
هل تعكس تحركات “علي شمخاني” الخارجية صراع الأجنحة في أروقة النظام الإيراني؟
الإشارات القادمة من طهران على مسار التغيير في سياستها الخارجية عديدة بحيث لا يمكن تجاهلها، وتتضمن حالة واضحة من الإقصاء لوزير الخارجية الإيراني المحسوب على التيار المتشدد “حسين أمير عبد اللهيان”، فلا يكاد اسمه يسمع في أي من الصفقات المهمة التي استطاعت إيران تحقيقها على المستوى الإقليمي مؤخرًا، سواء اتفاق عودة العلاقات الإيرانية – السعودية، والعمل على تحسين العلاقات مع الإمارات والبحرين، بالإضافة إلى الاتفاق “الأمني الحدودي” الذي توصلت له طهران مع بغداد خلال الشهر الجاري.
وبمتابعة هذه التحركات يتضح أن عرابها هو “علي شمخاني”، الذي ظهر كقاسم مشترك في كل هذه الملفات الخارجية في حالة من تبادل الأدوار مع وزير الخارجية الإيراني، وهي التحركات التي يمكن رصدها على النحو التالي:
–الاتفاق السعودي – الإيراني: عمل شمخاني على التقريب بين وجهتي النظر الإيرانية السعودية، مما أفضى في النهاية إلى توقيع الاتفاق، وبعد زيارته الأخيرة لبكين أعلن الطرفان استئناف العلاقات الدبلوماسية بوساطة من الصين. وأهمية الدور الذي قام به أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، تكمن في أن التوصل إلى صفقة بين الرياض وطهران سيكون لها انعكاسات إقليمية ودولية يصعب حصرها، لكن أهمها أن الاتفاق يشكل محطة مهمة على طريق التمهيد لاتفاقات مماثلة مع دول خليجية أخرى وفي مقدمتها الإمارات والبحرين.
–التقارب الإيراني مع الإمارات: لم تصل العلاقات في تاريخها بين أبو ظبي وطهران إلى حالة من الصدام الخشن، وعلى الرغم من أن الملفات الخلافية متعددة، إلا أن الخلاف بين البلدين لطالما كان “منضبطًا” بحيث يسمح بالعودة في كل مرة. وعلى تلك الخلفية قام أمين المجلس الأعلى للأمن القومي “علي شمخاني”، بزيارة إلى دولة الإمارات بناء على دعوة وجهها له مستشار الأمن القومي الشيخ “طحنون بن زايد آل نهيان”، وقد وصفت الزيارة بأنها تحمل طابعًا أمنيًا واقتصاديًا، وبالتركيز على الجانب الأمني يتضح أن التحركات الخارجية لإيران معنية بالتنسيق أمنيًا بالدرجة الأولى، وهو ما ظهرت انعكاساته في الاتفاق مع السعودية والاتفاق الذي نفذه شمخاني مع العراق كذلك.
وخلال زيارة شمخاني إلى الإمارات حظي باستقبال على مستوى رفيع، حيث التقى برئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ونائبه، وهو ما يعكس تمسك البلدين بمسار إصلاح العلاقات الذي بدأ مع مراجعة طهران لسياستها الإقليمية، وقرارها بالمضي قدمًا في سياسة احتواء التوترات، بما في ذلك إصلاح العلاقات مع دول الخليج.
-إشارات التقارب بين المنامة وطهران: أعربت إيران عن أملها في استئناف علاقاتها مع البحرين التي قطعت علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية عام 2016 دعمًا السعودية، حيث ترى طهران أنه مع الأجواء الإيجابية في المنطقة، يمكن أن يحدث هذا التطور الإيجابي مع دول أخرى بما فيها البحرين.
ومما يجدر ذكره أن هناك فرص جيدة للتقارب بين البحرين وإيران، حيث قامت البحرين والإمارات جنبًا إلى جنب بتطبيع العلاقات مع سوريا الحليف القوي لإيران. حيث أعادت أبو ظبي والمنامة فتح سفارتيهما في دمشق في أواخر عام 2018. وبالنظر إلى الإعلان عن استئناف وشيك للعلاقات الدبلوماسية بين إيران والمملكة العربية السعودية، ستكون المنامة قريبًا العاصمة الخليجية العربية الوحيدة التي ليس لها سفير في طهران.
وفي سياق آخر، فإن الرباعية العربية بما في ذلك البحرين، أنهت في عام 2021 حصارها لقطر. ويعتقد أن تدهور العلاقات بين البحرين وقطر في عام 2017 كان عاملًا رئيسًا في تراجع علاقات المنامة بإيران.
–الاتفاق الإيراني- العراقي: وقّع العراق وإيران اتفاقا لأمن الحدود في التاسع عشر من الشهر الجاري، في خطوة تهدف في المقام الأول إلى تعزيز أمن المنطقة الحدودية مع إقليم كردستان العراق، الذي تقول طهران إن المعارضين الأكراد المسلحين به يشكلون تهديدًا لأمنها، ومرة أخرى كان شمخاني عراب الاتفاق والذي لا ينقصه في العراق سوى ابتعاده من الناحية الأيدولوجية عن الجماعات المسلحة، لأنه محسوب على التيار المعتدل، ولأن تلك الجماعات تعتمد على ولاءات تابعة للحرس الثوري الإيراني وقائده.
وقد تجدد التركيز على قضية الحدود بين البلدين العام الماضي، عندما شن الحرس الثوري الإيراني هجمات صاروخية وأطلق طائرات مسيرة مستهدفًا الجماعات الكردية الإيرانية المتمركزة في شمال العراق، متهمًا إياها بإثارة الاحتجاجات التي اندلعت بعد وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني أثناء احتجازها لدى الشرطة. ومن هذا المنطلق، فإن الهجمات الإيرانية على إقليم كردستان العراق سلطت الضوء على أمن الحدود بين العراق وإيران.
وتنعكس أهمية الاتفاق الذي توصل له شمخاني مع العراق، بأنه يضع النقاط الأخيرة في استراتيجية طهران الأمنية في العراق خلال المرحلة المقبلة، وتهدف هذه الاستراتيجية الأمنية الإيرانية بالعراق إلى التعامل مع أبرز التحديات التي تواجه التضييق على هيمنة إيران وسلطة حلفائها ببغداد، والمتمثلة في الحركة الاحتجاجية بمعناها العام، أو بشكلها الخاص “تظاهرات التيار الصدري، ومجموعات الناشطين المدنيين”.
دلالات تحركات “شمخاني” الخارجية
–دلالات داخلية: بداية القول إن “علي شمخاني” من المحسوبين على التيار الإصلاحي في الداخل الإيراني، وكانت التكهنات تدور في فلك الإطاحة به بعد إعدام “على أكبري” على خلفية اتهامات له بالجاسوسية، إلا أن “شمخاني” استطاع تنفيذ هجمة مرتدة عن طريق تحريك المياه الإقليمية الراكدة مع عدد من الدول، حتى ظن البعض أنه قد تم تفويض ملف وزارة الخارجية الإيراني للمجلس الأعلى للأمن القومي، مما يدل على وجود انقسامات حادة في أجنحة النظام الإيراني تطلبت قيام وزير الخارجية “حسين أمير عبد اللهيان” إلى نفيها بنفسه.
ولكن نفي “عبد اللهيان” لا ينفي قيام “شمخاني” بدور وزير الخارجية في عدد من الملفات، حيث أدت الاختلافات داخل أروقة النظام الإيراني إلى تبدل الأدوار بين الخارجية الإيرانية والمجلس الأعلى للأمن القومي، ولكن على الرغم من الدلالات السيئة للانقسام، يحسَب للنظام الإيراني على الأقل قدرته على توزيع الأدوار على الشخصيات الرئيسة في النظام، رغم التعقيدات الأيدولوجية والبيروقراطية الجاثمة على صدره وهو أمر فرض نفسه نظرًا إلى الوضع المعقد الذي تعيشه إيران اليوم، ذلك أن التحول من المقاربة العسكرية إلى المقاربة الأمنية، قد يشكل مدخلًا مهما لإعادة تشكيل الدور الإيراني في المنطقة.
ولعلّ هذا ما دفع بالمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، إلى المراهنة على “شمخاني” ذو الأصول العربية، في مقابل تراجع قوة قائد فيلق القدس “إسماعيل قاآني” خطوات إلى الوراء، لأن الوضع وحسب وجهة نظر أعلى مرجعية سياسية ودينية في إيران لم يعد يحتمل الاستمرار بسياسة حافة الهاوية. ولذلك لا ينبغي فهم الدور الجديد الذي يؤديه شمخاني اليوم، على أنه يعكس أفضلية شخص أو مؤسسة، بل يمثل هامش حركة إيرانية واسعة عبر استخدام التكتيكات والأوراق حسب تغيرات الظروف والأوضاع.
وعلى الصعيد الداخلي أيضًا، يعزز ظهور “شمخاني” احتمال إعادة صلاحيات التفاوض حول الملف النووي من وزارة الخارجية إلى مجلس الأمن القومي، الذي يتخذ القرار النهائي حول الملف النووي، وهو خاضع لصلاحيات المرشد الأعلى.
-دلالات خارجية: مثلت زيارة “شمخاني” إلى بغداد تحديًا واضحًا للإدارة الأمريكية، خصوصًا أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، كانت قد صنفت “شمخاني” إلى جانب مسؤولين آخرين في النظام الإيراني على لائحة العقوبات الأمريكية في أكتوبر 2020.
كذلك مثلت تحديًا للإجراءات التي اعتمدها البنك الفيدرالي الأمريكي مؤخرًا ضد عمليات تهريب الدولار في العراق، حيث نجح “شمخاني” في التوصُّل إلى آلية لسداد الديون الإيرانية المترتبة على العراق مع البنك المركزي العراقي، نتيجة استمرار عمليات استيراد الطاقة من إيران.
أخيرًا، لا يحتاج الأمر للكثير من التعقيدات لفهم أن إيكال ملفات بهذه الأهمية ومن صلب مهام وزارة الخارجية إلى “علي شمخاني”، يعني حالة من عدم الرضا الإيراني عن أداء وزير الخارجية المتشدد “حسين أمير عبد اللهيان”، وينذر ذلك بحالة من التغير من تعامل المرجعية العليا هناك مع ملف الإصلاحيين الذين طالما حاولت إقصائهم، ويرجح ذلك قدرة عالية على استشعار تصاعد المخاطر ضد النظام الإيراني بعد المظاهرات التي استمرت لأشهر، وتعرقل مفاوضات الاتفاق النووي والتوترات الإقليمية التي أحاطت بها إيران نفسها.
باحث أول بالمرصد المصري