أفريقيا

توافق غائب.. التعقيدات الدبلوماسية في الأزمة الحدودية السودانية-الإثيوبية

في ظل استمرار الاشتباكات الميدانية بين السودان وإثيوبيا ، يسعى كلا الطرفين لتحقيق تقدم ميداني وتثبيت وضع ميداني يضمن فرض واقع جديد ينطلق من خلاله في المفاوضات المتعثرة، لا تزال الأزمة تلقي بظلالها على الحدود المتداخلة بين الطرفين فيما  لا تزال الاشتباكات العسكرية الحدودية مستمرة بينهما، بعد أن أعلنت مصادر عسكرية سودانية  توغل قوات إثيوبية داخل الحدود عند ولايتي القضارف وسنار، في منطقة محمية الدندر الطبيعية ومحلية باسندة، بغرض التلاعب بالعلامات الحدودية بين الجانبين وإخفائها، مما دفع قوة مشتركة من الجيش والاحتياطي بالفرقتين الثانية والسابعة عشرة للدخول في معركة مع نحو 200 مقاتل إثيوبي لنحو 4 ساعات، راح ضحية تلك الاشتباكات شهيد من قوة الاحتياط والعديد من القتلى، حسبما ذكرت المصادر، نهاية شهر مارس الماضي.

غياب التوافق المشترك

يخيم عدم التوافق الدبلوماسي على المشهد المتفاقم، مع استمرار حالة التأهب على الحدود، على الرغم مما أعلنه الجانب السوداني من استرداده لكامل أراضيه في 31 ديسمبر الماضي؛ على نحوٍ يحدّ من فاعلية أية جهود دبلوماسية مبذولة، ويدفع بأزمة تلوّح في الأفق، بحاجة إلى حشد كافة الجهود الإقليمية والدولية لكبحها، لما لها من تداعيات وخيمة على أمن واستقرار المنطقة ككل.  

وتعكس التصريحات الرسمية لمسؤولي البلدين أنه لم يتم التوصل بعد إلى نقطة إلتقاء مشترك تنطلق منها المفاوضات الحدودية المتعثرة. فعلى الرغم من تأكيد الطرفين عدم الرغبة في دخول حرب مع الطرف الآخر، إلا أن التصريحات لا تخلو من الاتهامات والتصعيد المتبادل بينهما.

 ففي يناير الماضي، أعرب المتحدث بإسم الخارجية الإثيوبية ” دينا مفتي” عن نفاد صبر إثيوبيا على استمرار الحشد السوداني على الحدود، وعاد في فبراير الماضي، ليكيل الاتهامات للجانب السوداني، الذي اتهمه باستغلال الأوضاع الداخلية في إثيوبيا ليشعل التوتر على الحدود والقيام بنهب وتهجير المواطنين بالقوة بدفع من طرف ثالث. واشترط مفتي لبدء الحوار مع السودان ضرورة إخلاء المنطقة من الجيش مع العودة إلى الوضع التي كانت عليه الحدود قبل نوفمبر 2020.

وفي آخر تصريحات لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، في كلمة ألقاها أمام البرلمان الإثيوبي، أكد عدم الرغبة في دخول حرب مع السودان وأن البلدين لا يمكن أن يكونا عدوين لبعضهما البعض. غير أن هذه التصريحات لا تنفي احتمالية الانجرار إلى تلك المواجهة المفتوحة، مع استمرار انفتاح الوضع الميداني على كافة السيناريوهات. 

وعلى الجانب الآخر، عكست تصريحات للخارجية السودانية التداعيات الخطيرة، التي يحملها التعدي الإثيوبي على الحدود، على أمن المنطقة. وأصر الموقف السوداني على عدم الدخول في مفاوضات، قبل أن تنسحب القوات الإثيوبية تمامًا من الأراضي السودانية. 

وردًا على الاتهامات الإثيوبية، أكدت التصريحات السودانية أن قرار استعادة الأراضي الحدودية هو قرار للدولة وليس للمكون العسكري، وما هذه الإدعاءات سوى محاولة إثيوبية للهروب من أزماتها الداخلية، وزرع الشقاق بين المكونين العسكري والمدني، وافتعال أزمة على الحدود. 

وقد طال السودان المجتمع الدولي بإدانه ما تسببت فيه إثيوبيا من خسائر في الممتلكات والأرواح على الحدود، ذلك بعدما تعثرعمل لجنة الحدود المشتركة. وفتحت هذه الحرب الدبلوماسية والتطورات الميدانية الباب للتدخلات الإقليمية والدولية للعب دور في الوساطة بين الطرفين؛ في محاولة لكبح أية تداعيات وخيمة تهدد السلم والأمن الإقليمي والدولي على السواء. 

ولم تحظَ هذه الأزمة الموروثة باهتمام الأنظمة السودانية المتعاقبة، خاصة نظام البشير، المتهم بتهاونه في التعامل مع قضايا الأمن القومي، لاعتبارات تعود إلى العقيدة الإخوانية، التي تؤمن بأن الوطن حفنة من التراب؛ فساهم هذا الموقف في اتفاقه مع إثيوبيا، عام 1995، بإخلاء المنطقة الحدودية من القوات النظامية، بما ترك الحدود عرضة لتعديات الإثيوبية سنويًا، إلى أن اتخذ رئيس المجلس السيادي، الفريق ركن عبد الفتاح البرهان، قرارًا يقضي بعودة القوات المسلحة إلى المنطقة في مارس من العام الماضي، في أعقاب التعديات الإثيوبية الأخيرة، في مطلع العام الماضي. 

وقد أجرى البلدان محادثات مستمرة على مرّ العقود، دون التوصل إلى اتفاق حاسم. ولعل استمرار المناوشات الميدانية بالتوازي مع أية مباحثات دبلوماسية، يكشف عن ضعف الإرادة السياسية لحسم الأمر. وكانت آخر تلك الشواهد، حينما تجددت الاشتباكات بعد يومين من زيارة أجراها رئيس الوزراء السوداني لأديس أبابا، في ديسمبر من العام الماضي، اتفقا خلالها على استئناف عمل لجنة الحدود المشتركة بين البلدين، التي كان من المفترض أن تنتهي من وضع العلامات الحدودية بين البلدين في مارس المنصرم. 

وقد أكدّ تصريح سابق، للبرهان، أنه لا نية للعودة إلى المفاوضات قبل إعادة ترسيم الحدود. غير أن العقبة الأساسية في هذا الأمر، تنطلق من التناقض في مواقف الطرفين، بما جعل التوافق غائبًا بينهما؛ فلم تعد هناك أرضية مشتركة تنطلق من خلالها المفاوضات في الوقت الراهن. 

ويرتبط ذلك بالخلاف على الاعتراف بالاتفاقيات التاريخية؛ فبينما اتهم رئيس مجلس السيادة السوداني إثيوبيا بنقضها للاتفاقيات والعهود مع بلاده، تشكو إثيوبيا من تحامل تلك الاتفاقيات على حقوقها، خاصة تلك الاتفاقية التي أقرها الإمبراطور مينيلك الثاني مع بريطانيا عام 1902، والاتفاقية التي تمّ توقيعها عام 1972، وتوالت من بعدها المباحثات والمشاورات بشأن ترسيم الحدود بينهما؛ خاصة بعد استقلال السودان، وشروع ميليشيات الشفتة الأمهرية في التعدي على الأراضي الحدودية الواقعة بين البلدين. 

غير أن كافة المحاولات السابقة لم تسفر في تسوية الأوضاع بين البلدين، مع تهاون نظام البشير على مدار ثلاثة عقود في التوصل إلى حلّ حاسم، نظرًا لطبيعة علاقته بالنظام السياسي الحاكم في أديس أبابا آنذاك. وعقب سقوط البشير نظام البشير، تبدلت الأوضاع والمواقف السودانية حيال ذلك الأمر، خاصة مع إصرار القائمين على إدارة المرحلة الانتقالية على اكتساب أو الحفاظ على الشرعية من خلال تلبية مطالب مواطنيها بالحفاظ على الحدود والأمن القومي للبلاد، ومن ثمّ أصبح الموقف السوداني الآن غير قابل للمساومة أو التسويف. 

وعلى الجانب الآخر، يقع أبي أحمد في نفس المأزق، بما يحد من فرصه التفاوضية في تسوية الأمر والاستجابة للمطالب السودانية، حتى لا يخسر تأييد حلفائه من الأمهرا، أصحاب المصلحة في الأراضي السودانية الآن.

وبذلك، بات الطرفان تحت وطأة الضغوط السياسية الداخلية واحتمالات الانزلاق إلى حرب، ستتحول إلى حرب إقليمية. دفع هذا المشهد المعقد بمبادرات للوساطة الإقليمية والدولية، في محاولة لمنع تصعيد الأمر بين الطرفين 

إمكانية الحلول الدبلوماسية

بعدما تعثرت المفاوضات الثنائية بين الطرفين، تقدم السودان بشكوى لمنظمة الإيجاد؛ غير أن قدرة المنظمة على احتواء المشهد ضعيفة، رغم رئاسة السودان الدورية للمنظمة حاليًا، نظرًا لغياب الإدارة والتوافق في إطار المنظمة.

والأمر نفسه بالنسبة للاتحاد الإفريقي، الذي أرسل مبعوثه محمد الحسن ولد لبات، إلى البلدين في فبراير الماضي، لبحث تطورات الأوضاع الحدودية بين البلدين، دون أن تسفر عن أي تقدم ملموس. ويزيد من تعقيدات الوساطة الإفريقية، تعنت الموقف الإثيوبي تجاه القرارات السابقة لمنظمات الوحدة الإفريقية، والتي تقضي بالاعتراف بالحدود الموروثة عن الاستعمار.

فتح هذا التعقيد أمام المبادرات الإقليمية والدولية للوساطة، استشعارًا للخطر الذي لوّح في الأفق في منطقة القرن الإفريقي. ففي يناير الماضي، أجرى نائب القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا ” أفريكوم” ” أندور يانغ” لقاءًا مع رئيس مجلس السيادة السوداني، لبحث تطورات الموقف. كما أرسل الرئيس الأمريكي السيناتور الديمقراطي “كريس كونز” إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا للقاء رئيس الوزراء آبي أحمد ومسؤولين في الاتحاد الأفريقي، لبحث أزمة إقليم تغراي وقضية الحدود مع السودان.

وخلال الفترة من السابع حتى التاسع من فبراير الماضي؛ أجرى مبعوث الاتحاد الأوروبي ووزير الخارجية الفنلندي ” بيكا هافيستو” محادثات مكثفة في الخرطوم وأديس أبابا في محاولة لنزع فتيل التوتر بين الطرفين، استنادًا لمكانة الاتحاد الأوروبي لدى البلدين، باعتبارها شريكًا تنمويًا أساسيًا في تلك المرحلة الحرجة التي يمر بها البلدان. غير أنه أثناء تلك المحادثات، طالب وزير خارجية إثيوبيا من المبعوث الأوروبي ضرورة ممارسة المجتمع الدولي الضغط على السودان، لسحب قواته من المنطقة الحدودية المتنازع عليها بين البلدين. وقد سبقها محاولة أجراها وزير الخارجية البريطاني ” دومينيك راب” حينما زار البلدين في يناير الماضي، بينما يرى البعض أن هذه المهمة معقدة، مع رؤية إثيوبيا أن بريطانيا تاريخيًا تحاملت عليهم.

وعلى الجانب الآخر، كانت هناك مبادرات إقليمية من الشركاء الإقليميين أصحاب المصلحة، فقد عرض رئيس دولة جنوب السودان ” سلفاكير ميارديت” الوساطة في المفاوضات، غير أن شروط الطرفين لبدء التفاوض أحالت دون حدوث تقدم في ذلك المسار.  

وفي السابع والعشرين من يناير الماضي، أجرى وفد سوداني برئاسة عضو مجلس السيادة الانتقالي، محمد الفكي سليمان، زيارة إلى المملكة العربية السعودية، لبحث الأزمة مع إثيوبيا. ومع فشل كافة المبادرات الإقليمية، بما فيها تركيا وإريتريا، نالت الوساطة الإماراتية التي أعلنت عنها في أواخر مارس المنصرم قبولًا من قبل الحكومة السودانية، ومع ذلك لا تثور التفاؤلات كثيرًا بشأنها في القريب العاجل، وبحاجة لمزيد من الجهد من أجل إنجاحها. 

في ضوء ذلك، ترى التقديرات الدولية، أنه بخلاف الأوضاع المتفاقمة في التيجراي، لا زال هناك فرصة لوأد أية احتمالات للتصعيد في تلك الأزمة الحدودية، وفي سبيل ذلك؛ هناك حاجة للتعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والشركاء الدوليين، عبر عقد جلسة لمناقشة الأمر في مجلس الأمن، مع تحييد التفضيلات الذاتية والمصالح الشخصية لهؤلاء الشركاء. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى