أفريقياسياسة

مصر والساحل الأفريقي.. استعادة الدور والتأثير

لقد شهدت العلاقات المصرية الأفريقية حالة من الفتور والضعف منذ مطلع عام 2011 حتى يونيو 2014، ناجمة بصورة كبيرة عن حالة الاضطراب والتفكك المجتمعي والهشاشة السياسية التي كانت تعاني منها الدولة خلال تلك الفترة، غير أن مسار تلك العلاقات قد تبدل بصورة كبيرة منذ قدوم الرئيس “عبد الفتاح السيسي” للسلطة في يونيو 2014.

ولعل تراجع الدور المصري في منطقة الساحل ألقى بظلال سلبية على تلك المنطقة الحيوية للأمن القومي المصري، وأحدث خللًا ليس فقط على مستوى منطقة الساحل والصحراء إنما على مستوى القارة ككل، الأمر الذي أتاح بصورة كبيرة في تغلغل مزيد من القوى المعادية لمصر لتعزيز حضورها داخل تلك المنطقة الحرجة، وأنقص من الدور المصري داخلها، مما دفع القيادة السياسية الحالية لرسم خارطة عمل متشابكة تستهدف العودة للحاضنة الأفريقية وتفعيل دورها الريادي بها.

أهمية استراتيجية ممتدة

إن المتأمل للأهمية الاستراتيجية لمنطقة الساحل الأفريقي يجد أنها تمتاز بخصوصية جغرافية مهمة، إذ تحتل تلك المنطقة مساحة واسعة تمتد من البحر الأحمر شرقًا وصولًا إلى الدول المطلة على المحيط الأطلنطي غربًا، فضلًا عمّا تمتاز به تلك المنطقة بامتلاكها احتياطيات نفطية هائلة والمصادر الحيوية ومصادر الطاقة المختلفة، الأمر الذي جعلها مسرحًا مهمًا في ضوء المعادلة الدولية والإقليمية وحالة الاستقطابات المختلفة التي تشهدها تلك المنطقة، خاصة في ضوء التمدد الفرنسي والتوغل الأمريكي والصيني.

وتعد تلك المنطقة مسرحًا حيويًا للتنافس الإقليمي والدولي وبسط النفوذ عليها، خاصة وأن تلك المنطقة تقع على معابر مائية مهمة تطل على أوروبا والمشرق العربي، وانطلاقًا من تلك الأهمية الاستراتيجية وما تمتاز به من مصادر للطاقة اندفعت دول كثيرة لإحكام السيطرة على دول الساحل والصحراء حماية لمصالحها المختلفة، خاصة في ظل رغبتها في استمرارية تدفق النفط إليها.

 ليس هذا فحسب بل إن المساحات الشاسعة والطبيعة الجغرافية الخاصة بتلك المنطقة، جعلها محفزًا كبيرًا لتدفق موجات مختلفة من العناصر الإرهابية وتوطن للتنظيمات الإرهابية، الأمر الذي يدفع بالقول إن تلك المنطقة تعد من بين الدوائر المباشرة والمهمة للأمن القومي المصري وللاستقرار الأفريقي ككل.

ولا شك أن مصر تمتاز بخصوصية استراتيجية لدول تجمع الساحل والصحراء، لكونها أحد أهم القوى الإقليمية الفاعلة في الإقليم، علاوة على مساعيها الرامية باستمرار لتحقيق الاستقرار وبناء السلام وتعزيز الأمن الإقليمي، إلى جانب مساعيها الدائمة لحل الصراعات المعقدة والممتدة التي ألقت بظلالها على منطقة الساحل والصحراء خاصة فيما يتعلق بجانب الإرهاب والناجم عن حالة التدهور الأمني والتكالب الإقليمي في خضم المشهد الليبي.

تحديات جسيمة ومسؤولية مشتركة

تتسم منطقة الساحل بطبيعة خاصة معقدة، ناجمة من ضعف وهشاشه الدول وتراجع القدرات الأمنية بها، وهو ما تفاقم في ضوء تزايد الجماعات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم القاعدة. فالمنطقة بمثابة أرض الجيل الثالث لذلك التنظيم في ظل حالة الضعف والتراجع التي يشهدها في معقله الرئيس “أفغانستان”.

ولقد برزت في الآونة تشابكات مختلفة فيما يتعلق بظاهرة الإرهاب، وباتت تلك المنطقة مجالًا حيويًا لإعادة تمركز وتوطين الجماعات الإرهابية المختلفة، خاصة في أعقاب انهيار الأنظمة في الكثير من الدول في مرحلة ما يُعرف باسم “الربيع العربي” وعلى وجه التحديد ليبيا، مما أدى إلى تفاقم وتزايد نشاط الجماعات الإرهابية والتوغل بصورة كبيرة في منطقة الساحل وتحديدًا في مالي.

واتصالًا بالسابق؛ فإن المنطقة شهدت تحولات ضاغطة متعددة، ففضلًا عن انهيار عدد من الدول العربية والإفريقية الذي شكٌل تحديًا مضاعفًا لدول منطقة الساحل، حيث شكل ذلك في حد ذاته نقطة انطلاق وسيولة لتدفق التنظيمات والعناصر الإرهابية داخل تلك المنطقة، وبات الوضع كحلقات مستمرة ومتواصلة دون انقطاع بما راكم تطورات مختلفة باتت الحاجة إلى تنسيق إقليمي ودولي لقطع الطريق أمام موجات التدفق الإرهابية لهذا العمق الأفريقي.

وهو ما  دفع إلى تنامي ظاهرة الإرهاب وانتشار الجماعات الإرهابية المختلفة وسيطرتها على مواقع حيوية داخل تلك المنطقة، كما هو الحال بالنسبة لتنظيم القاعدة في منطقة المغرب العربي، وتنظيم ” أنصار الدين” الذي تشكل مارس 2017  ويضم قرابة  4 جماعات إرهابية ومتشددة تحت لواء تنظيم القاعدة والمتمثلة في (إمارة منطقة الصحراء- المرابطون- أنصار الدين – كتائب ماسينا) ويبلغ عددها نحو 10 آلاف إرهابي، و”حركة الجهاد والتوحيد”  التي تتبع تنظيم القاعدة في مالي، فضلًا عن تمدد جماعة “بوكو حرام” في تلك المنطقة، إلى جانب تنظيم “داعش” الإرهابي الذي يستهدف إقامة دولة في منطقة غرب أفريقيا، الأمر الذي خلق شبكة جهادية تمتد من أقصى الساحل الأفريقي بالغرب إلى أقصى الساحل الأفريقي في الشرق.

وانطلاقًا من كون مصر بوابة أفريقيا الشمالية وحائط الصد المنيع أمام عمليات تدفق التنظيمات الإرهابية من الداخل إلى ليبيا، علاوة على ما أثبتته الدولة المصرية من قدرة كبيرة في مواجهة التنظيمات الإرهابية التي تفشت بصورة غير مسبقة منذ عام 2011، دفع دول تلك المنطقة إلى تحقيق قدر من التنسيق بين دول تلك المنطقة وبين مصر، وهو ما تفهمته دول تلك المنطقة وبادرت مصر ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو في انتهاجه.

ولعل دولة مالي من بين الدول التي شهدتها توترات داخلية تمثلت في حالة التمرد التي برزت عام 2012 وبرزت مؤخرًا في انقلاب أغسطس 2020، فضلًا عن الهجمات الإرهابية المتكررة على القوات الفرنسية المتواجدة في منطقة الساحل والصحراء.

عودة التفاعل والتتويج برئاسة الاتحاد 

لقد شهد الدور المصري في القارة الأفريقية تراجعًا ملحوظًا في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس الأسبق “محمد حسني مبارك” في أديس أبابا عام 1992 وما أدى في أعقاب ذلك في حالة من الفتور والضعف في خضم العلاقات المصرية الأفريقية بصورة عامة، وما تبعها من تصدعات داخل الدولة المصرية على خلفية تفشي الفوضى في أعقاب أحداث 25 يناير 2011، مما أضعف ذلك مسار التفاعل الإيجابي المصري الأفريقي.

ولعل مسار التصحيح الذي بدأته الدولة المصرية والتحدي الحقيقي للقاهرة في إعادة علاقاتها الطبيعية مع دول القارة السمراء، جاء إبان ثورة الثلاثين من يونيو 2013، والتي جُمدٌت على إثرها عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي، إلا أن تلك الثورة وما تبعها من انتهاج القيادة السياسية سياسية الانفتاح والانخراط في قالب القارة الأفريقية دعمًا لأشقائها، كان حافزًا كبيرًا في تحقيق قدر من التوازن في علاقتها مع تلك الدول.

ولعل التجربة المصرية الناجحة في مسار التحول الديمقراطي، وقدرتها على التعافي ولعب أدوار مؤثرة في المشهد الإقليمي، مكنها من العودة مرة أخرى إلى الاتحاد بل باتت نقطة تحول نحو تولي مصر رئاسة الاتحاد خلال عام (2019)، لتكتب فصلًا جديدًا من القيادة والتفاعل الإيجابي مع الدول الأعضاء.

وانطلاقًا من تلك التحديات فقد وضعت مصر في مرحلة ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، خارطة عمل ممتدة داخل القارة الأفريقية تتيح لها إعادة التواجد والانتشار في القالب الأفريقي، حيث تأتي التحركات المصرية داخل منطقة الساحل مدفوعًا بجملة من الأهداف الاستراتيجية يأتي على رأسها تحقيق الاستقرار والتماسك الداخلي لدول تلك المنطقة ومواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والدفع بمسار التنمية الشاملة.

استراتيجيات متباينة

في ضوء التعاطي المصري مع قضايا القارة الأفريقية على وجه العموم ومنطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص، تبنت القاهرة جملة من الاستراتيجيات التي تفاعلت من خلالها في إدارة الأزمات المختلفة التي تطغى على تلك المنطقة، وذلك انطلاقًا من مسؤوليتها التاريخية تجاه جيرانها الأفارقة، تمثل هذا النهج في الآتي:

  • إسكات البنادق ومساعي إقرار السلام: لقد رسخٌت مصر بصورة كبيرة مبدأ إقرار السلام وكان ولا يزال هو النهج المتبع من جانب الإدارة السياسية الراهنة، وقد تبلور ذلك في الدفع بمسار مبادرة “إسكات البنادق” والتي تُعد خارطة طريق رئيسية تقدم بها الرئيس “السيسي” مطلع عام 2018، والتي وضعت ضوابط وآليات ملزمة لكافة الأطراف من أجل إنهاء الحروب والنزاعات المختلفة داخل القارة، وهو ما تبنته مصر خلال توليها رئاسة الاتحاد الأفريقي خلال عام 2019 بعد غياب نحو 25 عامًا.

 تُعد تلك المبادرة مقاربة كاملة نحو تعظيم السلام والأمن الإقليميين، ودعمت بصورة كبيرة مسار السلام داخل دول القارة، وهو ما انعكس إيجابيًا في تخفيف الضغط على الأمن الإقليمي وعلى الدول المركزية، وفتح المجال بصورة كبيرة لتحقيق مسار للتنمية المستدامة. ولعل الرؤية المصرية في مكافحة الإرهاب والتطرف الرامية إلى تكاتف الجهود الإقليمية والدولية عبر مقاربة شاملة للنواحي الأمنية والعسكرية والسياسية والفكرية، لفتت أنظار الدول للسير على ذات المنوال.

  • تحقيق استدامة للأنشطة الأمنية في المنطقة: إن أحد أبرز محاور التحرك المصري داخل العمق الساحلي، يكمن بصورة كبيرة في تقويض الإرهاب والحد من الجريمة المنظمة العابرة للحدود كما أشرنا آنفا، وتحقيقًا لذلك الهدف عملت مصر منذ الوهلة الأولى لتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي منصب رئيس الجمهورية، إلى تحقيق قدر من التنسيق الإقليمي والدولي في سبيل مكافحة الإرهاب.

وتجلى ذلك في المساعي المصرية المتعددة نحو إنشاء قوة أفريقية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وتشكيل جيش يضم كافة دول مجموعة الساحل بالتنسيق مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في تلك المنطقة. وفي ضوء ذلك كان لمصر دور كبير في الدفع بمسار تشكيل قوة عسكرية مشتركة بين دول الساحل، إبان استضافتها للاجتماع الخامس لوزراء دفاع تجمع دول الساحل والصحراء بشرم الشيخ في مارس 2016.  

واتصالًا بالسابق؛ فقد احتضنت القاهرة في التاسع من نوفمبر عام 2020 اجتماعًا لرؤساء أركان حرب القوات المسلحة لدول تجمع الساحل الأفريقي الخمس إضافة لممثلي الدول الأوروبية المانحة، وأبدت مصر استعدادها لاستضافة قمة أفريقية لبحث كافة جوانب آلية القوة الأفريقية الموحدة لمكافحة الإرهاب في دول الساحل، وتدريب الكوادر العسكرية من دول تجمع الساحل في المؤسسات العسكرية المصرية وإثقالهم بالمهارات والمتطلبات التدريبية المختلفة في مجال مكافحة الإرهاب

ومن هذا المنطلق ساعدت مصر بشكل كبير في إحداث توازن في المعادلة الأمنية داخل منطقة الساحل، بصورة حققت قدرًا من استدامة النشاط الأمني بها، وذلك على خلفية التنسيق المستمر والدائم بينها وبين مجموعة G5، والدعم الدائم لتحقيق قدر من تماسك تلك الدول والعمل من خلال إطار أمني مؤسسي يستهدف تقويض التحركات الإرهابية في تلك المنطقة.

  • تذكية العمل المؤسسي في مواجهة التحديات: إن مصر لطالما تتخذ من المحافل الدولية للدقاع عن مصالح الإقليم، وفي ضوء الحديث عن منطقة الساحل والصحراء فقد عبر مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة السفير “محمد إدريس” عن رفض مصر للنهج التركي الذي يقوض السلم والأمن في أفريقيا، وحتمية العمل بقرار مجلس الأمن رقم (2396) الخاص بمنع انتقال الإرهابيين من العمق الليبي إلى مناطق التوتر الأخرى كما هو الحال بالنسبة لمنطقة الساحل والصحراء، فضلًا عن دعم مصر للجهود السياسية التي يقوم بها كلًا من الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” من أجل بلورة حل سياسي لحل الأزمة السياسية المندلعة في مالي.
  • طرح مبادرات لبناء السلام: لقد طرحت القاهرة مقترحات مختلفة لدى دول التجمع تستهدف بصورة رئيسية في الاستفادة من مركز القاهرة للتدريب وفض المنازعات وبناء السلام وتسوية المنازعات، وقيام هذا المركز باستضافة ورش عمل للخبراء المتخصصين بدول التجمع لإعداد رؤية مشتركة لإدارة الحدود تعتمد بصورة رئيسية على الإدارة المتكاملة وإنشاء إطار بيني للأجهزة الوطنية لحل القضايا العالقة وتحقيق قدر من التوازن بين الأمن والتنمية.

ولعل إنشاء القاهرة “المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لدول الساحل والصحراء” تجسيدًا كبيرًا للدور الريادي الذي تقوده مصر في خضم تفاعلها مع دول القارة بصفة عامة ومنطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص، وذلك ليكون إنذارًا مبكرًا للتحولات السلبية التي من شأنها تقويض السلم والأمن في تلك المنطقة، وكذلك بوتقة للتعاون العسكري بين مصر ودول تلك المنطقة لمواجهة التحديات المختلفة.

ختامًا؛ إن المتأمل للتحركات المصرية يجد أنها استطاعت بصورة كبيرة كسر حالة الانطواء والانعزال عن القارة السمراء، بل باتت ذات تأثير كبير في المشهد الأفريقي انطلاقًا من الثوابت المصرية في سياساتها الخارجية التي تعتمد على حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتعزيز أواصر الصلة لتحقيق قدر من التعاون في مواجهة كافة التحديات التي تواجه القارة بصورة عامة، ومنطقة الساحل والصحراء التي تعاني من إرهاب ممتد.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى