قراءة في الصراع اللبناني الإسرائيلي في مياه المتوسط.. هل يضع المبعوث الأمريكي حلًا؟
تاريخيًا مرت العلاقات اللبنانية الإسرائيلية بمحطات عديدة من المفاوضات وسنوات من الخلافات، مفاوضات توقف فيها الجانبان كثيرًا لإيجاد اتفاق أو تفاهم يضع حدًا للنزاع بينهما، غير أن تلك الاتفاقات الهشة سرعان ما تنهار على أرض الواقع، لتبدأ جولات جديدة من المفاوضات والعودة إلى الصراع مجددًا، ولكن هذه المرة عاد ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية إلى الواجهة مجددًا، من بوابة إنرجين باور ودخولها المنطقة المتنازع عليها، استعدادًا لاستخراج الغاز الطبيعي من حقل كاريش.
مقدمة
تسعى جميع دول العالم إلى تقييم مواردها والعديد من الدول تنفض الغبار عن مشاريعها الغازية المتوقفة، ولبنان يدفن ثرواته الموعودة تحت أطنان من رمال الخلافات والتناقضات، إنها معادلة الفرصة الضائعة التي يتفنن المسؤولون في حياكة خيوطها كل مرة، ففي غمرة النزاع على الحدود البحرية، بدأت إسرائيل فعليًا، عقد التحالفات والانتشار لوجيستيًا في المنطقة الممتدة بين الخطين ٢٣ و٢۹ المتنازع عليها، وأدرك الشعب اللبناني مؤخرًا أن الاهتمام العالمي الكبير بثروات الدولة اللبنانية ليس وليد اليوم واللحظة فمنذ عام ١۹٧٤، عندما كان لويس أبو شرف، وزيرًا للنفط والطاقة، فاجأته الشركات العالمية والعاملة في قطاع النفط العالمي بطلبات الحصول على تراخيص للتنقيب والبحث في الجزء الشمالي من المياه اللبنانية، شمالي العاصمة بيروت، منح يومها تراخيص لبعضها مقابل أكثر من ١٥ مليون ليرة لكل شركة، ولكن مع اندلاع الحروب في بداية عام ١۹٧٥ أقفل الملف ليعاد فتحه بعد اتفاق الطائف في عام ١۹۸۹، وتوالى العديد من الحكومات، وتشابكت الطوائف والأحزاب، وتقاطعت المصالح الشخصية بالوطنية في أسرار النفط والغاز الطبيعي، بما أرعب اللبنانيين وجنح بهم مجددًا للتبشير بتجدد الحروب الأهلية، ووقف الشعب اللبناني يراوح مكانه عائمًا بين الديون والأزمات السياسية.
مدخل
إذا كانت لعنة الموارد والثروات الطبيعية موثقة تاريخيًا في بعض البلدان الغنية، حيث أدى إنتاج النفط والغاز الطبيعي إلى تراجع مستويات الأداء الاقتصادي لديها، وبروز العديد من الأزمات السياسية والاجتماعية المتتابعة، فمن الواضح بأن هذه اللعنة ضربت مفتاح الشرق مبكرًا وقبل اكتشاف أي من مواردها وتحقيق أي ثروات منها، ففي ٢٠١٨، ومع توقيع الحكومة عقود النفط الأولى، برز العديد من التوقعات الكبيرة والآمال العريضة، وعندما أطلقت ندى البستاني وزيرة الطّاقة السابقة بدء أعمال حفر أول بئر في القطاع رقم ٤ والواقع في منطقة البترون شمال العاصمة بيروت، وسلمت ترخيصًا رسميًا بذلك لائتلاف ثلاث شركات (توتال الفرنسية، وإيني الإيطالية، ونوفاتيك الروسية).
بشر ميشال عون رئيس الجمهوريّة اللبنانيين بقرب دخول الجمهورية اللبنانية نادي الدول المنتجة للنفط والغاز الطبيعي، وسارع الشباب اللبناني والذي يحلم بمسارٍ مهني مربح ومريح، إلى التوجه نحو الاختصاصات الجديدة والمتعلقة بصناعة النفط والغاز الطبيعي، والتي أطلقها العديد من المؤسسات التعليمية، وذلك بهدف الاستفادة من الشروط التي تم فرضها على الشركات الأجنبية بأن يكون حوالي ٨٠٪ من موظفيها على الأقل من اللبنانيين.
ولكن جاءت خَيبات الأمل بإعلان شركة توتال، بوصفها المشغلة للائتلاف العالمي، إنهاء حفر البئر في القطاع رقم ٤ على عُمق ٤٠٧٦ مترًا، والتي عبرت طبقة الأوليجوميوسين الجيولوجية المُستهدفة بالكامل، وأنها لاحظت آثار للغاز، الأمر الذي يؤكد وجود نظام هيدروكربوني، غير أنه لم يتم العثور على خزانات في تكوين تمار الذي شكل الهدف الرئيسي لهذه البئر الاستكشافية، وأوضحت الشركة إلى أنه سيتم إجراء دراسات لفهم النتائج وتقييم احتمالات الاستكشاف، وتم تأجيل الحفر في البلوك رقم ٩ الواقع في جنوب لبنان، والجدير بالذكر أن حفر كل بئر يُكلف الشركات نحو أكثر من حوالي ٥٠ مليون دولار، والعقد لا يُلزمها في السنوات الثلاث الأولى سوى بحفر بئرٍ واحدة.
ثروات لبنان ومخاوف فؤاد شهاب
إن احتمالية وجود النفط والغاز الطبيعي في لبنان ليس جديدًا، بل يعود إلى ما قبل أكثر من ٩٨ عامًا وأيضا وبالتحديد في عام ١٩٦٠،عندما دخل وزير الأشغال إلى اللواء فؤاد شهاب رئيس الجمهورية في ذلك التوقيت وقدم له تقرير وصفه بأنه سيرفع لبنان إلى مصاف الدول الثرية، وبعدما استفسر الرئيس عن محتويات الملف، أجابه الوزير بأنه وجده في أدراج مكتبه، ويتضمن دراسة مفصلة أعدها المحتل الفرنسي عام ١٩٢٣، لما يختزنه لبنان برًا وبحرًا من ثرواتٍ نفطية ومعادن ثمينة، والملف المذكور، يتضمن أيضًا دراسات ووثائق وخرائط، وعلى الرغم من أهمية هذا الملف الذي يُمكن أن ينقل البلد إلى دولة منتجة للنفط، فقد أعاده الرئيس إلى الوزير قائلًا احفظه في أدراج مكتبك، لكن الوزير لم يُعجبه الكلام، واضطر لحفظه على مضض، وبعد ١٠ دقائق تمنى على الرئيس أن يشرح له الأسباب، فأجابه بابتسامةٍ إذا فتحنا الملف، لن نكتفي بعدوٍ واحد (هو إسرائيل)، بل ستكون دولُ العالم كلها أعداءً لنا.
المعوقات اللبنانية للتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي
هناك العديد من المعوقات والتحديات التي تقف حائلًا أمام الجانب اللبناني في مسألة التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية، لعل أهمها:
- عدم اتفاق أركان المنظومة اللبنانية الداخلية على تقاسم المنافع والحصص الناجمة عن مردود بيع النفط والغاز الطبيعي.
- الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية على شركات الحفر والتنقيب العالمية لعدم مباشرة العمل مع لبنان قبل تسوية نزاعه مع إسرائيل أولًا على ترسيم الحدود البحرية بينهما.
- الخلاف القائم بين أركان المنظومة حول القطاعات Blocks التي يقتضي البدء بالتنقيب فيها؛ إذ إن بعضهم يريد البدء بالقطاعات الجنوبية لكونها تتمتع بالمخزون الأكبر، فيما البعض الآخر يريد البدء بالقطاعات الشمالية وذلك لتفادي الصراع لكونها بعيدة عن منشآت النفط والغاز الإسرائيلية والمحاذية للمياه الإقليمية اللبنانية في جنوب البلاد.
- عزم إسرائيل على المباشرة في إنتاج النفط والغاز الطبيعي من حقل كاريش والذي يقع أكثر من ثلثه في المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية وذلك بعدما استحضرت سفينة الإنتاج FPSO لبدء شفط (سحب) النفط والغاز الطبيعي منه وذلك قبل نهاية عام ٢٠٢٢.
- ارتكاب المنظومة اللبنانية خطًا فادحًا في ترسيم الحدود اللبنانية البحرية مع قبرص؛ وذلك باعتمادها الخط رقم ١ بدلًا من الخط رقم ٢۹، وتهاونت في تصحيح هذا الخطأ بامتناعها عن تعديل المرسوم ٢٠١١/٦٤٣٣ وإبلاغ الأمم المتحدة التصحيح المطلوب بالمرسوم الجديد وذلك بهدف الحفاظ على حقوق لبنان السيادية في مياهه الإقليمية.
- عدم توافر دراسة سياسية مفصلة في المقام الأول تترافق مع دراسة اقتصادية كبيرة، وذلك لتحديد مكامن القوة لدى لبنان، ثم تحديد خيوط الصراع الكبير التي يمكن له أن يناور ضمنها، بغية الوصول إلى ما يمكن أن يقدمه ليكون جزءًا من اللعبة الكبرى ليحفظ حقوقه وثرواته، ولكي يتمكن من استغلال ثرواته الطبيعية من دون أن يشهد صراع عليه ويتحول إلى بقعة أزمات حادة وطويلة الأمد.
الصراع اللبناني الإسرائيلي
مر تاريخ العلاقات اللبنانية الإسرائيلية بمحطاتٍ عديدة ومختلفة، توقف فيها الجانبين لإيجاد اتفاق أو تفاهم يضع حدًا لحالة الصراع، غير أن تلك الاتفاقيات الهشة سرعان ما تنهار، لتتم العودة إلى حالة الصراع مُجددًا، إلا أن التقارب الحالي الذي تُسيره الإدارة الأمريكية يبدو مختلفًا، في ظل الظروف الاقتصادية المتردية التي أضرت بمجمل المشهد السياسي اللبناني وفي ظل سعيها المستمر من إبعاد روسيا عن المشهد في لبنان من خلال ذراعها النفطي نوفاتيك الروسية.
تخوض لبنان وإسرائيل مفاوضات غير مباشرة منذ سنوات طويلة، إذ انطلقت عام ٢٠٢٠ برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة بهدف التوصل إلى حل لترسيم الحدود البحرية، إلا أن الملف جُمد خلال الأشهر الماضية بعد عدة جولات عن طريق الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين، ويطمح لبنان إلى تقاسم الموارد النفطية مع إسرائيل في المياه الإقليمية، إذ تبلغ المساحة المتنازع عليها حوالي ٨٦٠ كيلومترًا مربعًا، وفقًا لخريطة مسجلة لدى الأمم المتحدة، عام ٢٠١١، وتطالب لبنان بمساحة إضافية تبلغ حوالي ١٤٣٠ كيلومترًا مربعًا، جنوبًا، وتمتد إلى جزء من حقل كاريش للغاز الطبيعي، والذي خصصته إسرائيل لشركة إنرجين اليونانية، للبحث والتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي، ويُعرف الطرح اللبناني الحالي بالخط رقم ٢٩، وهو الأمر الذي ترفضه إسرائيل، ومتهمة بيروت بعرقلة مفاوضات ترسيم الحدود عبر توسيع مساحة المنطقة المتنازع عليها.
لقد كان لبنان يراعي ثلاثة اعتبارات أساسية، هي:
- هناك حاجة للتوصل إلى نقاط أكثر دقة عند الترسيم، ولذلك ترك الباب مفتوحًا، وفقًا لما هو مشار إليه في نص الاتفاقية أمام تعديل محتمل لهذه الإحداثيات، على أن يتم ذلك بالاتفاق بين الطرفين.
- هناك حاجة ضرورية لرسم حدود لبنان البحرية مع الأطراف الأخرى التي قد تكون معنية بالاتفاق بحكم تجاور أو تقابل الحدود (في هذه الحالة التجاور مع سوريا وإسرائيل).
- هناك حاجة لتلافي الاشتباك مع الجانب السوري والإسرائيلي.
الوساطة والجهود التاريخية
تعود جهود الوساطة الأساسية في ملف النزاع اللبناني الإسرائيلي على ترسيم الحدود البحرية إلى عام ٢٠١٢، والتي من الممكن إيجازها في أربع مراحل أساسية تولت الولايات المتحدة الأمريكية مهمة القيام بها، وهي:
مرحلة فريديرك هوف والتي عينت الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت المبعوث الخاص السابق إلى سوريا ولبنان فريديريك هوف، وذلك للقيام بمهام الوساطة بين الطرفين والمساعدة على التوصل إلى حل للخلاف بينهما، واقترح هوف تقسيم المنطقة المتنازع عليها مؤقتًا بين لبنان وإسرائيل، وذلك بنسبة ثلثين لصالح لبنان وثلث لصالح إسرائيل.
مرحلة أموس هوشتاين والتي كانت في عام ٢٠١٣، حيث اقترح أموس هوشتاين مساعد وزير الطاقة الأمريكي رسم خط أزرق بحري مؤقت على غرار الخط الأزرق البري المرسوم بين لبنان وإسرائيل، على أن تبقى المنطقة المتنازع عليها والملاصقة للخط من الجهتين خارج عمليات الاستكشاف والتنقيب، إلى أن يتم الاتفاق على ترسيم نهائي للحدود البحرية، لم ير هذا المقترح النور بعدما كان لبنان يريد أن تقوم الأمم المتحدة بدور لرسم الحدود.
مرحلة ديفيد ساترفيلد والتي بدأت هذه المرحلة من التفاوض على آلية التفاوض بشكل فعال في عام ٢٠١٩، وبدا أنها مدفوعة بحاجة لبنان إلى التنقيب على النفط والغاز الطبيعي، ولذلك تم طرح مقترح لبناني حول آلية التفاوض، حمله ديفيد ساترفيلد مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى إلى إسرائيل، كان لبنان يريد تلازم مساري ترسيم الحدود البحرية والبرية، وأن تجرى المفاوضات برعاية الأمم المتحدة ودعم الولايات المتحدة الأمريكية في مقر قيادة قوة الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل) في الناقورة جنوب الجمهورية اللبنانية، وأن يكون التفاوض مفتوحًا زمنيًا، أما إسرائيل فكانت تريد التفاوض على الترسيم البحري فقط، وأن يتم في الخارج (القارة الأوروبية أو الولايات المتحدة الأمريكية)، وأن يكون محددًا بفترة زمنية قصيرة (لا تتجاوز٦ أشهر)، وتم تحقيق تقدم كبير في هذه المرحلة، لكن التقدم حصل فعليًا في المرحلة التالية.
مرحلة ديفيد شنكر حيث تسلم شنكر مهامه خلفًا لساترفيلد في يونيو من عام ٢٠١٩، وشهدت هذه المرحلة التقدم الأبرز مع التوصل في أكتوبر من عام ٢٠٢٠ إلى اتفاق الإطار الذي يحدد إطار التفاوض وآلياته حول النزاع، وفق هذا الاتفاق، ستكون المباحثات غير مباشرة بين الطرفين اللبناني والإسرائيلي بوساطة وتسهيل من الولايات المتحدة الأمريكية ورعاية من الأمم المتحدة، وذلك في المقر الأممي بالناقورة اللبنانية على الحدود مع إسرائيل، حيث تم الاتفاق أيضًا على أن يُصار إلى بحث مسألة الحدود البرية بشكل منفصل، لكن بموازاة التقدم الذي يحصل في المفاوضات بخصوص ترسيم الحدود البحرية.
تعتبر النقطة الأساس في المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية تثبيت نقطة انطلاق الحدود البحرية في البر عند رأس الناقورة وحسم الخلاف حول النتوء الصخري تخليت ( مساحة حوالي ٣٠٠ متر مربع) حيث يؤكد لبنان مستندًا للقانون الدولي للبحار أنه نتوء صخري لا تسري عليه مفاعيل الجزر إذ إنها لا تظهر في الشتاء ومع ارتفاع الموج وهي غير مأهولة بينما تعتبرها إسرائيل جزيرة تُمثل امتدادًا للبر الإسرائيلي بغية دفع الحدود شمالًا واعطائها تبعًا لقانون البحار ما يعرف بالتأثير الكلي للجزر، ولقد عرف تاريخ المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية ٤ خطوط للتفاوض وهي:
الخط الأول أي الخط رقم ١ أو خط عبد الحفيظ القيسي عام ٢٠٠٧ (المدير العام لوزارة النقل والأشغال العامة وموفد رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة إلى قبرص لإجراء مفاوضات الترسيم) ويتمسك الجانب الإسرائيلي بهذا الخط رغم كونه بحكم الساقط قانونيًا وتقنيًا؛ لأنه لم يحترم المعايير التقنية الدولية المعتمدة في ترسيم الحدود، ولم يعتمد رأس الناقورة نقطة انطلاق، ولم يصدق عليه مجلس النواب، ما يجعله غير نافذ.
الخط الثاني هو خط هوف (نسبة للسفير الأمريكي المفاوض فردريك هوف) وذلك في عام ٢٠١٢، والذي يقسم المنطقة المتنازع عليها بالتساوي بين لبنان وإسرائيل.
الخط الثالث فهو خط الجيش اللبناني أو النقطة رقم ٢٣ بموجب رسالة لبنانية إلى الأمم المتحدة وصدور المرسوم رقم ٦٤٣٣، وهذا الخط يعد أيضًا ساقطًا قانونيًا وتقنيًا؛ إذ إنه اعتمد الخط المتساوي، لكنه لم يراعِ الظروف الاستثنائية المتمثلة في صخرة تخليت.
الخط الرابع والذي يُعرف بالخط رقم ٢٩، وهو الخط الوحيد الذي يراعي معايير الترسيم بحسب القانون الدولي للبحار؛ إذ إنه ينطلق من رأس الناقورة. وهو يعتمد الخط المتساوي، ويراعي وجود ظرف استثنائي هو صخرة تخليت. وإذا كان الأمر التقني والقانوني حاسمًا لجهة أن حق لبنان ثابت في تحديد منطقته الاقتصادية الخالصة استنادًا إلى الخط رقم ٢٩، فإن التقاعس عن تعديل المرسوم رقم ٦٤٣٣ المشار إليه أعلاه، وعدم طرحه على طاولة مجلس الوزراء، والتأخر في تبني خط رقم ٢٩ رسميًا لدى الأمم المتحدة؛ يطرح العديد من التساؤلات.
ومع إصرار ميشال عون رئيس الجمهورية على سحب ملف التفاوض من بري، وتكليف قيادة الجيش بتشكيل وفد عسكري تقني للتفاوض، وبعد أن أعادت قيادة الجيش دراسة الخرائط وناقضت اتفاق الإطار الذي وضعه بري مع الأمريكيين معتمدة الخط رقم ٢٩ بدلًا من الخط رقم ٢٣؛ تراجعت الوساطة الأمريكية، إلى أن عين الرئيس جو بايدن في أكتوبر من عام ٢٠٢١ وسيطًا جديدًا لملف ترسيم الحدود هو آموس هوكشتين، الرجل الضليع في مجال الطاقة، وهو الأمر الذي رآه الجميع قرارًا أمريكيًا ببذل جهد إضافي لاستئناف المفاوضات والتوصل إلى تسوية مقبولة من الطرفين، لكن شرط ألا تنطلق من الخط رقم ٢٩.
دلالات تعيين آموس هوكشتاين لإدارة ملف ترسيم الحدود البحرية
تضاربت المعلومات عن أصول آموس هوكشتاين، ولكنه يُعد من المقربين للرئيس الأمريكي جو بايدن، وكان مساعدًا له مما ينعكس على الأهمية التي تراها الإدارة الأمريكية في حل هذه المسألة وإن تعيينه لإدارة ملف ترسيم الحدود مؤشر قوي وله العديد من الدلالات الإيجابية، وقد عين الرئيس الأمريكي هوكشتاين مستشارًا سابقًا، ومبعوثًا للطاقة في وزارة الخارجية، ومكلفًا بتنفيذ صفقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا تسمح باستكمال خط أنابيب نورد ستريم-٢.
وكذلك كان دور هوكشتاين أساسيًا في تأمين اتفاق إسرائيل لتزويد الأردن بالغاز الطبيعي في عام ٢٠١٤، وسافر إلى العراق وشارك في مناقشات دبلوماسية أمريكية عبر القنوات الخلفية لاحتمال رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية مقابل إعادة التوطين المحتملة لعدة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين في وسط العراق، وكان في رأيه أنه يجب الإبقاء على العقوبات الاقتصادية مع الاعتراف بضرورة إضفاء الطابع الإنساني عليها. وحل آموس هوكشتاين مكان الدبلوماسي الأمريكي جون ديسروشر الذي توسط في مفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل منذ أن بدأت في ظل إدارة ترامب في أكتوبر من عام ٢٠٢٠.
وفي ختام زيارته الأولى إلى العاصمة اللبنانية بيروت في فبراير الماضي ولقاءاته مع المسؤولين، كان للمبعوث الأمريكي لقاءات إعلامية، وصف خلالها مسعاه بأنه فرصة لابد من استثمارها وإتمامها، وقال إن الولايات المتحدة الأمريكية تركز في هذه المرحلة على مساعدة لبنان في مجالات الطاقة، فلا يمكن للبنان أن يبقى في هذه الحالة السيئة من عدم توفر الكهرباء ومصادر الطاقة، ولذلك تساعد واشنطن لبنان على توفير عقد اتفاقيات مثل الغاز الطبيعي من مصر والكهرباء من الأردن بناء على اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
ورأى هوكشتاين أن هناك فرصة جدية للبنان ليخرج من أزماته؛ من خلال الرهان على ملف استخراج النفط والغاز الطبيعي، بعد حل مشكلة ترسيم الحدود، وتوجه إلى اللبنانيين بالقول إنه عليهم ترك السياسة جانبًا والتفكير بالمستقبل، وبضرورة النظر إلى كل الدول المحيطة بهم والتي حققت منذ عشر سنوات إلى اليوم نقلات نوعية في ملف الطاقة والغاز الطبيعي، بالنظر إلى مصر وقبرص واليونان، وبالتالي، على لبنان الالتحاق بهذا المسار وعدم الاستمرار في الأزمات المتوالية، وصحيح أن الوقت تأخر، ولكن لم يفت الأوان بعد.
وغادر بعدها آموس منتظرًا رد الجانب اللبناني على حديثه والذي لم يأت، فيما اكتفي الرؤساء الثلاثة عون وميقاتي وبري عقب اجتماع عقد بعد ٤٠ يومًا على زيارة هوكشتاين بإصدار بيان ضبابي يعلن التمسك بالعودة إلى اتفاق الإطار الذي لا يحدد أي خطوط أو مناطق متنازع عليها، بل ينطلق من قانون البحار والمواثيق الدولية، وقرر الرؤساء دعوة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاستمرار في جهودها لاستكمال المفاوضات لترسيم الحدود البحرية.
وفي مارس الماضي، سلمت دوروثي شيا السفيرة الأمريكية لدى بيروت رسالة رسمية من آموس هوكشتاين إلى كبار المسؤولين اللبنانيين تضمنت عرضًا خطيًا للطرح الذي كان قد قدمه شفويًا فيما يتعلق بالترسيم البحري. وذُكر وقتها أن الرسالة انطوت على رسم بياني للخط الذي اقترحه هوكشتاين ولحقل قانا، انطلاقًا من التسوية التي عمل عليها تحت البحر (الخط رقم ٢٣ انطلاقًا من انحناءات أو تعرجات توزع حقولًا بعضها معروف مثل قانا للبنان ولو غير مكتشف وبعضها الآخر مخفي لإسرائيل)، ويُذكر أن المرحلة التي فصلت بين زيارة الوسيط الأمريكي وتقديمه العرض الخطي تخللها لقاء سري عُقد في ألمانيا بينه وبين جبران باسيل رئيس التيار الوطني.
وقفت الوساطة الأمريكية عند هذه النقطة حتى دخلت إنرجين باور إلى حقل كاريش، وأعلن عن بدء استخراجها للغاز لصالح إسرائيل، مما دفع بالرؤساء الثلاثة إلى الاستنجاد مجددًا بالوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين ودعوته إلى زيارة لبنان لاستئناف المفاوضات مرة أخرى، وعلى قاعدة أن الخط رقم ٢٩ كان تفاوضيًا فقط كما أعلن رئيس الحكومة.
إنرجين باور تشعل فتيل الأزمة مرة أخرى
لم تمر أيام قليلة على الوصول المثير للمخاوف الضخمة لسفينة إنتاج الغاز الطبيعي “إنرجين باور” إلى حقل كاريش المتنازع عليه بين لبنان وإسرائيل، حتى ذهب الإعلام الإسرائيلي يتحدث عما وصفه بدمج القبة الحديدية بالكامل في السفن الحربية التابعة للبحرية الإسرائيلية، وضرورة تحديث الرادارات لحماية منصات الغاز البحرية الإسرائيلية من أي هجوم، بما يعكس استنفار هواجس المواجهة المحتملة بين إسرائيل ولبنان، بسبب الحدود البحرية المتنازع عليها في مياه البحر الأبيض المتوسط، في ظل عدم انتظار الجانب الإسرائيلي للتوصل إلى اتفاق مع الجانب اللبناني، وانشغال الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب الروسية الأوكرانية.
وقد حذر رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، نجيب ميقاتي، الأسبوع الماضي من محاولة فرض إسرائيل سياسة الأمر الواقع في منطقة بحرية متنازَع عليها مع بلاده، وفي الوقت ذاته أكد أن لبنان متمسك بحقوقه في المنطقة البحرية محل النزاع مع إسرائيل. وعبر مجموعة تغريدات، نشرها حساب مجلس الوزراء على تويتر، دعا ميقاتي الأمم المتحدة وجميع دول العالم إلى ضرورة تدارك الوضع وإلزام إسرائيل بوقف استفزازاتها، ومعتبرًا أن ما تقوم به إسرائيل أمر في منتهى الخطورة، ومن شأنه إحداث توترات لا أحد يمكنه التكهن بتداعياتها.
وقال الرئيس ميشال عون إن أي نشاط في منطقة بحرية متنازَع عليها مع إسرائيل يُمثل استفزازًا وعملًا عدائيًا، مؤكدًا أن المفاوضات لترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل لا تزال مستمرة. وأجرى رئيس الجمهورية ميشال عون اتصالات مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وعدد من المعنيين للبحث في هذه التطورات، وطلب من قيادة الجيش تزويده بالمعطيات الدقيقة والرسمية ليبني على الشيء مقتضاه، لافتًا إلى أن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية لا تزال مستمرة، وبالتالي فإن أي عمل أو نشاط في المنطقة المتنازع عليها يشكل استفزازًا وعملًا عدائيًا.
وأودع لبنان لدى الأمم المتحدة منذ أسابيع قليلة رسالة يؤكد فيها تمسكه بحقوقه وثرواته البحرية، وأن حقل كاريش الذي استولت عليه إسرائيل يقع ضمن المنطقة المتنازع عليها، وجرى تعميمها في حينه على كل أعضاء مجلس الأمن الدولي كوثيقة من وثائق المجلس. وطلب لبنان أيضًا من مجلس الأمن عدم قيام إسرائيل بأي أعمال بحث وتنقيب في المناطق المتنازع عليها؛ تجنبًا لخطوات قد تُمثل تهديدًا حقيقيًا للسلم والأمن الدوليين، وأكدت الرسالة أن الجانب اللبناني ما زال يعول على نجاح مساعي الوساطة التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية والوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين، من أجل التوصل إلى حل تفاوضي لمسألة الحدود البحرية برعاية الأمم المتحدة.
وفي الوقت الذي يطالب فيه الجانب اللبناني بضرورة وضع حد للاستفزازات الإسرائيلية، فإن إنرجين باور لم تتمركز شمال الخط رقم ٢٩، بل جنوبه ولم تدخله عمليًا، وهو ما يشير إلى أن هناك إمكانية للتوصل إلى اتفاق حول ترسيم الحدود. وبدأ العمل على دعم وتثبيت موقع السفينة في حقل كاريش مع إرساء سفينتين على متنها، واحدة خاصة بإطفاء الحرائق وأخرى معنية بنقل الطواقم والعاملين.
وكان لبنان قد بعث برسالة إلى الأمم المتحدة بتاريخ ٢٨ من يناير الماضي والذي أكد فيها حقه بالخط رقم ٢٩ بعد حصول شركة هاليبرتون الأمريكية في سبتمبر من عام ٢٠٢١ على ترخيص وقعت بموجبه عقدًا مع شركة نوبل إنرجي اليونانية لحفر آبار في القسم الشمالي من حقل كاريش والذي يقع بالقرب من المربع رقم ٩ اللبناني.
وفي تحرك سريع ومحاولة لتهدئة الوضع، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الإعلان عن زيارة آموس هوكشتاين الثانية في الفترة من ١٣-١٤ يونيو الجاري. وبحسب بيان لوزارة الخارجية الأمريكية، فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تأمل في توصل لبنان وإسرائيل إلى قرار نهائي بشأن مسألة ترسيم الحدود البحرية؛ لقدرتها على جلب مزيد من الاستقرار والأمن والرخاء للبلدين والمنطقة ككل.
صراع جيوسياسي
نفط لبنان أصبح في عاصفة الصراع العالمي من أجل استثمار النفوذ الجيوسياسي، فإن القرار الاستراتيجي الآن لم يعُد بيد الشركات العالمية، بل انتقل إلى حكومات الدول نفسها والمُتصارعة على ثروات لبنان. ومن الملاحظ أن روسيا تسعى إلى الحصول على المزيد من الاستثمارات، وبعد شركة نوفاتيك التي استحوذت على حصة حوالي ٢٠٪ من القطاعين ٤و٩، وحصول شركة روسنفت على امتياز تطوير مُنشآت النفط في العاصمة الليبية طرابلس؛ تستعد شركات روسية أخرى مثل غاز بروم ولوك أويل للاشتراك في عملية التراخيص الثانية، وبالتحديد القطاعين ١و٢ على الحدود البحرية شمالًا مع سوريا، ومُستفيدةً من قدرة موسكو على حل الخلاف مع الحكومة السورية.
أما بالنسبة للشركات الأمريكية، فهي تراقب تطورات الصراع، مع تركيز واشنطن على تحالفها الاستراتيجي مع اليونان وإسرائيل، وسعيها إلى الحصول على أكبر استثمارات نفطية وغازية ممكنة في لبنان، ولاسيما في القطاع الجنوبي، وفي إطار وساطتها لحل الخلاف على ترسيم الحدود مع إسرائيل.
خلاصة القول، تظل جميع الاحتمالات واردة، سواء بأن يضع هوكشتاين المسؤولين اللبنانيين أمام خيار القبول بالنقطة رقم ٢٣، أو القبول بتقاسم إنتاج موارد المنطقة المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل وبرعاية شركة تعطي حصة تشغيلية في البلوكات الحدودية بين الطرفين. ومن الممكن أن تتوقف المفاوضات، أو أن يلجأ الجانب اللبناني إلى عمليات التنقيب والحفر أيضًا، ومن الممكن أيضًا أن تزداد نبرات التصعيد والتهديدات المتبادلة.
ولكن لن يؤدي الأمر إلى أي مواجهة عسكرية كبيرة أو انفجار، بل سيزيد من تعقيدات الأوضاع الداخلية في الدولة اللبنانية؛ لأنه ليس هناك إجماع لبناني على التعامل مع هذا الملف، وفي نفس الوقت لا يسعى الجانب الإسرائيلي إلى تفجير الأوضاع في هذه المرحلة، لأن الأوضاع الداخلية في فلسطين صعبة بالنسبة للجانب الإسرائيلي، وكذلك الأزمات السياسية الداخلية لتل أبيب والمشغولة بالأبعاد الإقليمية حول المفاوضات النووية الإيرانية. وقد يكون الوضع أمام أزمة سياسية حادة وتصعيد في لهجة التفاوض.
وفي الأخير، أصبح لبنان أمام مفترق خطر في كيفية التعامل مع هذا الملف الحيوي والذي يتعلق بثرواته البحرية، وسنرى كيف سيكون عليه موقف الدول الفاعلة، كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، إزاء أي تطورات إسرائيلية محتملة والتي يراها لبنان عملًا عدائيًا. وفي الأخير تتكثف الأحداث لتؤشر إلى أن منطقة البحر الأبيض المتوسط ستشهد مرحلة جديدة من مراحل تجميع الأوراق، مما قد يفتح المنطقة على سيناريوهات خطرة أو متفجرة.
مصادر:
- تفاصيل الصراع بين دول شرق البحر المتوسط، على حسين باكير، النزاع على الغاز في شرق المتوسط ومخاطر النزاع، مركز الجزيرة للدراسات، ١٩ أبريل ٢٠١٨.
- السنيورة يستذكر كيف أدار مفاوضات ترسيم حدود المنطقة الخالصة: شعبوية حزب الله هدفت لمنع الإصلاحات والتغطية على بقاء سلاحه، صحيفة اللواء اللبنانية، ١٥ أكتوبرعام ٢٠٢٠، ص ٦-٧.
- نص الاتفاقية القبرصية-الإسرائيلية، ملف قبرص في شعبة شؤون المحيطات وقانون البحار بمكتب الشؤون القانونية في الأمم المتحدة.
- نص رسالة اعتراض لبنانية إلى الأمين العام للأمم المتحدة (تلتها رسائل متعددة)، ملف لبنان في شعبة شؤون المحيطات وقانون البحار بمكتب الشؤون القانونية في الأمم المتحدة.
- نص المرسوم اللبناني رقم ٦٤٣٣ لتحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، ملف لبنان في شعبة شؤون المحيطات وقانون البحار بمكتب الشؤون القانونية في الأمم المتحدة.
- طوني بولس، هل يفتح ملف ترسيم الحدود المفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل؟، إندبندنت عربية، ١٦ أغسطس ٢٠٢٠.
- ساترفيلد يبلغ بيروت موافقة إسرائيل على التفاوض لترسيم الحدود (مسؤولان)، فرانس ٢٤، ٢١ مايو ٢٠١٩.
دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة



