب العمال عودة بريطانيا إلى قوتها على الساحة العالمية التي يرى أنها أصبحت تتغذى على التوترات الجيوسياسية، وعليه نحن أمام عدة ملفات يمكن تفنيدها إلى:
- الأمن القومي البريطاني
يرى الحزب أن الأولوية ستكون الحفاظ على الأمن القومي البريطاني، وذلك من خلال تعزيز القوات المسلحة التي أرهقت -على حد وصف حزب العمال- على يد المحافظين، وكذلك أكد الحزب أن الالتزام تجاه “الردع النووي” للمملكة المتحدة هو التزام مطلق، وضمانة حيوية للمملكة المتحدة وحلفائها في الناتو، وعليه استمرار التزام البلاد تجاه الحلف، وتطبيق اختبار الناتو على برامج الدفاع الرئيسية لضمان الوفاء بالالتزامات بالكامل، مع الأخذ في الاعتبار التهديدات الأخرى التي تتمثل في الهجمات السيبرانية وحملات التضليل. ولضمان استعداد المملكة المتحدة بشكل كامل للتعامل مع تلك التحديات، أعلن الحزب أنه سيجري مراجعة دفاعية استراتيجية خلال العام الأول في الحكومة، وتحديد نسبة 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على الدفاع.
وعلى صعيد التهديدات من الدول المعادية لبريطانيا أو الجماعات الإرهابية التي ترعاها تلك الدول، أكد الحزب أنه سيتبنى النهج المستخدم في التعامل مع الإرهاب غير الحكومي وسيكيفه للتعامل مع التهديدات الأمنية الداخلية للدولة، وسيقدم الحزب “قانون مارتن” لتعزيز أمن الأحداث والأماكن العامة، وكذلك تحديث القواعد المتعلقة بمكافحة التطرف، بما في ذلك عبر الإنترنت، لمنع الناس من التطرف والانجذاب نحو أيديولوجيات الكراهية، وسيضمن حزب العمال أيضًا أن تتمتع أجهزة الشرطة والمخابرات بالسلطات والموارد التي تحتاجها لحماية الشعب البريطاني من الإرهاب والتجسس العدائي.
- الحرب الروسية الأوكرانية
تعتبر بريطانيا من أكبر الداعمين لأوكرانيا في حربها مع روسيا، واستمرارًا لهذا النهج، تعهد ستارمر بأن تواصل لندن سياستها تجاه كييف، بالحفاظ على الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي والسياسي، إلى جانب دعم الجهود الرامية إلى محاسبة روسيا على ما اقترفته من جرائم في الحرب، ودعم الدعوات إلى إنشاء محكمة خاصة لجريمة العدوان، فضلًا عن العمل مع الحلفاء لتمكين الاستيلاء على الأصول الحكومية الروسية المجمدة وإعادة استخدامها لدعم أوكرانيا، مع توفير طريق واضح لأوكرانيا نحو عضوية حلف شمال الأطلسي.
ولكن هناك عدة تحديات تتعلق بالانتخابات الأمريكية وتأثيرها على مجريات الحرب الروسية الأوكرانية، ومن الواضح أن هذه المسألة ستصبح أكثر تعقيدًا حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وبالتالي فإن الحفاظ على الالتزام تجاه أوكرانيا سيكون حملًا ثقيلًا على بريطانيا حال قرر ترامب التراجع عن تعهدات بايدن بالدفاع ودعم أوكرانيا.
- · القضية الفلسطينية
أكد الحزب أن السلام والأمن على المدى الطويل في الشرق الأوسط سيكونان محور الاهتمام الفوري، وبالتالي هناك توجه واضح بأن الحزب يسعى إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية بأنها “حق غير قابل للتصرف للشعب الفلسطيني”، ويأتي هذا التعهد بعد أشهر من الانقسام داخل الحزب بشأن رده على الحرب بين إسرائيل وحماس، فبعد وقت قصير من هجمات 7 أكتوبر، كان لستارمر تصريح مفاده أن لإسرائيل الحق في حجب الكهرباء والمياه عن المدنيين الفلسطينيين في غزة، لكنه سرعان ما واجه هجومًا عنيفًا ليعدل تصريحاته ويضيف عليها أن ذلك يجب أن يتم في إطار القانون الدولي، ومنذ ذلك الحين أصبح الحزب ينتقد بشكل متزايد سلوك إسرائيل في غزة ويدعم الآن وقف إطلاق النار، إلى جانب إعادة الرهائن المحتجزين لدى حماس. وربما يكون هذا سببًا من أسباب ميل الناخبين لحزب العمال، خاصة بعد التعاطف الواسع الذي أظهره الشعب البريطاني مؤخرًا، ولا يزال يظهره، مع القضية الفلسطينية.
وفي العموم، يدرك زعيم بريطانيا الجديد “كير ستارمر” أن فوزه الساحق في الانتخابات كان مدفوعًا إلى حد كبير بخيبة الأمل العامة من حكم المحافظين، والحماس المرتقب لأجندة “التغيير” التي تبدو أنها مصممة لاتخاذ إجراءات أكثر جدية، ولذا تتجه الآراء إلى التأكيد بأن الأشهر الأولى من حكم العمال ستكون مليئة بالإجراءات الملموسة لكسب تأييد الناخبين المتشككين، وسيكون المعيار الحقيقي لنجاح حزب العمال هو ما إذا كان سيظل قادرًا على تحقيق نفس النجاح بعد خمس سنوات من الآن.
أما على الصعيد العالمي، ومع إضعاف سلطة الرئيس إيمانويل ماكرون في فرنسا، واقتراب دونالد ترامب من العودة للبيت الأبيض، فإن الانتخاب الساحق لزعيم معتدل غير متشكك في أوروبا يمكن أن يساعد المملكة المتحدة على استعادة دورها كصوت للعقلانية الديمقراطية على الساحة العالمية، خاصة وأن نتيجة الانتخابات بدت وكأنها تتعارض مع التحولات الانتخابية اليمينية الأخيرة في أوروبا، ولكن هذا لا يمكن أن يُعد استبعادًا لاحتمالية صعود التيارات الشعبوية في بريطانيا حال “فشل” العمال في تحقيق خطط التغيير الطموحة.