كورونا

التوظيف الجيوسياسي للقاحات كورونا… مشاهد عالمية

منذ أن اندلعت أزمة جائحة كورونا، وامتد تأثيرها عبر القارات في أواخر يناير وأوائل فبراير من العام المنصر، وهي احتلت صدارة قضايا التنافس الجيوسياسي العالمي، فقد كان الوباء فرصة للقوى الكبرى التقليدية؛ الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، لإعادة تعريف أدوارهم استعدادًا لعالم ما بعد “كوفيد” الذي أكد كثير من المحللين أنه لن يكون بالتأكيد كعالم ما قبل الجائحة، بل ذهب بعضهم إلى حديث –يبدو مبالغًا فيه -عن “ميلاد نظام دولي جديد”، بعدما أظهرت الجائحة حجم الاعتلال الذي اعترى آليات المعسكر الغربي متجليًا في بطء استجابته للجائحة وتداعياتها، وتراجع في حملات التلقيح الخاصة بدوله، مقابل محاولات حثيثة من منافسه الشرقي التقليدي لإظهار استجابة متقدمة وسريعة للوباء وتداعياته.

وقد مرت عملية التنافس الجيوسياسي بعدة مراحل، بدأت بالتباري حول استطاعة كل دولة حشد مقدراتها الشاملة لتحجيم انتشار الوباء والحد من آثاره الاقتصادية والاجتماعية -وغالبًا ما تبنت الدول تدابير متشابهة في توقيتات زمنية متباينة- مرورًا بالتسابق على لقب “الدولة المنقذ”، أي تلك الدولة التي تستطيع إنقاذ العالم عبر مده بالمعدات الطبية اللازمة لمواجهة الوباء، وفي هذا السياق ظهر مصطلح “الدبلوماسية الطبية”، وانطلقت الدول في تبادل المعدات الوقائية كأقنعة الوجه والقفازات والمطهرات وأجهزة إجراء تحاليل الكشف عن فيروس كورونا، وكانت الأدوية والعقاقير في قلب تلك المرحلة يقودها “رمديسيفير” و”هيدروكسي-كلوروكين” و”بلاكونيل”. وفي سياق موازِ، كان سباق من نوع آخر تدور أحداثه داخل مختبرات شركات الأدوية العالمية ومتعددة الجنسيات بشأن التوصل للقاح. 

وأخيرًا، جاءت مرحلة إجازة وشراء وتوزيع اللقاحات وانطلاق حملات التلقيح. واليوم، مع إجازة نحو 11 لقاحًا، بدأ توازن القوى العالمي الجديد في التبلور، حيث تصدر المشهد خمس دول جميعها تنتمي إلى العالم المتقدم، أربعة منها من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وهي الولايات المتحدة وألمانيا بلقاحي “فايزر-بيونتيك” و”موديرنا”، وبريطانيا بلقاح “أسترازينيكا”، وروسيا بلقاح “سبوتنيك-V”، والصين بلقاحين لشركة “سينوفارم”.

وتزامنًا مع انطلاق حملات التلقيح في أكثر من 60 دولة، مع 132 مليون جرعة تم حقنها للمواطنين، نستطيع أن نميز بوضوح ما يُمكن أن نسميه حجم “التوظيف الجيوسياسي” للقاحات كورونا، والذي ارتبط بشكل أو بآخر بمفهوم “دبلوماسية اللقاحات”؛ وهو مفهوم يرتبط بالتطوير الأولي وتقديم اللقاحات، وأستُخدِم للإشارة إلى عمليات التطوير والإنتاج والاختبار والتوزيع المشتركة للقاحات. 

وقد أظهر السلوك الدولي لشراء لقاحات كورونا قصور مبدأ “التضامن العالمي” أو “المنفعة العالمية للقاحات” لصالح فكرة “القومية؛ فقد تعاقد عدد قليل من البلدان الغنية لا يمثل سوى 16% من سكان العالم، على 60% من اللقاحات، مخلفًا أزمة عجز أمام البلدان متوسطة النمو والفقيرة؛ إذ قدرت منظمة أوكسفام أن 70 دولة فقيرة لن تكون قادرة إلا على تطعيم واحد من كل عشرة سكان في عام 2021. 

وهكذا، أعادت الجغرافيا السياسية للقاحات رسم خطوط الصدع التي كان يُعتقد أنها تنتمي إلى الماضي، فمن ناحية، انكفأت الدول الغربية على اللقاحات الخاصة بها، ومن ناحية أخرى سعى خصومهم الشرقيون إلى استغلال حالة “عدم المساواة” لتوسيع قوتهم الناعمة ومناطق نفوذهم وحجز مقاعد ضمن خريطة إعادة توزيع القوى في عالم ما بعد “كوفيد”، فيما بدا وكأنه تراجع عن المنهجية العلمية لصالح الأبعاد السياسية.

فتحدثت الصين عن “المنفعة العالمية العامة” للقاحات، ومنحت بعض الدول النامية أولوية الوصول إلى اللقاحات التي تطورها، لكنها أشارت في الوقت ذاته إلى “الصداقة الصينية والقيادة العالمية”؛ إذ تريد بكين تقديم نفسها بوصفها “جهة فاعلة موثوقة وحتمية للحوكمة العالمية”، وتخفيف حدة الانتقادات الدولية بشأن مسؤوليتها عن تفشي الوباء، بل وإظهارها كلاعب دولي يقود الجهود العالمية لمكافحته، وتقوية علاقاتها الدولية، وتوسع مصالحها التجارية والاستراتيجية.

ومن الواضح تركيز بكين على الدول التي تشكل جزءًا من مشاريع التنمية مثل مبادرة الحزام والطريق بما في ذلك كمبوديا ولاوس وفيتنام وماليزيا وأفغانستان وباكستان. بالإضافة أيضًا إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية التي قدمت لها قرضًا بمليار دولار للحصول على اللقاح. وساعدها في رسم تلك الصورة كونها الدولة الوحيدة التي شهدت نموًا إيجابيًا في عام 2020 (أعلى من 2%) وحققت فائضًا تجاريًا قياسيًا بأكثر من 70 مليار دولار.

ومن ناحيتها، أسرعت روسيا في اعتماد لقاحها وتوريده للدول النامية. لكن الجديد هو لحاق الهند بركب السباق العالمي؛ محاولة حجز مقعد لها في الخطوط الأمامية لإمدادات اللقاحات بما يعزز من دورها دوليًا بوصفها “صيدلية العالم” كونها تنتج 60% من اللقاحات العالمية؛ ففي الأشهر الأخيرة، عززت الشركات الهندية الإنتاج لتلبية الطلب غير المسبوق على اللقاحات. وخزن معهد المصل الهندي 80 مليون جرعة من لقاح أسترازينيكا وهو ينتج 50 مليون جرعة شهريًا، وسيتم تقديم بعض هذه اللقاحات لمبادرة “كوفاكس”.

وفيما يلي استعراض لأبرز مشاهد التنافس الجيوسياسي العالمي للقاحات. 

آسيا… أداة للتنافس الدولي وتمرير المصالح الإقليمية

تقليديًا تقع منطقتي جنوب شرق ووسط آسيا في قلب مناطق التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، وبالأخص بين الصين والولايات المتحدة بالنسبة لجنوب شرق آسيا، وروسيا والصين بالنسبة لوسط آسيا. وقد أضافت لقاحات كورونا بعدًا جديدًا لهذا التنافس، بعدما سعت كل دولة إلى توظيف اللقاح لكسب أرضية جديدة على حساب منافسها، وتحقيق اختراق مهم في قضاياها الإقليمية. 

في جنوب شرق آسيا، حاولت بكين استباق أي تحولات في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة مع تولي جو بايدن الحكم في 20 يناير، ونفذ وزير خارجيتها وانغ يي، في أكتوبر من العام الماضي زيارة لكل دول المنطقة باستثناء فيتنام، وزار في الفترة من 11 إلى 16 يناير ميانمار وإندونيسيا وبروناي والفلبين. في كل مرة، اقترنت وعوده بالحصول على اللقاح الصيني الذي طورته شركتا “سينوفارم” و”سينوفاك” بأولويات السياسة الخارجية الأخرى، بما في ذلك تعزيز المشاريع الكبرى في إطار مبادرة الحزام والطريق.

ففي إندونيسيا، أكد وانغ التزام بكين بمساعدة جاكرتا على أن تصبح مركزًا لتصنيع اللقاحات الصينية، التي تلقت بالفعل 3 ملايين جرعة من لقاح سينوفاك وما يكفي من المواد الخام لإنتاج 15 مليون جرعة أخرى، مشيرًا في الوقت ذاته إلى استعداد الصين لتسريع استكمال خط السكة الحديد عالي السرعة بين جاكرتا وباندونغ، وهو مشروع تاريخي لمبادرة الحزام والطريق. وتوصل وانغ إلى اتفاق مبدئي بشأن أمن الإنترنت والتعاون التكنولوجي. 

وفي ميانمار، وعد بتقديم 300 ألف جرعة من لقاح كورونا، وقبل يوم من زيارته، اتفقت ميانمار والصين على إجراء دراسة جدوى لمشروع سكة ​​حديد يربط ماندالاي بميناء كيوكفيو وهو مكون مهم للممر الاقتصادي المتصور بين الصين وميانمار الذي يربط مقاطعة يوننان بالمحيط الهندي عن طريق البر والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب. وفي زيارته للفلبين، وعد بنصف مليون جرعة إلى جانب 1.3 مليار دولار في شكل قروض و77 مليون دولار في شكل منح لمشاريع البنية التحتية. 

وفي جنوب آسيا، شرعت الهند لترسيخ موطئ قدم لها، فبعد إرسال شحنات من مجموعات الاختبار ومعدات الحماية الشخصية وأجهزة التنفس الصناعي والأدوية، منحت نيودلهي الأولوية لدول الجوار في الحصول على لقاح كوفيشيلد -الذي طورته أسترازينيكا وصنعه معهد سيروم في الهند -وكوفاكسين الذي طوره مختبر “بهارات بايوتك”. وبالفعل أرسلت 5 ملايين جرعة إلى بنجلاديش وبوتان وجزر المالديف وميانمار ونيبال وسريلانكا ضمن مبادرة “الجوار أولًا” التي تتبناها حكومة مودي منذ 2014، وإلى شركاء المحيط الهندي الرئيسين، موريشيوس وسيشيل، ضمن مبادرة “تعزيز استراتيجية منطقة المحيط الهندي.

وتنظر نيودلهي إلى اللقاح بوصفه أداة قوية للقوة الناعمة لمواجهة نفوذ الصين الكبير في جنوب آسيا؛ فقد نما دور بكين كشريك تجاري ومستثمر ومورد للمعدات العسكرية في الدول المجاورة للهند، خاصة مع الشراكة مع الصين في مبادرة الحزام والطريق، وكانت جهود الهند لتقويض هذا التأثير غير فعالة نظرًا لافتقارها إلى نوع الموارد الاقتصادية التي تمتلكها الصين. والآن تأمل نيودلهي أن يمكّنها اللقاح من تآكل النفوذ الصيني في جنوب آسيا، وقد نجحت بالفعل في انتزاع امتنان الحكومات المجاورة، بما في ذلك تلك التي دخلت في سجال معها في الأشهر الأخيرة.

فبعد وقت قصير من وصول الشحنات الأولى من اللقاح إلى كاتماندو، شكر رئيس الوزراء النيبالي الهند على توفير اللقاحات، على الرغم من خلاف ممتد منذ ما يقرب من خمس سنوات، بسبب النزاعات الحدودية، في عام 2020، وافق البرلمان النيبالي على مشروع تعديل للدستور يقر الخريطة الجديدة للبلاد التي تشمل مناطق داخل الهند. وفي بنجلاديش، شكرت الشيخة حسينة، رئيسة الوزراء، رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لإرسال دفعة لقاح كهدية، رغم خلاف بين البلدين إثر إقرار البرلمان البنجلاديشي قانون المواطنة في عام 2019 تسبب في إلغاء وزير الخارجية البنجلاديشي أيه كيه عبد المؤمن ووزير الداخلية أسد الزمان خان زيارة كان مخطط لها إلى نيوديلهي.

ولعل أبرز مثال على التنافس الهندي-الصيني المشار إليه سلفًا لجوء بنجلاديش إلى اللقاح الهندي بعد فشل مفاوضاتها مع الصين التي على ما يبدو أرادت أن تشاركها تكلفة تجارب اللقاح لكنها رفضت. وعلق زاهد مالك، وزير الصحة البنجلاديشي: “الدول الصديقة تساعد بعضها البعض. لقد ساعدتنا الهند اليوم في اللقاح؛ تمامًا مثلما مدوا يد المساعدة في حرب التحرير لدينا”.

وتجدر الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى استراتيجية منحة اللقاح لجيرانها، شرعت الهند أيضًا في إمداد تجاري للقاحات إلى العديد من البلدان، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا والبرازيل والمغرب وكندا ومنغوليا وغيرهم، كونها واحدة من أكبر البلدان المصنعة للقاحات في العالم، وتوفر حوالي 60% من الاحتياجات العالمية من اللقاحات وخاصة المتعلقة بالحصبة، وهو ما سيعزز تلك مكانة الدولة وشركاتها عالميًا على المدى البعيد.

أما في وسط آسيا، فالغلبة لروسيا. خلال الوباء، استخدمت بكين قوتها الناعمة من خلال تقديم الإمدادات الطبية وغيرها من المساعدات إلى بلدان آسيا الوسطى، حيث تتمتع بنفوذ متزايد كمستثمر وشريك تجاري. ومع ذلك، فإن روسيا تعد المنطقة ساحتها الخلفية وتعيد تأكيد وجودها على جبهة التطعيم.

وحاليًا، تسلمت كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان لقاح سبوتنيك-V. وأصبحت كازاخستان أول دولة في آسيا الوسطى تبدأ حملة التلقيح بسبوتنيك، وستنتجه في مصنع للأدوية بمدينة كاراغاندا. وتعد موسكو الحليف السياسي الرئيسي لكازاخستان، مقابل حالة من عدم الثقة المتزايدة في الصين؛ وخلال السنوات الأخيرة، كانت هناك احتجاجات ضد التوسعية الصينية المتصورة ونفوذ بكين المتزايد في البلاد، لذا فإن استخدام لقاح صيني سيقابل على الأرجح برفض شعبي.

وبالمثل في قيرغيزستان، سيكون من الصعب الحصول على لقاح صيني؛ ففي ظل الحكومة الجديدة للرئيس صادر جاباروف، لا تزال العلاقات بين البلدين متوترة في أعقاب الانتفاضة التي شهدتها البلاد أكتوبر الماضي، والتي شهدت إجبار الرئيس السابق على ترك منصبه وانهيار الحكومة. وفي خضم الاضطرابات، تم استهداف مناجم تديرها الصين ومصفاة نفط. وحصلت البلاد على لقاح أسترازينيكا عبر آلية “كوفاكس”، بينما لا يزال لقاح “سبوتنيك-V” ينتظر الموافقة.

ومع ذلك، تعد أوزباكستان الدولة الوحيدة في هذا الإقليم المنخرطة في تعاون صحي واسع مع بكين، حيث اقتربت أوزبكستان، التي تنظر إلى الصين كشريك رئيسي، من بكين خلال الوباء، وزار خبراء صينيون أوزبكستان، وشهد البلدان تدريبات وتبادلًا عبر الإنترنت مع أفراد طبيين صينيين وأوزبكيين بشأن علاج فيروس كورونا. بينما لا يزال ينظر عامة الناس إلى روسيا على أنها الشريك الأفضل لمساعدة البلاد في التعامل مع الوباء. 

أفريقيا… تنافس روسي صيني هندي

لم تكن اللقاحات استثناءً من التنافس الجيوسياسي التقليدي للقوى الكبرى على الحلبة الأفريقية، وفي ظل تراجع الإمدادات الغربية للقارة (تم توقيع صفقات لشراء 270 مليون جرعة لقاح من فايزر وأسترازينيكا وجونسون آند جونسون مجتمعين)، وجدت القوى المنافسة الشرقية الثلاث؛ روسيا والصين والهند، الساحة مهيأة لإعادة رسم خرائط النفوذ؛ إذ أظهرت اهتمامها بشكل خاص باحتياجات القارة.

وفي مقابل قرار الهند التبرع بعشرة ملايين جرعة لقاح لأفريقيا وموافقتها على تقديم 400 مليون جرعة، أعلنت الصين تقديم اللقاح بالمجان لزيمبابوي وسيراليون وغينيا الاستوائية، ضمن خطة لمساعدة 38 دولة نامية، وقدمت جرعات لنيجيريا وجنوب أفريقيا ودول أخرى، وعرضت بناء مركز لوجستي للقاح فيروس كورونا في أديس أبابا، ومراكز تصنيع لإنتاج اللقاح في مصر والمغرب.  

وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ أول من طمأن الدول الأفريقية بأنها ستكون أول المستفيدين من لقاح كورونا بمجرد اكتمال تطويره ونشره في الصين، خلال اجتماع مع الزعماء الأفارقة في يونيو الماضي. ويحصل اللقاح الصيني على ميزة تنافسية في القارة السمراء بالنظر إلى سهولة نقلة وتخزينه في درجة حرارة الثلاجة العادية، مقارنة بلقاحات فايزر وموديرنا التي تطل درجات حرارة تصل إلى -70 للأول و-20 للثاني، وهو أمر يصعب تلبيته في القارة حيث تسود الحرارة الشديدة والرطوبة العالية.

ولم تقتصر الشراكة الاستراتيجية الصينية مع أفريقيا خلال الجائحة على إمدادها بالمساعدات الطبية واللقاحات، لكنها أبدت تفهمًا للوضع الاقتصادي الصعب الذي تعانيه القارة نتيجة الأزمة، وخلال جولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي التقليدية لدول القارة أول كل عام، والتي شملت هذا العام نيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوتسوانا وتنزانيا وسيشل، وقع اتفاقية لإنشاء لجنة حكومية دولية في الكونغو، وأخرى مع جمهورية الكونغو الديمقراطية بشأن سداد القروض بدون فوائد من الصين التي كانت مستحقة في نهاية عام 2020، على الرغم من أنه لم يكن من الواضح ما هي قيمتها. وأثناء وجوده في تنزانيا، أطلق كلية تدريب، وفي بوتسوانا التزم بتعميق العلاقات الثنائية، وفي جزر سيشل ناقش استيراد المزيد من الأسماك من الدولة التي دمرها انهيار السياحة.

وتأمل الصين في تجاوز الضرر الذي لحق بصورتها في القارة، بعد أن أثار التمييز المزعوم المتعلق بفيروس كورونا ضد المواطنين الأفارقة في مدينة قوانغتشو غضبًا واسع النطاق في جميع أنحاء القارة في أبريل الماضي. وتم نشر مقطع فيديو استثنائي بعد ذلك على موقع تويتر يظهر فيه توبيخ سياسي نيجيري للسفير الصيني في نيجيريا بسبب إساءة معاملة الأفارقة.

بريطانيا والترويج لمكاسب “البريكست”

لا شك أن قضية اللقاحات تُعد أول اختبار حقيقي لعمل المملكة المتحدة خارج آليات الاتحاد الأوروبي، وهو ما يخضعها للتوظيف الجيوسياسي. وبالفعل، لم تفوت حكومة بوريس جونسون الفرصة للترويج لمكاسب “القومية” و”عودة السيادة”، مستغلة التقدم في حملة التلقيح المحلية مقارنة بنظيرتها الأوروبية التي شهدت بطئًا وتعثرًا؛ إذ يبلغ معدل التطعيم في الكتلة خُمس مثيله في بريطانيا التي لقحت أكثر من 10 ملايين شخص، في ثالث أعلى معدل عالمي بعد إسرائيل والإمارات.

ويواجه الاتحاد الأوروبي مشاكل في التوريد، فعلى سبيل المثال، أبلغت أسترازينيكا أنها لن تستطيع تقديم أكثر من 40 مليون جرعة بحلول نهاية مارس بسبب مشاكل في الإنتاج بمصنع بلجيكا، وهو نصف الجرعات المتفق عليها (80 مليون جرعة بحلول نفس الفترة)، وأعلنت فايزر تأخيرات كبيرة في تسليم الاتحاد الأوروبي بسبب مشاكل في الإنتاج أيضًا. كذلك، أبلغت موديرنا الحكومة الإيطالية في 29 يناير أنها ستوفر لقاحات أقل بنسبة 20% مما كان مخططا له في أوائل فبراير، وأعلنت الحكومة الفرنسية أنها ستتلقى 25% أقل من جرعات موديرنا عما كان متوقعًا في فبراير.

 وهو ما أثار غضب بروكسل وتسبب في تراجع حملات التلقيح؛ فقد أوقفت السلطات الإسبانية جميع التطعيمات في منطقة مدريد لمدة عشرة أيام اعتبارًا من 27 يناير، واضطرت ثلاث مناطق فرنسية إلى تعليق إعطاء الجرعة الأولى للسكان لضمان إمكانية تلقيهم الجرعة الثانية.

تلك المتغيرات وفرت بيئة مناسبة للمسؤولين البريطانيين ليؤكدوا أن النجاح في حملة التلقيح أحد ثمار مغادرة الكتلة؛ ففي مقابلة مع راديو تايمز، قال وزير الصحة مات هانكوك: “نقوم بنفس فحوصات السلامة ونفس العمليات، لكننا تمكنا من تسريع كيفية القيام بها بسبب الخروج من الاتحاد الأوروبي”. نفس المعنى ساقه رئيس مجلس العموم، جاكوب ريس-موج، بقوله: “يمكننا الموافقة على هذا اللقاح فقط بهذه السرعة لأننا غادرنا الاتحاد الأوروبي”.

في واقع الأمر، نجحت لندن في إدارة قضية إمدادات اللقاحات أفضل من بروكسل؛ إذ أوكلت تلك المهمة لكيت بينغهام، رئيسة فرقة عمل اللقاحات الحكومية، وهي بارعة في تلك الصفقات كون اختصاصها هو شراء اللقاحات وإبرام العقود، بينما لا تمتلك رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين المهارة نفسها. وقد قادت بينغهام بين مايو وديسمبر مباحثات مبكرة مع منتجي اللقاحات. 

وبحلول منتصف أغسطس، كانت بريطانيا قد وقعت اتفاقيات لتأمين سبعة أنواع من اللقاحات هي؛ فايزر (رفضت بروكسل عرضًا للحصول على 500 مليون جرعة في يوليو 2020 وعدته باهظ الثمن)، وموديرنا، وأسترازينيكا (قبل 3 شهور من الاتحاد الأوروبي)، وسانوفي، وجونسون آند جونسون، ونوفافاكس، وفالنيفا. وبالنسبة للأخير فإن هذا العقد سيمنح بريطانيا الحق في الحصول على اللقاح الذي ستطوره الشركة (ومقرها فرنسا) بحلول الخريف المقبل بينما لن يكون متوفرًا في فرنسا قبل 2022.

ومع ذلك، فإن الترويج لكون ذلك نتيجة حتمية للبريكست أمر يفتقد الدقة، فبموجب المادة 4 من معاهدة عمل الاتحاد “TFEU”، يجب أن يحصل اللقاح على ترخيص من وكالة الأدوية الأوروبية، إذ تنص على: “تنظيم الأدوية البشرية هو مجال الاختصاص المشترك بين الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء لكن في ضوء ممارسة الاتحاد الأوروبي الشاملة للاختصاص، تُمنع الدول الأعضاء من ممارسة الاختصاص على المستوى الوطني”.

لكن هذا لن ينطبق على حالات الطوارئ حيث يُمكن للدول السماح بتوزيع اللقاح للاستخدام المؤقت في أسواقها المحلية، ومع ذلك فضلت الدول أن تتولى بروكسل مسؤولية شراء اللقاحات كجزء مما أطلقت عليه فون دير لاين “الاتحاد الصحي الأوروبي”. وبالتالي، كان يُمكن لبريطانيا –حال احتفظت بعضويتها –ألا تلتزم بآليات بروكسيل، لكن لا شك أن البريكست رفع عنها الحرج السياسي بشكل أكبر.

الاتحاد الأوروبي يهرب من الانتقادات الداخلية إلى روسيا

منذ اندلاع جائحة كورونا ويجادل بعض المحللين بأنها كشفت أوجه الضعف التي اعترت آلية العمل الجماعي الأوروبية، ليأتي قصور حملات التطعيم ويفاقم الانتقادات الداخلية، ووسط حالة من تراجع شعبية بعض الأنظمة الحاكمة، وجهت الكتلة أنظارها للقاح الروسي “سبوتنيك-V”، في مفارقة كانت مستبعدة بدرجة كبيرة بعد استقبال حذر للقاح الذي طوره معهد “جماليا” وشكوك بشأن فاعليته ودقة وكفاية الدراسات التي أُجريت عليه، ما أثار شكوكًا بشأن مدى علمية وموضوعية المخاوف الأوروبية السابقة، وعما إذا كانت مرتبطة بدوافع سياسية.   

وعقب أيام من دراسة نشرتها المجلة البريطانية الطبية المرموقة “لا نسيت” بشأن فاعلية اللقاح بنسبة 91.6%، أعرب جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، خلال زيارته لموسكو، عن أمله في أن تصادق وكالة الأدوية الأوروبية على لقاح “سبوتنيك”. كما بدت إسبانيا متحمسة لفكرة استخدام اللقاح الروسي، وقالت فرنسا إنه لا لا مانع من استخدامه إذا كان يتوافق مع المعايير العلمية، وأعرب المستشار النمساوي سيباستيان كورتس عن استعداد النمسا لإنتاج لقاحات كورونا الروسية والصينية إذا تم تسجيلها من قبل وكالة الأدوية الأوروبية.

وقد تقدم صندوق الثروة السيادية الروسي الذي يشرف على تطوير اللقاح بطلب لإقراره من قبل وكالة الأدوية الأوروبية “EMA”، متوقعًا أن يجري الفحص الأول للملف في فبراير، وسط احتمالات بحصوله على الضوء الأخضر بحلول الصيف. ويبدو أن خطوات فعلية أُخذت في هذا الاتجاه؛ إذ تواصلت روسيا بالفعل مع مختبر “IDT Biologika” الألماني، ذلك أن شرط الحصول على موافقة بروكسل هو أن يكون للشركة قدرة إنتاجية على الأراضي الأوروبية، لضمان التسليم السريع.

ويبدو أن السياق الزمني لهذا التطور قد يخدم علاقات موسكو وبروكسل التي دخلت أزمة جديدة على خلفية دعوات لفرض عقوبات على روسيا ردًا على اعتقال وسجن المعارض الكيسي نافالني بعد عودته من رحلة علاجية في ألمانيا نتيجة تعرضه للتسمم، فضلًا عن تصاعد أصوات تنادي بوقف مشروع خط غاز “نورد ستريم 2” بين ألمانيا وروسيا. وكان أحدث حلقات التوتر بين الجانبين طرد موسكو ثلاثة دبلوماسيين من ألمانيا وبولندا والسويد بدعوى مشاركتهم في الاحتجاجات المؤيدة لنافالني بالمخالفة للقانون الدولي، وهو ما ردت عليه الدول الثلاثة بالمثل.

ويجدر بنا الإشارة إلى أن التوجه نحو روسيا ليس جديدًا على دول الاتحاد، فقد منحت السلطات الصيدلانية المجرية إذنًا طارئًا لاستخدام لقاحي “سبوتنيك” و”سينوفارم”، وعلى الرغم من تبرير ذلك ببطء وتيرة إقرار اللقاحات الأوروبية، إلا أنه لا يخلو من دافع سياسي، كونه يأتي في سياق خلافات بين الجانبين، تجلت في رفض بودابست خطة الإنعاش الاقتصادي الأوروبية، واتهام الأخيرة للحكومة المجرية باستغلال الإجراءات الاحترازية للحد من انتشار الوباء في تضييق الحريات. 

أوكرانيا وإيران وتايوان… الحكم للسياسية لا العلم

بينما دعت أوروبا إلى “عدم تسييس” اللقاحات، مثلت العلاقات السياسية القول الفصل في تفضيلات بعض الدول للقاحات، بمهاجمة وأحيانًا حظر تلك التي أنتجها الخصوم السياسيون الدوليون؛ فقد وافق المشرعون الأوكرانيون على مشروع قانون يحظر رسميًا اللقاحات الروسية، على الرغم من المراجعات الجديدة التي تشير إلى كفاءة لقاح “سبوتنيك-V”، وقلة البدائل أمام كييف، وتزايد الانتقادات ضد الرئيس فولوديمير زيلينسكي مع تزايد تفشي الوباء وعدم انطلاق حملات التطعيم. 

لكن الأزمة السياسية التي اندلعت بين البلدين عام 2014 على خلفية ضم القرم لروسيا ألقت بظلالها على المشهد الصحي، في وقت بدأت القرم والمناطق الانفصالية في شرق أوكرانيا حملات التطعيم بسبوتنيك-V. ولجأت كييف للتعاقد على 8 ملايين جرعة من لقاح فايزر، ووقعت اتفاقًا للحصول على 1.8 مليون جرعة من لقاح سينوفاك الصيني.

ومن جانبها، حظرت إيران جميع اللقاحات المصنوعة في الولايات المتحدة وبريطانيا ضمن خلافات تصاعدت حدتها مؤخرًا على خلفية أزمة العقوبات والانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وبالمقابل، بدأت حملات التلقيح بواسطة اللقاح الروسي. ومن المتوقع أن تتلقى مليون جرعة لقاح من الصين.

علاوة على ذلك، لم يتوقف المسؤولون التايوانيون عن مهاجمة اللقاحات الصينية منذ العام الماضي. ومؤخرًا، حظرت السلطات واردات هذه اللقاحات، وحذرت من أن المدنيين التايوانيين الذين يعيشون في الصين قد يواجهون الحجر الصحي عند عودتهم إلى ديارهم، بعدما أفادت تقارير بأن بكين تقدم لقاحًا محليًا مجانيًا لنحو 400 ألف مواطن تايواني يعيشون فيها، مدعية وجود مخاوف بشأن فاعلية تلك الجرعات. ولجأت تايوان إلى شراء حوالي 15 مليون جرعة؛ عشرة ملايين منهم من أسترازينيكا و5 ملايين عبر آلية “كوفاكس”.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى