روسيا

“روسيا والناتو”..تصعيد مُستمر

في مزيد من التدهور في العلاقات بين الغرب وروسيا بشكل يُنبئ بأن العلاقات بينهما تنحدر أكثر فأكثر نحو الهاوية، وتقترب بشكل كبير نحو ما كانت عليه قبل الحرب الباردة التي انتهت أواخر ثمانينيات القرن الماضي؛ تلقى الكرملين صفعة قوية من دول حلف شمال الأطلسي “ناتو”، عندما أعلن الأمين العام للحلف “ينس ستولتنبرغ” يوم 7 أكتوبر 2021، طرد ثمانية دبلوماسيين روس من المعتمدين في البعثة الدبلوماسية الروسية لدى حلف شمال الأطلسي، مُتهمًا إياهم بالقيام بأنشطة استخباراتية مشبوهة لصالح موسكو تتضمن التجسس والاغتيالات وهو ما يُقلص عدد الدبلوماسيين الروس المعتمدين لدى الحلف إلى عشرة فقط.

رأت روسيا هذا القرار، تقويضا لأي اّمال لعودة العلاقات الروسية الأوروبية واستئناف الحوار. لكن الرد الروسي لم يتأخر كثيرًا، ففي 18 أكتوبر الجاري، أعلنت موسكو تعليق عمل بعثتها لدى الحلف وإغلاق مكاتب حلف الناتو في موسكو، وذلك ابتداء من 1 نوفمبر 2021. كما أعلن وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” أنه سيتم إغلاق مكاتب الاتصال العسكري والمعلومات التابعة للحلف في موسكو، موضحًا أن الاتصال بين الحلف وموسكو سيتم فقط من خلال السفارة الروسية في بلجيكا.

كل هذه الأمور، ستزيد بلاشك من التوتر القائم بالفعل منذ سنوات بين روسيا ودول الحلف، حيث تتخوف روسيا من زيادة وجود الحلف العسكري بالقرب من الحدود الروسية، الأمر الذي تعتبره موسكو خرقاً للوثيقة الأساسية للعلاقات مع الحلف.

على الجانب الأخر، دائمًا ما ينتقد الحلف السلوك الروسي خاصة في قضايا تتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية، واتهام روسيا بارتكاب جرائم إلكترونية، فضلاً عن تدخلها في الانتخابات الغربية، وزادت الأمور تعقيدًا بين الجانبين منذ عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم.

في سياق أخر، ربط البعض القرار الروسي بزيارة وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” إلى العاصمة الجورجية “تبليسي” وذلك في زيارته لجورجيا، أوكرانيا ورومانيا، بهدف إيصال رسالة دعم ضد التهديدات الروسية.

لماذا وصلت موسكو لهذه المرحلة؟

رأت روسيا أن قرار حلف الناتو بطرد دبلوماسيها بمثابة تقويض لأي اّمال لعودة العلاقات الروسية الأوروبية واستئناف الحوار. كما رأت أن الاتهامات الموجهة للدبلوماسيين الروس لا أساس لها من الصحة، محذرة من أن هذه الخطوة ستزيد من توتر العلاقات بين الجانبين.

وحينها توعدت موسكو بالرد على هذه الخطوة التي تبناها الناتو. كما وصفت قرار الحلف بأنه يعكس حالة من “النفاق السياسي” التي ينتهجها. فروسيا ترى أن تصرفات الحلف معها لا توحي بأي نوع من الحوار المتكافئ أو العمل المشترك، وبالتالي رأت موسكو أنه لا حاجة لها بالاستمرار في التظاهر على أمل إمكانية حدوث أي تحول في المستقبل المنظور.

كما رأت روسيا أن سياسة “الناتو ” باتت أكثر عدوانية، حيث يضخم الحلف “التهديد الروسي” من أجل تعزيز وحدته الداخلية. وتتهم روسيا الناتو بتوسيع بنيته التحتية العسكرية بشكل استفزازي بالقرب من حدودها. لكن الحلف يفسر تلك التحركات بأنها تأتي في سياق تعزيز أمن الدول الأعضاء القريبة من روسيا، وذلك في أعقاب ضم موسكو لشبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014 ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا.

ردود الفعل

أثار قرار موسكو بتعليق مهام حلف الناتو في روسيا، ردود فعل متباينة، فمن جانبه أعرب حلف الناتو عن أسفه لقرار موسكو، مؤكًدا أن سياسة الناتو تجاه روسيا ستظل ثابتة، فالحلف يعمل على تعزيز دفاعاته، ردًا على أي إجراءات عدوانية قد تقوم بها روسيا، لكن في الوقت نفسه سيظل منفتحا على الحوار خاصة عبر مجلس “روسيا – الناتو”.

يذكر أن “مجلس روسيا – الناتو” تشكل عام 2002، وتبلورت أهدافه في التعاون في مجالات مثل مكافحة الإرهاب وإدارة الأزمات والسيطرة على الأسلحة والدفاع الصاروخي في مسرح العمليات، فضلاً عن التعاون بين الناتو وروسيا في أفغانستان – بما في ذلك توفير روسيا لطرق عبور لقوة المساعدة الأمنية الدولية، والتدريب على مكافحة تجارة المخدرات. ومع التدخل العسكري الروسي في جورجيا عام 2008، ونتيجة لقيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، توقفت اجتماعات “مجلس روسيا –الناتو” وتراجع التعاون في بعض المجالات.

في سياق أخر، رأت ألمانيا أن هذا القرار الذي اتخذته موسكو سيزيد من الوضع الصعب الذي تمر به العلاقات المشتركة بين روسيا ودول الحلف، وأن هذا الأمر سيزيد من الضغط على العلاقات المتوترة بين الجانبين.

وفي الوقت الذي يؤكد فيه الأوربيون على أنهم منفتحون على الحوار مع روسيا، يؤكدون أيضًا على تعزيز أدوات الرقابة والردع والدفاع للرد على أي خطوات قد تتخذها موسكو. وهو ما يُنبئ بتوتر في العلاقات بينهما في قادم الأيام.

وكان الناتو قد علق التعاون العملي مع روسيا في عام 2014 بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، لكنه أبقى القنوات مفتوحة للاجتماعات رفيعة المستوى والتعاون العسكري.

وعلى الصعيد الأمريكي، وردًا على القرار الروسي، واصلت واشنطن نهجها العدائي على الصعيد الدبلوماسي، عندما أعلنت أن سياسة “الناتو” تجاه روسيا لن تتغير، وأن الحلف سيرد على أي “عدوان” روسي، كما تواصل الولايات المتحدة الأمريكية الاتصال بالحلف، للتعليق على قرارات روسيا بإنهاء عمل بعثة الارتباط العسكري لحلف شمال الأطلسي في موسكو.

تاريخ مُمتد من الحرب الدبلوماسية

طرد دبلوماسيين روس من الناتو أو الدول الأوروبية لم يكن الأول من نوعه، فهناك تاريخ من الطرد الدبلوماسي المتبادل بين الجانبين. على سبيل المثال، في أبريل 2014 تم الكشف عن معلومات عن تفجير مستودع ذخيرة في جمهورية التشيك عام 2014، والذي أسفر عن مقتل شخصين. والتي اتهمت الحكومة التشيكية عملاء روس بالتورط في الحادث، وقامت بطرد 18 دبلوماسيًا روسيًا أشتبه في تورطهم بالحادث. الأمر الذي قامت روسيا بنفيه، وردًا على قرار التشيك بطرد الدبلوماسيين قامت روسيا بطرد 20 دبلوماسيا من العاملين في السفارة التشيكية في موسكو.

المرة الثانية كانت في 14 مارس 2018، عندما تم اتهام روسيا بمحاولة تسميم العميل الروسي المزدوج “سيرغي سكريبال” وابنته في مدينة ” ساليسبري” البريطانية. حينها أطلعت المملكة المتحدة الحلفاء على استخدام روسيا لغاز الأعصاب لتسميم “سكريبال” وابنته، الأمر الذي أثار قلق أعضاء الحلف واعتبروه بمثابة انتهاك للمعايير الدولية، وبعد مشاورات مكثفة تم طرد أكثر من 150 دبلوماسيًا روسيًا من قبل أكثر من 25 دولة، وذلك في 27 مارس 2018، كما أعلن الأمين العام لحلف الناتو حينها عن سحب اعتماد 7 من موظفي البعثة الدبلوماسية الروسية لدى الناتو، كما رفض قبول أوراق اعتماد ثلاثة اّخرين كانت مقدمة من قبل، وتم تقليص حجم البعثة الدبلوماسية الروسية لـ 20 شخصا.  في المقابل قامت روسيا بطرد 60 دبلوماسيا أمريكيا وأغلقت القنصلية الأمريكية في سان بطرسبرج.

المرة الثالثة التي شهدت طرد دبلوماسيين، كانت في فبراير 2021، عندما أصدرت “موسكو” أمرًا بطرد ثلاثة دبلوماسيين أوروبيين من روسيا، يحملون الجنسيات الألمانية والبولندية والسويدية، متهمةً إياهم بالمشاركة في الاحتجاجات الداعمة للمعارض الروسي “أليكسي نافالني”، وذلك عندما اتهمت الدول الغربية روسيا بمحاولة تسميمه.

هل من فُرصة للحوار؟

منذ مطلع العام 2021، اتخذت العلاقات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي منحى تصعيديا بسبب زيادة التكهنات إلى إمكانية انضمام أوكرانيا إلى منظومة الحلف، وهو أمر رفضته روسيا، واعتبرته “خطا أحمر” لا يمكن تجاوزه.

بينما في الأشهر الثلاثة الأخيرة، عادت الأمور للهدوء بين روسيا وحلف الناتو، بعد إعلان الطرفين إمكانية التعاون الإيجابي داخل أفغانستان لتحقيق نوعًا من الاستقرار الحامي للأمن القومي للجانبين وهو الأمر الذي لم يدم طويلاً بعد الاحداث الراهنة.

وفيما يتعلق بمخاطر قطع العلاقات بين موسكو والناتو، يبدو أن الأمر سينعكس سلبًا على الجانبين، إذ سيتضرر الاقتصاد الروسي أكثر، وربما يؤثر ذلك على خط الغاز “نورد ستريم 2” بما يؤدي لخسارة الاتحاد الأوروبي للغاز الروسي، وستكون الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيان هما المستفيدان من هذه الأزمة.

وفي الأخير، وعلى الرغم من القرار الروسي بتعليق عمل بعثتها لدى الناتو، إلا أن موسكو عاودت تأكيد وجود فرصة لاستئناف العلاقات مجددًا. عندما أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن الشرط الأساسي لتطبيع العلاقات بين موسكو والناتو يتمثل في تخلي حلف شمال الأطلسي عن النهج الهادف إلى “ردع روسيا”، فروسيا ترى أنه طالما لم يتخل الحلف عن هذا النهج، فسيبقى التعاون والحوار مع الأوربيين أمرا صعبا. كما اقترحت روسيا الاتفاق على إجراءات نزع التصعيد بما في ذلك الخفض المشترك للنشاط العسكري على طول حدود روسيا ودول الناتو. وعلى الصعيد الأخر، فإن الحلف أعلن أنه سيظل منفتح على الحوار مع روسيا، بما في ذلك من خلال مجلس روسيا الناتو، الامر الذي قد يُنبئ بحلحلة الأمور المُعقدة بين الطرفين نظرًا للمصالح المشتركة بينهما.

+ posts

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

أحمد السيد

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى