أوروبا

مشروع قانون “الأمن الشامل” بين غضب الشارع الفرنسي وتراجع الحكومة

تواجه فرنسا حالة من الغضب حول مشروع قانون “الأمن الشامل”؛ حيث تسعى الحكومة لتسوية الأزمة بعد خروج المظاهرات في العاصمة باريس وعدة مدن فرنسية منها ليون ونانت يوم السبت الموافق 28 نوفمبر احتجاجًا على بعض مواد القانون التي تتعلق بعمل رجال الشرطة، ويُنظر إليها على إنها تُقيد حرية الصحفيين في الكشف عن التجاوزات التي ترتكبها الشرطة أثناء تأدية عملها.

رفع المحتجون بعض الشعارات مثل “حرية مساواة صوروا”، “رجال الشرطة أكثر من الأطباء-شعور بالأولويات”، بالإضافة إلى تنامي حدة الاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين. وقد شارك في هذه المظاهرات بعض المنظمات غير الحكومية التي شجعت المواطنين على الخروج مثل مراسلون بلا حدود، ومنظمة العفو الدولية في فرنسا، ورابطة حقوق الإنسان، والنقابات العمالية التي تمثل الصحفيين. بجانب حضور أعضاء حركة جيليتس جونس “السترات الصفراء” المعارضة لسياسات الحكومة وفقًا لما ذكرته بعض التقارير. 

مشروع قانون “الأمن الشامل”

أُثيرت هذه الاحتجاجات حول مشروع قانون “الأمن الشامل” الذي يتضمن ما يقرب من 1450تعديلًا تم قبول 187 منها فقط، بعضها مُتعلق بعمل الشرطة وسبل حمايتهم؛ حيث نصت المادة 32 منه على مضاعفة مهام شرطة البلدية، وإنشاء شرطة البلدية في العاصمة ورفع مستوى الإشراف الأمني الخاص، وإنشاء إطار قانوني لاستعانة الشرطة بالطائرات بدون طيار من أجل المراقبة. 

بجانب المادة 24 التي ساهمت في احتدام حالة التوتر التي تنص على منع تصوير أو نشر صور لعناصر من قوات الشرطة أو الدرك لتجنب تعرضها للخطر النفسي والجسدي، وحددت العقوبة بالسجن لمدة سنة ودفع غرامة قدرها 45 ألف يورو لمن ينشر صور لعناصر من الشرطة والدرك بدافع “سوء النية”، وهو ما لا يتوافق مع قانون حرية الصحافة الذي تم إقراره في 29 يوليو 1881. وقد تم الموافقة على قراءة أولية لمشروع القانون من قبل الجمعية الوطنية يوم 24 نوفمبر تمهيدًا لإحالته لمجلس الشيوخ.

 وفقًا لرؤية المعارضين يشمل مشروع القانون المادة 24 التي تؤثر بشكل سلبي على حرية التعبير والصحافة والإعلام والاستعلام أي الحريات العامة الأساسية للجمهورية. في المقابل بررت الحكومة أن الهدف من هذه المادة هو حماية قوات الأمن من حملات الكراهية والعنف التي يتعرضون لها أثناء عملهم، كما إنها لا تهدف إلى دعم المتجاوزين. 

أما نقابة الصحفيين فقد هاجمت المادة لكونها محاولة لما أسمته تقويضًا للإعلام، وانتقدت الجمعيات التي ترفض ضد عنف الشرطة المادة لأنها ترى أن هذه الطريقة للحد من نشر صور كانت عادة ما تستخدم دليلًا على عنف الشرطة وتجاوزاتها، ونددت زعيمة اليمين المتطرف “ماري لوبان” الأوضاع الراهنة ووصفتها بـ “بالفوضى المتكررة”، أما الحكومة فإنها فوصفتها بأنها “فقدت السيطرة” لكونها “متهاونة” مع ناشطي اليسار المتطرف. أما القوى اليسارية فقدت انتقد حزب الخضر والاشتراكي واليسار المتطرف مشروع القانون وطالبوا بسحبه. كما علقت المفوضية الأوروبية قائلةً: “يجب أن يكون الصحافيون قادرين على عملهم بحرية وبأمان تمامًا”.

المناورة الحكومية لاحتواء الأزمة

أجبرت الأزمة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” للتدخل المباشر بعد تنامي الاشتباكات بين عناصر الأمن والمتظاهرين، عبر عقد اجتماع يوم الإثنين الموافق 30 نوفمبر بقصر الإليزيه مع رئيس الوزراء “جان كاستيكس” وبحضور مجموعة من الوزراء: “جيرالد دارمانان” (الداخلية)، و”إريك دوبون موريتي” (العدل)، و”روزلين باشلو” (الثقافة)، وبعض المسئولين ورساء كتل نيابية لبحث تسوية الأزمة بشكل سريع، والتأكيد على الثقة المتبادلة بين الفرنسيين والشرطة التي تقوم بحمايتهم. 

كما دافع وزير الداخلية أمام لجنة القوانين التابعة للجمعية الوطنية في نفس اليوم -30 نوفمبر- عن الشرطة وأوضح الأسباب الهيكلية والتحديات التي تواجههم أثناء تأدية عملهم مثل قلة التدريب المقدم لهم، علاوة على نقص المواد المتاحة لهم، معلنًا عن رغبته في تزويد جميع وكالات إنفاذ القانون بكاميرات للمشاة بحلول 1 يوليو 2021. 

ولاحتواء المشهد أعلنت الأغلبية البرلمانية بعد الاجتماع مع الرئيس الفرنسي أنها ستعيد صياغة المادة 24 في مسودة القانون، وهو ما صادق عليه رئيس الفرنسي من أجل التوضيح والطمأنينة، لأنه يرغب في إيجاد صيغة أكثر ملاءمة مع الحفاظ على الهدف المزدوج المتمثل في حماية الشرطة وضمان حرية الصحافة، وذلك وفقًا لما أوضحه الإليزيه. كما أكد وزير الداخلية في شهادته أمام النواب إنه “لا طلاق بين الشرطة والشعب”، واستكمل “علينا الآن إن نسعى لتفسير الصعوبات التي يواجهها الشرطيون، وأيضًا كيف يرغب الشعب اليوم أن تمارس قوات الشرطة مهامها”. 

وقد سبق ذلك أن أعلن رئيس الوزراء تشكيل “لجنة مستقلة مسئولة عن اقتراح صياغة جديدة للمادة 24” هو الاقتراح الذي قبولا بالرفض وساهم في تعقيد المشهد بين مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية؛ إذ اتخذ رئيسا المجلسين، “ريتشارد فيران” عن الجمعية الوطنية و”جيرار لارتشر” عن مجلس الشيوخ، موقفا رافضًا ضد هذه اللجنة، كما أشار “فيران” في رسالة أرسلها إلى “كاستكس” قائلاً: إن الحكومة يمكن أن تستشير لجان الخبراء كما تشاء. ومع ذلك، فقد اتفقنا على أن هذه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحل محل العمل البرلماني. وبشكل أكثر مباشرة، طلب “لاريشر” من رئيس الوزراء سحب هذه اللجنة. وشدد على أن ذلك “يتعارض مع الأداء الطبيعي لمؤسساتنا ويتعارض بشكل كامل مع حقوق البرلمان”. 

صدامات مُتتالية

تأتي المظاهرات في سياق حالة من الاستنكار والتنديد لقوات الشرطة على خلفية وقوع بعض أحداث العنف التي تمثلت في حادثة اعتداء الشرطة بالضرب على المنتج الموسيقي من أصول أفريقية “ميشال زيكلير” عند مدخل الاستوديو الخاص به في الدائرة 17 في باريس يوم 21 نوفمبر، بعد أن تم تداول مقطع فيديو نشره موقع “لوبسايدر”، يظهر فيه ثلاثة عناصر من الشرطة يعتدون بالضرب عليه. وقد أوضح “زيكلير” إبان تقدمه لشكوى إلى المقر الرئيسي للمفتش العام للشرطة الوطنية إنهم قالوا له عدة مرات بأنه “زنجي قذر وهم يوجهون له الضربات”، وهو ما رفضه “ماكرون” ووصفه بـ”الاعتداء غير المقبول”، و”الصورة المخزية” داعيًا في بيان نشر على مواقع التواصل الاجتماعي إنه “لا ينبغي على فرنسا السماح بإذكاء الكراهية والعنصرية”، ومطالبًا بـ”شرطة نموذجية مع الفرنسيين”، ولكن أيضًا بـ”فرنسيين نموذجيين مع قوات حفظ النظام”. فضلاً عن دعوة وزير الداخلية لمعاقبة الذين تورطوا في هذا الحادث. 

وقد جاءت حادثة الاعتداء بعد أيام من تفكيك مخيم للاجئين في باريس؛ إذ تم تداول صور وتسجيلات فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر رجال الشرطة يضربون المتظاهرين أثناء إزالة خيامهم، يوم الاثنين 23 نوفمبر. وصف “دارمانان” الصور بأنها “صادمة”، وصرح يوم 25 نوفمبر لتليفزيون فرنسا -2 إن “أفراد الشرطة الذين تصرفوا بشكل غير مقبول أثناء العملية سيعاقبون”، لكنه أضاف “أؤكد من جديد ثقتي في قائد الشرطة (ديدييه لالمان)، ولن ألوم كل رجال الشرطة أو قائد الشرطة على أفعال قلة منهم”. 

ختامًا: لم تكن هذه الاحتجاجات جديدة على الشارع الفرنسي الذي يشهد حالة من التوتر نتيجة عدم توافقه مع أداء وسياسات الحكومة التي تتبناها منذ تولي الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في مايو 2017؛ حيث انتهج سياسات إصلاحية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لتعزيز مكانة الجمهورية على الصعيد الداخلي والخارجي.

 ولكن هذه السياسات قوبلت بحالة من الرفض في بعض الأحيان لأنها أثرت بشكل كبير على الأوضاع الداخلية. ونتيجة تمسك الحكومة بالمرونة والتعاطي الحذر مع المشهد الداخلي فقد تراجعت عن بعض هذه السياسات وأصرت على تنفيذ البعض الأخر لكونها ضرورة مُلحة وحفاظًا عن مصالح الجمهورية. لذا فمن المتوقع أن يستمر في هذا النهج تجنبًا لإثارة حالة الفوضى التي قد تحفزها قوى اليمين المتطرف المناهضة للحكومة الفرنسية.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

آية عبد العزيز

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى