أفريقيا

“النموذج الإثيوبي على المحك”.. من قيادة التنمية إلى “مكافحة الجوع”

انقلبت طموحات إثيوبيا وتراجعت مكانتها الإقليمية والدولية؛ على نحو باتت فيه مصدرا لعدم الاستقرار الإقليمي، بعد أن كانت واحدة من أسرع الاقتصادات الإفريقية نموًا، على مدار العقد الماضي، كما كانت تسعى إلى قيادة دبلوماسية قارية وإقليمية؛ تجعل منها واحدة من الدول الكبرى الصاعدة إفريقيا، كثاني أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان.

فقد ساهم النمو الاقتصادي، وجاذبية الفيدرالية العرقية، آنذاك بقيادة الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية- التي رسخت اعتقادا بنجاح النموذج الإثيوبي في التعايش السلمي والاندماج الوطني؛ في تعاظم تلك الطموحات من جهة، وكذلك تعويل الأطراف الدولية على إثيوبيا، باعتبارها حليفًا إقليميًا في مكافحة الإرهاب، وكذلك الوجهة الاستثمارية الواعدة.

لكن؛ انقلبت كل تلك الطموحات، وتراجعت مكانة أديس أبابا على المستويين الإقليمي والدولي على نحو جعلها عرضة للعقوبات الدولية، لما يفعله حكامها في شعبها من أعمال وحشية؛ أدت إلى إجهاض طموحاتهم التنموية، وأضحوا عالقين على الحدود للفرار من العنف، أو سجناء داخل بلادهم، يتضورون جوعًا؛ في انتظار المساعدات الغذائية.

النموذج الإثيوبي

استطاعت إثيوبيا على مدار ثلاثة عقود، تخطي العديد من أزماتها، بما فيها الصراعات والحرب، لتصبح واحدة من أسرع الاقتصادات الإفريقية نموًا، لتخرج بذلك من عباءة الصورة النمطية للمجاعات والصراعات والفقر. وخلال العقدين الماضيين، سجلت البلاد إحدى أسرع نسب النمو في العالم وليس فقط في أفريقيا، إذ سجلت في 2004 نموا نسبته 13.57%، بينما لم تقل عن نسبة 6% منذ عام 2003.

وفي 2019، سجلت البلاد نسبة نمو اقتصادي 8.3% صعودا من 6.8% في العام السابق له، مع تسارع الاستثمارات الخارجية على البلاد، وفق بيانات رسمية للحكومة الإثيوبية، بلغ نمو الاستثمار الأجنبي المباشر 30.1% في العام المالي 2019/2018. واعتبر ذلك نجاحًا منقطع النظر، في تلك الدولة التي كانت تسعى لبناء قوة إقليمية في منطقة القرن الإفريقي والقارة بأكملها.

(نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي الإثيوبي منذ 2003)

لكن هذا النمو الاقتصادي، والتطور السياسي، لم يسهما في تحقيق استقرار سياسي في البلاد، إضافة إلى أن نموذج الفيدرالية الإثيوبية لم يسهم في تحقيق التعايش السلمي بين الأقليات والعرقيات المختلفة.

فمع وصول أبي أحمد للحكم، كانت هناك تحديات بالفعل، لكنه ساهم في بروزها للسطح وتعميقها. فرغم النمو الاقتصادي الذي حققته إثيوبيا، إلا أن شعوبها تعاني من الفقر والهشاشة وانعدام المساواة والتنمية. كما أن نموذج الفيدرالية الإثنية الإثيوبي، لم يسهم في معالجة التناقضات العرقية، فاستمرت الصراعات العرقية إلى حد التطهير العرقي، مع تصاعد النزعات الانفصالية لأقاليم ومناطق مختلفة.

وساهم نموذج أبي أحمد للإصلاح الديمقراطي في مزيد من الهشاشة للمجتمع الهشّ بالفعل؛ فتصاعدت النزعات الانفصالية والنزاعات العرقية. وبلغ الأمر ذروته مع المواجهة المفتوحة لنظام “أبي” مع الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي، كأعلى صور المواجهة بينهما، منذ بدء سياسته الاقصائية فور وصوله للحكم، بدعوى الإصلاح.

(توقعات النمو للاقتصاد الإثيوبي)

وقبل وباء كورونا، بلغ النمو الاقتصادي الإثيوبي 10% سنويًا، بما جعلها واحدة من أسرع الاقتصادات الإفريقية نموًا، وفقًا للبنك الدولي، لكنه وصل إلى 2% في السنة المالية الماضية 2020/2021. ورغم توقعات صندوق النقد الدولي أن ينتعش اقتصاد البلاد ليسجل 8.7% في 2021/2022، إلا أنه لا توجد مؤشرات تؤكد تلك التوقعات حتى الآن.

تداعي النموذج

في ثمانينيات القرن الماضي، تسببت استراتيجية نظام “منجستو” لمكافحة التمرد ضدّ جبهة تحرير شعب “تيجراي”، في مجاعة مدمرة في منطقتي “التيجراي” و “الأمهرة”، خلفت أكثر من 1.2 مليون قتيل، وتسببت في أزمة لجوء ونزوح أكثر من مليوني شخص داخليًا. وبعد نحو أربعة عقود، يعيد “أبي” أحمد نفس المأساة في كفاحه لجبهة تحرير التيجراي.

وعلى الرغم من أن دوافع الصراعات الحالية، كانت موجودة وكامنة، قبل صعود “أبي”، إلا أن الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية بقيادة “تيجراي” استطاعت تحجيمها، باستخدام الأدوات القمعية.

وتؤدي اليوم “منهاجية أبي” إلى اندلاع الصراع وتفاقمه في البلاد، فيما أدت الصراعات التي تقودها البلاد الآن، ونزح ما يقدر بنحو 1.7 مليون شخص، ويواجه 5.5 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي.

ومع استعادة قوات الدفاع الشعبي سيطرتها على بعض المناطق المفقودة، والسيطرة على مناطق استراتيجية في إقليمي “الأمهرة” و”العفر”؛ لم يعد هناك مؤشرات على انتهاء الصراع في الأمد المنظور؛ خاصة مع عدم التزام الحكومة بقرار وقف إطلاق النار من طرف واحد في أواخر يونيو الماضي، بعدما عادت لتدعو كافة أطياف المجتمع للمشاركة في الحرب على التيجراي، وكذلك عدم التزامها بانسحاب القوات الإريترية، أحد شروط الجبهة للحوار.

ورغم جهود المجتمع الدولي لوقف الأزمة الإنسانية والغذائية في الإقليم إلا أنه فشل في ذلك؛ فقد أصدر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بيانًا مشتركًا في يونيو الماضي، وفي يوليو اجتمع مجلس الأمن لمناقشة الوضع المتردي بشكل متزايد والحاجة إلى تسوية سياسية، إلا أنه فشل في إصدار قرار.

وبسبب الصراع بين الحكومة الفيدرالية وجبهة التيجراي، تراجعت المكاسب المحدودة التي حققتها البلاد على مدار السنين الماضية، وأصبحت إثيوبيا في 2020، واحدة من أكثر الدول تدهورًا. فوفقًا لمؤشر الهشاشة؛ تحسنت إثيوبيا على المؤشر في الفترة بين عامي 2017 و2019، لكنها عادت أكثر سوءًا في عام 2020.

فعلى الرغم من بعض الإصلاحات الظاهرة التي قام بها “أبي” في بداية حكمه؛ إلا أنه مع دخول البلاد في موجات جفاف وتصاعد النزاع العرقي في البلاد، تراجعت على المؤشر مرة أخرى، لتصبح واحدة من بين أعلى عشر دول متراجعة في مؤشر الهشاشة لعام 2021.  

ووفقًا لتقرير صادر عن هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي) “ bbc” مؤخرًا؛ فإن الاقتصاد الإثيوبي تأثر بشكل ملحوظ جرّاء الصراع الدائر في تيجراي؛ فوفقًا لاستطلاعات الرأي وتقصي الحقائق الذي رصده التقرير، فإن الإثيوبيين يعانون من ارتفاع النفقات الشهرية وارتفاع نفقات الاستهلاك، التي تضاعفت خلال الأشهر الأخيرة، مع تكبد الاقتصاد خسائر.

ووفقا لأقوال، مواطنة إثيوبية، فإنها كانت تنفق قبل الصراع في تيجراي 1000 “بر” إثيوبي شهريا للحصول على البضائع من السوبر ماركت، واليوم عليها إنفاق 2000 “بر” إثيوبيا. ووفقًا لمواطن آخر، قال إنه يحصل على الدولار اليوم مقابل 45 “برا” إثيوبيا، لكن قبل ذلك كان مقابل 35 “برا” فقط؛ مما يعني انخفاض قيمة العملة.

ويشير المحللون إلى أن الإنفاق على الحرب تسبب في انخفاض سعر الصرف. ووفقًا للأمين العام للأمم المتحدة، فإن الصراع تسبب في إنفاق مليار دولار من خزينة البلاد. ووفقًا لسعر الصرف الرسمي في البنوك، فإنه وصل 67 “برًا” مقابل الدولار.

وعلى الجانب الآخر، يتخوف رجال الأعمال من الاستثمار في البلاد، مع ارتفاع مؤشر المخاطر، إضافة إلى ارتفاع معدل التضخم وركود السوق، مع انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، وبالتالي لم تعد السوق الإثيوبية سوقًا جاذبة للاستثمار.

وبجانب ارتفاع نفقات المعيشة، فإن السكان معرضون للجوع والإغلاق، مع صعوبة وصول المساعدات، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وقطع الاتصالات. ويعيش حوالي ربع السكان تحت خط الفقر الوطني، ويبلغ متوسط الدخل السنوي 850 دولارًا فقط للفرد.

ووفقًا لتوقعات صندوق النقد الدولي، فإن الاقتصاد الإثيوبي، متوقع أن يتراجع من 6% لعام 2020 إلى 2% فقط لعام 2021. كذلك تستورد البلاد حوالي 14 مليار دولار من البضائع سنويًا، بينما تصدر 3.4 مليار دولار فقط، بما يعني اختلال ميزان المدفوعات والميزان التجاري، وبالتالي ارتفاع مستوى الدين العام للبلاد.

ومن المتوقع أن يصل الدين العام إلى حوالي 60 مليار دولار، أو ما يقرب من 70% من الناتج المحلي الإجمالي. إضافة إلى ارتفاع الإنفاق العسكري الإثيوبي، المتوقع له أن يزيد من 460 مليون دولار عام 2020 إلى 502 ملايين دولار.

 ووفقًا للتطورات الميدانية، من غير المتوقع انتهاء الصراع قريبًا، مع رفض الحكومة الإثيوبية “التدخل” الدولي واتهام الجماعات الإنسانية بتسليح أو دعم قوات تيجراي، في الوقت الذي تحث فيه الحكومة الإثيوبية المواطنين على الانضمام للقوات المسلحة لمواجهة قوات تحرير “التيجراي”، بما يؤشر على إطالة أمد الصراع.

ويفاقم هذا الوضع من حجم المعاناة الإنسانية التي يعيشها الإثيوبيون، فوفقًا لآخر إحصائيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، هناك بالإضافة إلى 2.1 مليون نازح من تيجراي ، حوالي 250.000 شخص في منطقة أمهرة و 112.000 في منطقة عفار نزحوا داخليًا؛ مع تمدد النزاع لمناطق عفر وأمهرة. هذا بالإضافة إلى تعرض مخيمات الإريتريين الثلاثة ( ماي عيني وأدي هاروش في منطقة تيغراي وبرهالي في منطقة عفار) إلى الخطر، علاوة على استمرار تقييد وصول المساعدات.

(خريطة توضح أماكن تواجد المفوضية في تيجراي)

وحتى الآن، لا تلوّح في الأفق نهاية قريبة لهذا الصراع، مع عدم تحقيق أي من الطرفين انتصارًا يدفع الآخر للقبول بشروط التفاوض. وحتى الآن لم تسهم العقوبات أو المساعدات في ترجيح ميزان القوى لطرف على الآخر، ولم يتعثر الطرفان كذلك إلى الحد الذي يضطران للجلوس للتفاوض، ومن ثم فإن إطالة أمد الصراع تنذر بمزيد من الأسى في ذلك البلد الذي يتجرّع ويلات الحرب.

ولم تؤدٍ أي من جهود أو مبادرات الوساطة الدولية أو الإقليمية، سوى في إطالة أمد الصراع. وحتى الآن لا يوجد ما يطفئ هذا الصراع في المستقبل القريب. وكلما طال الصراع، كلما ترك ذاكرة وحشية قاسية، تجعل هناك صعوبة في عملية صنع السلام. ولطالما زادت المعاناة مع طول أمد الصراع، فإن الذاكرة الجمعية لا يمكنها تجاوز المأساة دون إنفاذ العدالة أو التسامح مع الماضي. فعلى الرغم من أن الصراع عمره عام واحد، إلا أن ما ارتكب خلاله من فظائع وحشية وقتل واغتصاب وتدمير وتسليح للغذاء، تسبب في مآسي لا يمكن تخطيها بسهولة.

وحول الكيفية التي يمكن بها انتهاء الصراع؛ يستدعي البعض العديد من نماذج الصراعات الإفريقية كنموذج حول كيفية انتهاء الصراعات في إفريقيا. ففي نيجيريا، لم تنته الحرب الأهلية التي خلّفت ورائها مليون قتيل، إلا عند استسلام بيافرا.

ولم تنته الحرب الأهلية – التي استمرت 15 عامًا- في موزمبيق، إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وفي أنجولا، استمرت الحرب 27 عامًا، ولم تتوقف سوى باغتيال بطل الرواية الرئيسي جوناس سافيمبي. واستمرت أطول حرب أهلية في إفريقيا، في السودان، نحو 60 عامًا، منذ الاستقلال عام 1955، حتى انفصال جنوب السودان.

على هذا، هل يجب أن تستسلم التيجراي، أو تنفصل عن الدولة الأم لتشكيل دولة التيجراي الكبرى، أم يتم إزاحة أبي أحمد من الحكم، أم ما هي الأحداث الدرامية، التي يمكن أن تضع نهاية لتلك الأحداث المأساوية، حتى يتوقف نزيف الدم، مع عدم اقتناع قادة الحرب بالسير في طريق السلام.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى