أفريقيا

“جنوب غرب إثيوبيا” مسمار إضافي في نعش “إثيوبيا الموحدة”

في أعقاب الاستفتاء الذي أجري يوم 30 سبتمبر 2021، بمشاركة حوالي 1.26 مليون إثيوبي في ست مناطق ومحلية واحدة، من أصل ٢٤ منطقة ومحلية خاصة في “إقليم الأمم الجنوبية” الذي يضم أكثر من ٥٠ عرقية مختلفة، تم تشكيل إقليم جديدة في جنوب إثيوبيا تحت مسمى إقليم “جنوب غرب اثيوبيا”، حيث صوت أغلبية سكان المنطقة لصالح تشكيل الإقليم الجديد والاستقلال عن اقليم “الأمم الجنوبية”، بنسبة تصل إلى حوالي ٩٧%. ليزداد بذلك العدد الإجمالي للأقاليم في البلاد إلى 11 إقليم: تيجراي، أمهرا، أوروميا، الجنوب، الصومال، عفر، جامبيلا، بني شنقول جومز، هراري، سيداما، وأخيرًا وليس آخرًا الجنوب الغربي.

شكل1: تقسيم الأقاليم الإثيوبية

وقد أقرت الحكومة الحالية مطلب قوميات جنوب غرب إثيوبيا بالاستفتاء على الحكم الذاتي في 30 سبتمبر 2020، أي قبل نحو عام من موعد الاستفتاء الذي كان مقررًا له أن يتم في يونيو 2021 وتم تأجيله أكثر من مرة. وكذا، يأتي استفتاء الإقليم الحادي عشر بعد عام من ميلاد الإقليم العاشر لقومية “سيداما” في الجنوب أيضًا.

وعلى عكس الأقاليم الإثيوبية الأخرى، لا توجد قومية مهيمنة في الإقليم الجديد، وإنما يضم شعوبًا من مجموعات عرقية مختلفة، في خمس مناطق إدارية هي: كافا، داورو، وغرب أومو، وبينش شكو، وشيكا، إلى جانب مقاطعة كونتا الخاصة، ما يشير إلى نية الدولة في الابتعاد عن تكوين المنطقة العرقية، والاتجاه بدلًا من ذلك إلى التقسيم بحسب الموقع الجغرافي. 

جماعات إثنية متنوعة ودستور يسمح بالتفكك

يتميز الشعب الإثيوبي بتنوعه الكبير، إذ يسكن إثيوبيا أكثر 100 مليون نسمة من 80 قومية ومجموعة عرقية وثقافية، يتحدثون نحو 100 لغة مختلفة، تمثل الأورومو أكبر جماعة عرقية بنسبة 35.3% من سكان إثيوبيا، والأمهرا 26.2%، بينما تبلغ نسبة قومية التيجراي حوالي 6%، والصومالية 6%، فضلا عن مجموعات عرقية أخرى منها سيداما 4.3٪، كوراج 2.7٪، ولايتا 2.3٪، بالإضافة إلى 17.3% قبائل أخرى، ما جعل إثيوبيا توصف بحسب الباحثين بأنها متحف للعرقيات.

https://cdn.britannica.com/78/184178-050-637B7CD7/World-Data-ethnic-composition-pie-chart-Ethiopia.jpg

شكل2: تقسيم الجماعات الإثنية في إثيوبيا

هذا التنوع الواسع جعل إثيوبيا من أصعب حالات الاندماج الوطني، شعوب مختلفة لها ثقافات مختلفة ولغات مختلفة، بل وأصول مختلفة أيضا، وبالتالي كانت عملية جمعهم في دولة واحدة تحت إدارة موحدة مهمه شاقة للغاية. ومر نظام الحكم في إثيوبيا بالعديد من المراحل بين الممالك، والإمبراطورية، وحكم الدرج، وصولًا إلى الشكل الحالي.

فبعد فترة وجيزة من توليها السلطة في أوائل التسعينيات، قسمت حكومة “ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية” إثيوبيا إلى تسعة أقاليم إدارية شبه مستقلة منظمة على أسس عرقية، هى: أوروميا، أمهرة، تيجراي، عفر، هراري، الإقليم الجنوبي، بني شنقول جومز، جامبيلا، والإقليم الصومالي. ولكل من الأقاليم التسعة حكومتها الخاصة وعلمها الخاص، بالاضافة الى إدارتين مستقلتين هما: مدينة أديس ابابا (العاصمة) ومدينة ديرداوا، بينما كفل دستور عام 1995 تنظيم استفتاء لأي مجموعة عرقية تريد تشكيل منطقة جديدة، لكن الحكومة القديمة، برئاسة جبهة تحرير شعب تيجراي، ألغت مثل هذه الجهود ولم تقبل بتنظيم أي استفتاء للحكم الذاتي خارج إطار المناطق التسع آنذاك.

وبعد تولى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد منصبه في عام 2018، بعث حياة جديدة في مساعي الحكم الذاتي في إقليم الأمم والقوميات والشعوب الجنوبية (SNNP)، وطالبت أكثر من 10 مجموعات عرقية إجراء انتخابات للانفصال عن SNNP، لكن هذه الآمال قابلتها استراتيجية جديدة يتبناها “آبي أحمد” تقضي بوجود (إثيوبيا موحدة)، وتبعد مسافات عن الفيدرالية العرقية التي تحلم بها قبائل الأمم الجنوبية، ما أدى إلى اندلاع الاحتجاجات وسفك الدماء في العديد من المناطق ب SNNP. 

وبالرغم من ذلك، نجحت “سيداما” في عام 2019 في الحصول على الموافقة لإجراء استفتاء للحكم الذاتي، وأصبحت الإقليم العاشر في إثيوبيا وأول منطقة تختبر فيدرالية الدستور الإثيوبي، ومن بعدها جاء إقليم “جنوب غرب إثيوبيا” الذي تم تأجيل الاستفتاء عليه أكثر من مرة، نتيجة الحرب الدائرة في الشمال الإثيوبي، حتى نهاية شهر سبتمبر 2021. هذا إلى جانب 10 مناطق أخرى نادت بالحكم الذاتي خلال السنوات الثلاثة الماضية هي؛ ولايتا، ودورا، وكوراج، وجوفا، وجيديو، وجامو، وكامباتا-تامبارو، وبنش-ماجي، وهدية، وجنوب أومو.

 شكل3: قائمة المناطق التي تطالب بإقامة إقليم مستقل

علاوة على ذلك، يكفل دستور إثيوبيا لكل الجماعات والقوميات حق التصويت على إقامة إقليم جديد ضمن النظام الفيدرالي، إذا طالبت الجماعات بذلك، ويضمن لها حقوقًا كتحصيل بعض الضرائب، واختيار اللغة الرسمية للإقليم، وإدارة قوات أمن خاصة، وسن قوانين بشأن قضايا مثل التعليم وإدارة الأراضي، والمشاركة بشكل هادف والتمثيل العادل في مختلف مستويات الحكومة. ولكن الحكومة الفيدرالية في إثيوبيا ليست مستعدة لاستيعاب الحقائق المعقدة التي فرضتها الإثنية الفيدرالية في الممارسة، خاصة في ظل إيمان “آبي احمد” بفكرة الدولة المركزية والوحدة والانصهار في بوتقة واحدة تضم كل قبائل إثيوبيا، فسعت لمنع هذه الطلبات وقمعها بالعنف، ما ولد مزيدًا من المقاومة، ومزيدًا من السخط على الحكومة الإثيوبية.

لمذا تسعى القوميات الإثيوبية للحكم الذاتي أو الانفصال؟

في السابق فُهمت هذه المطالبات بالحكم الذاتي من القوميات المختلفة على أنها محاولة للإدارة الذاتية العرقية فقط، وهو تبسيط مبالغ فيه للمشكلة؛ إذ إن الاعتراف بإقليم جديد ذي إدارة مستقلة له آثار عملية أكثر من مجرد الاعتراف العرقي؛ من بينها “الاستقلالية في التنمية الاقتصادية”. ويبدو أن هذا الأثر هو الأكثر أهمية؛ نظرا لافتقار هذه المناطق للاستثمار العادل في البنية التحتية الأساسية، وسوء الإدارة من قبل الحكومات الفيدرالية والإقليمية والمحلية، فضلًا عن التمثيل غير الكافي على المستويين الإقليمي والفيدرالي، وضعف المخصصات المالية، وبعد المسافات بين المركز والأطراف.

بالإضافة إلى ذلك، تُعد إثيوبيا من أقدم الدول المستقلة فى قارة أفريقيا؛ إذ لم تخضع للاستعمار سوى لفترة قصيرة جدا من 1936 وحتى 1941 عندما اجتاحتها القوات الإيطالية في حملتها على شرق إفريقيا قبل خروجها من المنطقة بعد توقيع الاتفاق الأنجلو-إثيوبي في ديسمبر 1944.

لكن قبل هذه الفترة بسنوات لم تكن اثيوبيا بحدودها كما هي عليه الآن، حيث توسع الإمبراطور الإثيوبي “منليك الثاني” الذي حكم إثيوبيا في الفترة من (1889-1913) ليضم إلى دولته مساحات شاسعة لم تكن أجزاء من إثيوبيا من قبل، بدعم من بريطانيا وفرنسا، تبعه في هذا التوسع الإمبراطور “هيلاسلاسي” حتى وصلت إثيوبيا إلى أقصى توسع لها في عام 1962، وهو ما قد يفسر جزئيا –إلى جانب الإدارة السيئة للحكومة الإثيوبية لهذه المناطق- لماذا تنادي العديد من القوميات والمناطق بالإدارة الذاتية، ولماذا تنشأ في إثيوبيا حركات تحرير عديدة تنادي بالانفصال. ومع ذلك، فلن يكون الحكم الذاتي هو الحل السحري للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العميقة التي تعاني منها القوميات والمناطق الإثيوبية.

الجنوب الغربي يستقل دون غيره من المناطق في SNNP

يعود تاريخ المطالبة بمولد إقليم “جنوب غرب إثيوبيا” في منطقة “الأمم الجنوبية” إلى عهد حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق ملس زيناوي، وتحتل منطقة الأمم الجنوبية (SNNP) ، التي تم إنشاؤها من خلال دمج  خمس مقاطعات بعد انتخابات المجالس الإقليمية في عام 1992، أهمية خاصة؛ كونها منطقة تضم أكثر من 50 عرقية مختلفة، وما يقرب من خمس سكان إثيوبيا، مع حوالي 10% من مساحة البلاد، لكنها عانت لسنوات طويلة كغيرها من المناطق الإثيوبية من صراعات داخلية ومطالبات متعددة بالحكم الذاتي تم قمعها بالعنف لعقدين من الزمن، بالرغم من كونها مطالبات دستورية.

ومع تعدد المطالبات من العرقيات المختلفة في (SNNP) بتكوين منطقتهم الخاصة، بحسب ما يكفله لهم الدستور من جهة، وتشبث “آبي أحمد” بفكرة الدولة الموحدة من جهة أخرى، تعالت بعض الأصوات لطرح حل وسط يقضي بإعادة تنظيم SNNP في أربع مناطق، بما في ذلك منطقة سيداما المنفصلة حديثا، بالإضافة إلى منطقة خاصة واحدة. وظهر هذا الخيار بعد تأسيس حزب الازدهار في ديسمبر 2019 وتم الترويج له بشكل أساسي من قبل سفراء السلام الوطني ومن خلال مكتب رئيس الوزراء آبي أحمد، بهدف إنشاء مناطق متعددة الثقافات، حتى لو لم تكن هناك مجموعة مهيمنة، مما قد يحد من الصراعات في المنطقة، ويقلل احتمالية المطالبة بمناطق مستقلة فيما بعد، على الأقل لفترة من الوقت.

كان من بين الأقاليم الأربعة المقترحة إقليم “جنوب غرب إثيوبيا” والذي يضم كلًا من: (كافا، شيكا، بنش شيكو، دورو، غرب أومو، كونتا)، ويبدو أنها المنطقة الوحيدة حتى الآن التي قبلت بهذا الدمج بين القبائل المختلفة في إقليم واحد، وهو ما يفسر لماذا قبلت الحكومة إجراء استفتاء لمنطقة “جنوب غرب إثيوبيا” دون غيرها من المناطق التي تنادي بأقاليم مستقلة.

تراجع “إثيوبيا الموحدة” لصالح “الفيدرالية العرقية”

تمر إثيوبيا بمرحلة جديدة في نظامها الفيدرالي، فمع تشكيل الجنوب الغربي كمنطقة ذات حكم ذاتي، بعد الاعتراف بـ “سيداما” كمنطقة إثيوبية عاشرة عام 2019، يتضح أن النظام الفيدرالي العرقي يمضي قدمًا، وهو ما يشكل تحديًا جديدًا للنظام الدستوري الإثيوبي.

ويؤكد أيضًا على أن استراتيجية “الدولة المركزية الموحدة” التي ينادي بها رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” قد هُزمت للمرة الثانية لصالح “الفيدرالية العرقية”، بعد استقلال منطقة “سيداما”، ومنطقة “جنوبية غرب إثيوبيا”، مع احتمال وقوع مزيد من التشرذم في مراحل لاحقة في دولة تحتوي على أكثر من 80 عرقية مختلفة، ويسمح دستورها لكل عرقية بتكوين منطقتها المستقلة، وصولا لحق تقرير المصير والانفصال، وهو الهاجس الذي يخشاه آبي أحمد، ويحاول قمعه في حربه الحالية مع التيجراي في شمال إثيوبيا حتى لا تتكرر حالة “إريتريا” وتصل تيجراي إلى الإنفصال الذي سينتهي إلى تشرذم إثيوبيا إلى دويلات صغيرة، ووأد حلم “إثيوبيا الموحدة” في مهده. 

وبالرغم من ذلك، فمن غير المرجح أن تنتهج العرقيات الأخرى التي تنادي بالحكم الذاتي سلوكًا مشابهًا لما فعلته تيجراي؛ إذ إن انعدام الأمن المتأصل الذي تشعر به الأقليات العرقية في الجنوب يولد لدى الكثير منهم اعتقاد أنه في حالة عدم وجود حكومة مركزية قوية فإنهم سوف يقعون فريسة لانتهاك أي من القوى العرقية القومية المهيمنة في أحيائهم، وهو الشعور الذي حاول “آبي أحمد” وحزبه ترسيخه لديهم، وقد تم تنفيذ ذلك على حساب نشر الرهاب العرقي الصارخ والانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان التي تقترب من الإبادة الجماعية.

بشكل عام، لم تنجح استراتيجية أبي أحمد “إثيوبيا موحدة” سوى في تعميق الانقسامات التي تغلغلت في أعماق السكان الإثيوبيين، وشعور العرقيات المهمشة بالإحباط من الحكومة الجديدة، ما أدى إلى مزيد من السخط عليها، وزاد من إصرارهم على مطالبهم بالحكم الذاتي، ما ينذر باتجاه إثيوبيا نحو مزيد من التفكك الداخلي، ولكن تحت مظلة الدولة الإثيوبية. ففي ظل محاولة آبي أحمد كبح الطموحات الانفصالية للعرقيات المختلفة، والقبول بشكل جديد من الحكم الذاتي ينطوي على تجميع عدد من القوميات في منطقة جغرافية معينة تحت إدارة واحدة عوضًا عن استقلال كل قومية بإدارة ذاتية، يبدو أن المرحلة القادمة ستشهد مولد حالات مماثلة لإقليم “جنوب غرب إثيوبيا” كحل مؤقت للعرقيات المتضررة، التي قد تتجه بعد ذلك إلى مزيد من التشرذم والصراعات الداخلية على السلطة والموارد في غياب الأساس الموحد لضمهم.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

هايدي الشافعي

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى