
صراع التحالفات: لماذا تغير موقف الولايات المتحدة بشأن حضورها في الشرق الأوسط؟
قبل عام واحد فقط، كان أغلب الآراء المعنية يشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها إلى مغادرة الشرق الأوسط. وقد بدت آنذاك بعض مؤشرات ذلك الانسحاب المدروس واضحة، وذلك عندما قررت واشنطن الرحيل عن أفغانستان في شهر أغسطس 2021 وجدولة عملية انسحاب باقي قواتها من العراق. وعلى النسق نفسه، شهد الانخراط الأمريكي، سواء العسكري أو حتى السياسي، تراجعًا خلال السنوات القليلة الماضية في بعض المناطق الأخرى داخل الإقليم، مثل الشام.
ومع ذلك، تنبغي الإشارة إلى أن ذلك الانسحاب لا يعني سقوط منطقة الشرق الأوسط من قائمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية؛ إذ يُتوقع أنه كان من المقرر فقط أن تخفض واشنطن من مستوى مشاركتها العسكرية وانخراطها السياسي في المنطقة، ولم يكن الأمر يعني انسحابًا كليًا على أي حال؛ لأنه سيناريو لا يبدو منطقيًا.
وعلى أي حال، بدا بعد عام واحد فقط أن إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، ترى أن ذلك الانسحاب، أو ما يمكن أن نطلق عليه بشكل أدق “تراجع الاهتمام”، قد يضر بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية في ظل تغيرات وتحولات ملموسة على مستوى المنطقة والنظام الدولي. لذا، فقد اتضح من خلال زيارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى المنطقة، والتي بدأها في 13 يوليو الجاري، أن الولايات المتحدة في طريقها إلى تعديل استراتيجيتها التي كانت قد قررتها خلال العامين الماضيين والخاصة بحضورها الشرق أوسطي. وانطلاقًا من هنا، نتناول فيما يلي أسباب عودة الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط مجددًا.
الحرب الروسية الأوكرانية وصراع التحالفات
فرضت الحرب الروسية الأوكرانية، التي اندلعت في فبراير 2022، وضعًا جديدًا داخل هيكل النظام الدولي فيما يخص هُوية التحالفات على وجه التحديد؛ إذ على الرغم من أن طبيعة التحالفات السياسية أو العسكرية على المستوى الدولي قد أعيد تشكيلُها بشكل جديد وواضح نسبيًا خلال الفترة التي تلت سقوط الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991 وأنها قد استمرت على هذا النحو خلال العقود الثلاث الماضية، إلا أن أبعاد الحرب الجارية حاليًا بين موسكو وكييف قد دفعت كثيرًا من الدول المعنية إلى التأكيد على تحالفها إما مع الدول الغربية أو مع المعسكر الآخر الذي تقودُه روسيا والصين.
ووقع ذلك نتيجة لاتساع نطاق الخلاف الروسي الغربي على إثر اندلاع تلك الحرب. ومن ناحية أخرى، وفي ظل هذه الأزمة الروسية الأوكرانية، حدث تقارب أعمق في العلاقات ما بين روسيا وعددٍ من الدول الأخرى، من بينها إيران وسوريا، وحاولت موسكو -وهو العامل الأكثر تأثيرًا في سياق حديثنا- تحقيق طفرة في العلاقات مع بعض دول الشرق الأوسط التي لطالما تمتعت بعلاقات قوية وشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد أزعجت هذه المحاولاتُ الولايات المتحدة؛ فذلك يعني مزيدًا من الحضور أو الشراكة الروسية مع بعض دول الشرق الأوسط التي تتمتع بالأساس بشراكات وتحالف مع الولايات المتحدة. وقد تنظر واشنطن إلى هذا على أنه تهديد لمصالحها الاستراتيجية طويلة المدى في هذه المنطقة الحيوية للغاية من العالم.
وعليه، فقد سارعت الولايات المتحدة من جانبها إلى التأكيد مجددًا على تحالفها مع كثيرٍ من دول منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أوضحته زيارة الرئيس الأمريكي بايدن إلى الإقليم في يوليو الجاري. ويُتوقع كذلك أن تواصل واشنطن هذا المسار مع بعض دول المنطقة التي شابت علاقاتُها معها بعض الخلافات منذ مجيء إدارة الرئيس الحالي بايدن في يناير 2021.
الانخراط الصيني المتزايد في الشرق الأوسط
تأخذ الولايات المتحدة على محمل الجد التحركات الصينية المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط، والتي تتمحور بالأساس حول عقد شراكات اقتصادية ضخمة مع عددٍ من دول المنطقة، بعضُها حليف استراتيجي لبكين والآخر شريك رئيس لواشنطن.
فقد توصلت الصين، على سبيل المثال، إلى اتفاق استراتيجي شامل طويل المدى لمدة 25 عامًا مع إيران في مارس من العام الماضي تضمن تعاونًا ضخمًا على مختلف الأصعدة الاقتصادية والعسكرية وحتى الأمنية، وذلك باستثمارات تصل قيمتُها إلى 400 مليار دولار أمريكي، مقابل أن تقوم طهران بتصدير النفط لبكين بأسعار مخفضة وبكميات ثابتة. وعلى الرغم من العلاقات المضطربة بين إيران والولايات المتحدة، إلا أن اتفاقية شاملة على هذا النحو بين طهران وبكين قد لا تراها واشنطن في صالحها؛ لأنها، وفي ظل الصراع الاقتصادي المتنامي بين الصين والولايات المتحدة، تمنح الصين امتيازات “اقتصادية” هائلة داخل مختلف الأسواق الاقتصادية الإيرانية.
ومن ناحية أخرى، فإن ذلك النفط الإيراني الذي قد تحتاج إليه الأسواق الغربية في أي وقت سوف يُصَدّر إلى الصين بكميات هائلة ولمدة كبيرة (25 عامًا)، ما يعني نسبيًا عدم تمكن إيران من الوفاء بمتطلبات سوق الطاقة العالمية من النفط لاحقًا، خاصة في حال تمكنها من التوصل إلى اتفاق نووي مع الغرب يسمح بعده برفع العقوبات النفطية عن إيران وتصدير ذلك المورد الطبيعي إلى الأسواق الغربية.
وعلاوة على ذلك، بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، سعت الصين إلى تعزيز تعاونها الاقتصادي مع بعض دول الإقليم الواقعة في منطقة الخليج العربي، وهو ما سبب قلقًا لدى الولايات المتحدة؛ حيث ترتبط واشنطن بعلاقات اقتصادية وشراكة وثيقة مع هذه الدول. لذا، أدركت واشنطن المساعي الصينية وسارعت إلى التأكيد مجددًا على عمق العلاقات الأمريكية مع دول المنطقة.
تحقيق الاستقرار في سوق الطاقة
تواجه الولايات المتحدة في الوقت الراهن أزمة في بعض موارد الطاقة وأهمها النفط. وقد تفاقمت هذه الحالة داخل الولايات المتحدة منذ أشهر وبعد قرار واشنطن تخفيض واردات النفط الروسي، وفي ظل ما تعانيه الأسواق الدولية حاليًا من نقص في المعروض من هذا المورد. وعليه، فقد كان من بين أهداف زيارة بايدن إلى المنطقة مؤخرًا التشاور والتباحث مع دولها بشأن دعم أسواق الطاقة العالمية في ظل الأزمات التي تعاني منها في الوقت الراهن.
ومن زاوية أخرى، يكشف لنا هذا الأمر عن الأهمية القصوى التي لا تزال تتمتع بها موارد الطاقة الأحفورية غير المتجددة مثل النفط والغاز، وأن المصادر الأخرى غير الأحفورية، مثل الهيدروجين الحيوي والزيت النباتي، لم تصل إلى نفس هذه الحيوية التي تتمتع بها الموارد الأحفورية.
وختامًا، على الرغم من قرار واشنطن تخفيض مستوى انخراطها في ملفات الشرق الأوسط ككل، إلا أن التغييرات الملموسة التي يشهدها النظام الدولي، في ظل الحرب الروسية الأوكرانية وما تفرضه من أبعاد، قد دفعت واشنطن إلى مراجعة ذلك القرار مؤخرًا. وانطلاقًا من مجمل ما تم التطرق إليه، يتضح لنا أن مراجعة ذلك القرار من قِبل الولايات المتحدة يعود بشكل رئيس إلى:
- أبعاد الصراع الدولي بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
- التحولات الجديدة التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية.
- أزمة الطاقة سواء داخل الولايات المتحدة أو على مستوى العالم.
باحث بالمرصد المصري