أفريقيا

تطورات أزمة الحدود السودانية/ الإثيوبية .. ما بين “المستجدات” و”المحددات”

في ضوء جملة من المستجدات طرأت على المشهد السوداني- الإثيوبي دفعت بالملفات العالقة بينهما للسطح؛ تجددت الاشتباكات الحدودية، بين الميليشيات الإثيوبية وعناصر من الجيش السوداني، والتي أدت إلى مقتل أربعة عناصرعسكرية وإصابة 12 آخرين، كانوا عائدين من تمشيط منطقة حول “جبل أبو طيور” داخل الحدود السودانية، مساء الثلاثاء 15 ديسمبر 2020.

جاءت تلك الاشتباكات بعد يومين من زيارة لرئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، التقى خلالها بنظيره الإثيوبي، أبي أحمد، على وقع التطورات التي شهدها إقليم التيجراي واستقبال السودان لما يقارب من الخمسين ألفًا من اللاجئين في الولايات الشرقية السودانية، ككسلا والقضارف؛ ما دفع الجانب السوداني بالسعي لتأمين حدوده الشرقية والبحث في ملف ترسيم الحدود بين الجانبين، والأوضاع الأمنية وأوضاع اللاجئين، فضلُا عن تطورات سدّ النهضة، بعد التحفظ السوداني الأخير وانسحابه من المفاوضات.

مستجدات العلاقات الإثيوبية – السودانية

يشهد الداخل الإثيوبي تطورات لافتة، لا تقف حدود تأثيرها على الداخل، بل تمتد تداعياتها إلى محيطه الإقليمي؛ ولعل السودان من أوائل الأطراف الإقليمية المتأثرة بمتغيرات المشهد الإثيوبي، في وقت يشهد فيه السودان متغيرات داخلية، تفاقم من معامل التأثير للمتغيرات والعوامل الخارجية؛ لذلك يتابع قادة المرحلة السودانية ما يجري في الداخل الإثيوبي بحذر وترقب شديدين.

ولعل الصراع الذي يشهده إقليم التيجراي، وقارب الشهرين، يعد أهم تلك المتغيرات التي يشهدها الداخل الإثيوبي. ومع ارتباط ذلك الصراع بمتغيرات وتطورات في العملية السياسية والنظام الإثيوبي؛ غير أن انعكاساتها طالت محيطها الإقليمي، وبالأخص السودان، ذات الحدود المشتركة، والذي استضاف آلاف اللاجئين.

بيد أن ذلك التأثير لم يتوقف عند حدود استضافة اللاجئين، الذي مثّل ضغوطًا إضافية، في ظل ما يعانيه من ضغوط اقتصادية وتنموية وتحديات انتقالية. بل ضاعف من معامل التأثير الأمني على حدود السودان الشرقية؛ في ظل تحديات أمنية وتطورات سياسية متسارعة ومتزامنة مع ما يشهده الداخل الإثيوبي.

و تعاني الحدود السودانية حالة هشاشة؛ تسمح بانتشار السلاح والجريمة المنظمة، فضلًا عن تعديات الميليشيات الإثيوبية المتكرر هجماتها. يعد ذلك المحدد الأمني واحدًا ضمن محددات كثيرة يشهدها السودان بوجه عام وشرقه بوجه خاص؛ مع تصاعد وتيرة التجاذبات السياسية في إطار المرحلة الانتقالية، بما فرضته من قيود سياسية وأمنية؛ من بينها تصاعد مطالب الشرق؛ الذي يشهد نزاعات قبلية، واحتجاجات سياسية، على خلفية التحفظات على مسار الشرق بجوبا، التي يرى المنتمون لقبيلة البجا أنه لا يمثلهم.

وساهمت تلك الاحتجاجات والاعتصامات في بعض الأحيان في تهديدات للبنية التحتية السودانية، على غرار إغلاق وقطع الطرق الرابطة بين موانئ الشرق والطرق الرئيسية؛ مما عرقل حركة نقل المواد الغذائية. ومع بقاء المسافة الفاصلة بين ذلك الطريق وأقرب نقطة للصراع الجاري في التيجراي نحو 30 كيلومترًا فقط، فهناك مبرر لاستمرار حالة الترقب السودانية.

تلك التفاعلات الداخلية تطلبت استجابة سياسية وتنموية من الحكومة الانتقالية وأمنية من الجيش والمجلس العسكري، على نحوٍ يمكن معه اعتبار أن الكيفية التي سيستجيب بها القائمون على إدارة المرحلة ومدى رضاء المواطنين عنها تمثل حالة اختبار حاسم لإدارتهم للمرحلة الانتقالية، بعد عقود من المعاناة السياسية والتنموية والتهميش عانى منها كافة أجزاء السودان لا الشرق فحسب.

وبجانب تلك المطالب الفرعية لأهالي الشرق، فلا يزال إحكام القبضة الأمنية على حدود السودان، واستعادة مؤسساته الأمنية للثقة في حرفيتها ووطنيتها، مسألة قومية؛ وهو ما ترجمه رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، على هامش تعديات ميليشيا الشفتة الإثيوبية على المزارعين السودانيين، بأن الجيش السوداني مهمته الحفاظ على كل شبر في أراضيه، وذهب لما معناه أنّ زمن البشير ولّى؛ الذي سمح في كثير من الأحيان بذلك الوضع، في إطار صداقته مع قادة الجبهة الشعبية للتيجراي، فاكتفى بترضيات وتسويات مؤقتة، على حساب مصالح بلاده القومية.

غير أن مفردات اللحظة الثورية تقتضي تعاطيًا مغايرًا مع تلك الملفات القومية؛ بما يلبي التطلعات الثورية، ويقدم برهانًأ على تغيّر الولاءت لحساب وطنها، وهو الأمر الذي ترجم في آلية التعاطي مع ملف الحدود، و الذي انصرف أيضًا على كيفية التعاطي مع ملف سد النهضة من جانب السودان.

وعليه؛ تقتضي تلك السياقات والظروف والقائمين عليها، البحث في المحددات الحاكمة لها، بهدف الوقوف على مسارات تلك القضايا العالقة، ذلك على النحو التالي:

محددات ومسارات

اقتضت الحاجة بلورة موقف سوداني واضح إزاء قضايا متعددة ثنائية وإقليمية، وهو ما دفع بالزيارة العاجلة التي أجراها رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، الأحد 13 ديسمبر2020؛ لمناقشة عقد قمة “للإيجاد” لبحث تطورات الوضع الإقليمي، وتفعيل أعمال اللجنة الثنائية للحدود، إضافة إلى التفاوض بخصوص سد النهضة، وفق ما أوضحته تصريحاته في اجتماعه بمجلس الوزراء. وفي ضوء تلك المستجدات وعلى خلفية المحددات الحاكمة لطبيعة العلاقة بين الطرفين.

يمكن استشرف مسارات ومآلات أهم تلك الملفات، على النحو التالي:

الحدود

بعد عقود من تراجع حالة الأمن الحدودية في السودان؛ يسعى مسؤولو المرحلة الانتقالية إلى إحكام القبضة الأمنية وبسط الأمن على كافة أنحاء البلاد. فتزامنًا مع ما يشهده شرق السودان من ضغوط داخلية، واجه تعديات حدودية متكررة، من ميليشيا الشفتة على المزارعين والأراضي بمنطقة الفشقة بشرق السودان. وهي التعديات، التي اعتادت تلك الميليشيات القيام بها سنويًا في مواسم الزراعة، والتي في بعض الأحيان تتم بموافقة وتنسيق سكان السودان المحليين. وبخلاف تعامل الرؤساء السابقين مع القضية، بما فيهم البشير، جاءت التصريحات الرسمية السودانية تحمل قدرًا من توجيه الاتهام للجيش والسلطات الرسمية الإثيوبية. كما تمّ تحذير السكان المحليين من التعاون مع تلك العصابات والامتناع عن تأجير أراضيهم، فضلًا عن تعيين لجنة مشتركة لترسيم الحدود، والبحث في الآليات الدبلوماسية لحسم الأمر.

غير أنه لا توجد أية ملامح في الأفق على حسم الأمر بتلك السهولة؛ فقد تجددت الاشتباكات، عقب زيارة حمدوك، وهي التعديات التي تصاحب أو تلي أية لقاءات رسمية ودبلوماسية لبحث الموقف. ذلك في رسالة رادعة لأبي أحمد، من ميليشيا الشفتة القريبة من حكومة الأمهرا، لإثنائه عن التنازل عن الأراضي أو الضغط على تلك العصابات، رغم الاعتراف الرسمي بتبعيتها للسودان.

يأتي ذلك في ظل الدعم المقدم من الأمهرا لأبي أحمد، وفي ظل محورية الأرض في عقلية الأمهرا، التي تنظر إليها باعتبارها أرض الأجداد؛ فالنزاع على الأراضي الحدودية بينها وبين التيجراي أحد عوامل دعمها لأبي احمد.

هذا إلى جانب العلاقات الممتدة بين التيجراي وبعض قبائل شرق السودان ( قبيلة بني عامر) منذ عهد البشير؛ مما قد يمثل دافعًا من الأمهرا للضغط على السودان الفترة المقبلة لئلا يقدم  دعمًا للتيجراي. فضلًا عن تنسيق السكان المحليين أنفسهم مع تلك العصابات، في ظلّ شعورهم بالتهميش وضعف التنمية بالأطراف، مما يجعل بعضهم مناوئ لأية قرارات من الحكومة السودانية، مع إيجاد مصلحة لهم في تأجير أرضه لمزارع إثيوبي.

تدفع هذه العوامل مجتمعة إلى القول بأنه من غير المتوقع أن يقدم أبي أحمد في الوقت الراهن على أية فعل يغضب الامهرا، رغم تخوفات انحياز السودان للتيجراي. بل إنه من المتصور إذا أقدم على تلك الخطوة، أن تجهض الأمهرا تنفيذها، وتبقى حبيسة الاتفاقات، بالمثل كما فعل التيجراي مع مثلث بادمي واتفاق أبي مع أسياس أفورقي.

 يقترن بذلك تصاعد ردود الفعل الغاضبة من سكان الشرق على المسؤولين السودانيين، في الوقت الذي لن يجد فيه الجانب السوداني سوى مزيد من الضغط والتصعيد مع الجانب الإثيوبي؛ غير أنه قد يكون ضغطًا محسوبًا وإلا انجرّ في حرب إقليمية مفتوحة، مع إمكانية تقديم أبي وإريتريا دعمًا لقبائل البجا ومتمردي ولاية النيل الأزرق واستقلال ورقة التداخل القبلي.

غير أن هناك أحد الاعتبارات التي قد تدفع بالدخول في تلك المواجهة المفتوحة والغير محسوبة العواقب من قبل المؤسسة العسكرية في السودان، التي ترى أنها في موضع اختبار لإثبات مهنيتها ووطنيتها، وأيضًا لتقديم مبررلإعادة ترتيب المرحلة الانتقالية من جديد، مع تزايد الضغوط فيها من القوى المدنية على القوة العسكرية؛ انعكست في تبادل الاتهامات في أكثر من مناسبة بين البرهان وحمدوك، وتجلت أكثر ملامح الضغط على المكوّن العسكري، بقانون دعم الانتقال الديمقراطي الأمريكي، الذي يقضي على أي طموح للمؤسسة العسكرية السودانية، ويكبح طموح القائمين عليها الآن؛ مما يجعل من الدخول في حرب خارجية مبررًا لإجهاض أية ترتيبات سياسية ومستقبلية، لا تكون المؤسسة العسكرية طرفًا أصيلًا فيها، وإعادة توجيه كافة الجهود لصالح الدفاع عن الحدود.

إلا أن تلك التجاذبات الداخلية وسياسة الاستقطاب والمحاور الخارجية، قد تجرّ السودان إلى الوراء، في وقت يعمل على إعادة ترتيب البيت داخليًا ورسم ملامح تحركه خارجيًا، في ظل القاعدة الروسية الجديدة، والتطبيع مع إسرائيل وقانون الكونجرس، والعلاقات مع أبي أحمد وأسياس أفورقي، التي ربما تميل لترجيح كفة المدنيين في مواجهة العسكريين الذين قد يتلقون الدعم الروسي، في انقسام لن يدفع ثمنه سوى السودان.

ولعل مآلات الأمر أصبحت الآن رهن المواجهة  الحالية، بعدما أرسل الجيش تعزيزات عسكرية عقب المواجهات الأخيرة، وقد استطاع استعادة حوالي 70 % من الأراضي المتنازع عليها، وفق ما صرّح به وزير الإعلام السوداني فيصل محمد صالح لرويترز السبت 26 ديسمبر 2020. ويعد انجرار الجيش السوداني في مواجهة واسعة النطاق رهن إرادة الأطراف في خوض تلك المعركة، مع التصريحات القائلة بأن الجيش يواجه قوات نظامية على الحدود، فيما يعزز من سيناريو كبح تلك التوترات الرغبة المشتركة بين الجانبين في احتواء الموقف عبر الآليات الدبلوماسية، التي أكدتها تصريحات وزيري خارجية الطرفين وإسناد أبي أحمد الأزمة إلى العدو الخارجي الذي يؤجج الخلاف بين الطرفين، استغلالًا للظروف الراهنة.

الأمن الإقليمي

لا يمكن استثناء ملف صراع التيجراي وملف الحدود في الفشفة، مع التقاطعات الإقليمية بين كلٍ من إثيوبيا والسودان وإريتريا، واحتمالات الاستقطاب الإقليمي في الملفات ذات الاهتمام المشترك.

فعلى الرغم من الزيارة التي أجراها البرهان في الأول من نوفمبر، على خلفيتها تمّ اغلاق حدود كسلا والقضارف وتمشيط المنطقة؛ بما يضمن عدم وصول أيّ دعم لوجستي للتيجراي، إلا أن ذلك الموقف بات مرهونًا بقضايا عالقة أخرى كقضايا الحدود والتداخلات البينية بين القبائل الحدودية بين الدول الثلاث.

علاوة على الامتدادات الإقليمية الأخرى مع الصومال وكينيا وجيبوتي وتمركز القواعد العسكرية في دول عدة بالإقليم، واحتمالات تصاعد نشاط الجريمة المنظمة وتهريب السلاح وتصاعد نشاط داعش مع استمرار نشاط الشباب الصومالية.

على ضوء تلك القضايا الإقليمية المتشابكة؛ وفي سعي من حمدوك لقيادة دورًا لم يسطع غيره أو الاتحاد الإفريقي لعبه بحد تعبيره، وهو الدور الذي ربما رُسم له إقليمًا في إطار الدور المرسوم له داخليًا في مواجهة المكوّن العسكري، والذي اتضحت ملامح الدعم الأمريكي والغربي لهذا الدور في مواقف عدة؛ استطاع بالتنسيق مع أبي أحمد أن يعقد جلسة في إطار رئاسته الدورية- الدورة 38- للإيجاد، بجيبوتي، الأحد 20 ديسمبر2020.

وفي بحث مخرجات ذلك الحوار، والذي كان متوقعًا قبل عقده؛ لم يكن ذلك الحوار يبحث في صميم القضايا والتحديات الحقيقية والجذرية التي يشهدها الإقليم. وإنما يمكن اعتباره نوعًا من التنسيق الدبلوماسي المشترك بين قادة الإقليم، ودعم عملية إنفاذ القانون التي قامت بها قوات الدفاع الوطني الإثيوبي، والتأكيد على استمرار دعم قادة الإقليم له، وفي إطار رؤية دولية أشمل لكيفية إرساء الترتيبات الإقليمية بالمنطقة.

غير أن ذلك الحوار، لم يدفع إلى إجراء حوار وطني في الداخل الإثيوبي، يمثّل الحل المطلوب لما يشهده الداخل من انقسامات وتراجع الانتماء الوطني لصالح الانتماء الإثني الضيق. بلّ قدّم قادة الدول ترحيبًا لأبي أحمد على جهوده لحسم الخلاف، كانعكاس للدعم المقدم له إقليميًا ودوليًا. فالحوار الحقيقي يجب أن يتم بين القوميات الإثيوبي، الغير متصورأن يجرى من نافذة أو على طاولة الإيجاد.

أضف إلى ذلك، عدم ضمان قادة الإيجاد بدعم أبي أحمد، أن يتم احتواء المشهد الإقليمي، مع عدم امتلاكهم آليات كبح محركات وعوامل التصعيد. فلن يضمن حمدوك عدم انجرار بلاده لنزاع حدودي، مع بقاء المحرك الأول والشرارة الأولى في أيادِّ أصحاب مصلحة آخرين لدخول تلك الحرب، بما فيهم السكان المحليين. ولن يضمن أفورقي تحريك كافة جنوده لخوض تلك الحرب، مع التقارير الأخيرة، التي أفادت بامتناع بعض الجنود المنتمين لقبائل بني عامر، والذين رفضوا الاشتباك مع التيجراي، وعبروا لحدود السودان، في مواقع بني عامر بالشرق، وهي القبائل السودانية التي لها روابط جيدة بالتيجراي، منذ عهد البشير، ولها امتدادات في الداخل الإريتري.

وبالتالي، فإن الدور الذي وصفه حمدوك بأنه ردّ الجميل لأبي عمّا قام به من دور للوساطة بين قوى الحرية والتغيير والمؤسسة العسكرية، وأنه دور قيادي لم يقدر عليه أحد من قبله، لا يمكن رؤيته بعيدًا عن طموحات حمدوك، للعب دورً قياديً والبقاء ضمن ترتيبات الداخل في بلاده، وضمن الترتيبات الإقليمية، التي هي جزء من التصور الأمريكي والغربي لمستقبل المنطقة؛ بما يبرر الإحجام الدولي عن إدانة رجل السلام، والدعم الأمريكي لحمدوك في مواجهة المكوّن العسكري.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى