
الأدوات الناعمة للتدخل التركي في مناطق الصراع
كتبت: آية حجازي
خلال العقدين المنصرمين من القرن الحادي والعشرين دأبت تركيا على التوغل في مجال المساعدات الإنمائية الرسمية في مناطق مختلفة من العالم، لتتصدر بذلك الدول المانحة للمساعدات الإنسانية وفقًا لتقرير المساعدة الإنسانية العالمية 2018.
نبذة تاريخية عن المساعدات الإنمائية الرسمية في السياسة الخارجية التركية
بالرجوع إلى تاريخ التوجهات الإنمائية للدولة التركية، نجد أن الانفتاح التركي على العالم في إطار تقديم المساعدات الإنسانية وإقامة المشروعات التنموية في المناطق المنكوبة في أرجاء العالم المختلفة بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي، ولكن على نطاق أصغر.
وبانتهاء الحرب الباردة أنشأت الحكومة التركية “الوكالة التركية للتعاون والتنسيق” (تيكا) في 1992 التي أرادت بها استهداف بلدان الاتحاد السوفيتي السابق في المقام الأول، وذلك بدعوى الأخوة التي تربط تركيا (الأخ الأكبر) بالدول التركمانية في آسيا الوسطى. لاقت هذه الخطوة ترحيبًا من الدول الغربية التي رأت في الوجود التركي في آسيا الوسطى انتشالًا لدول المنطقة (التي تشهد مرحلة انتقالية) من الإرث السوفيتي من خلال تصدير “النموذج التركي” وأدواته الصلبة السياسية العلمانية والاقتصادية الليبرالية. غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل وأثبتت التجربة أن الأدوات الصلبة لن تحقق الغاية المنشودة. في المقابل رأى الجانب التركي فاعلية الأدوات الناعمة من مساعدات إنسانية وإنمائية في الترويج للنموذج التركي معتمد في ذلك على الروابط اللغوية والثقافية.
تزامن هذا التحول في استخدام أدوات السياسية الخارجية التركية مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في ٢٠٠٢، وحديث وزير الخارجية آنذاك “أحمد داوود أغلو” عن سياسة “العمق الاستراتيجي” التي تقدم طرحًا جديدًا للدبلوماسية التركية يقوم على تقديم تركيا كقوة صاعدة، ذات تمدد ثقافي تاريخي، في نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، معتمد في ذلك على الأدوات الناعمة.
كان لهذا التحول في الاستراتيجية الدبلوماسية التركية تأثير كبير على انتشار المساعدات التركية في مناطق واسعة من العالم خاصة المناطق المنكوبة ومناطق الصراع في محاولة لتصدير صورة الدولة التركية التي تآزر إخوانها في جميع أنحاء العالم. جاء ذلك من خلال إعلان عام 2005 “عام القارة الإفريقية”، في سابقة تركية تجاه القارة السمراء تزامنًا مع التشاؤم الدولي تجاه أفريقيا في بداية الألفية الثالثة والحديث عن استحالة إيجاد حلول لمشكلات القارة. أضف إلى ذلك التوسع في جنوب آسيا (إندونيسيا) وأمريكا اللاتينية.
وارتكزت تركيا في هذه السياسة التوسعية الناعمة على ثلاثة عوامل هي
- استخدام الروابط الثقافية، اللغوية، والدينية -بالأخص- للتقارب مع الدول المعنية.
- سرعة الاستجابة والظهور بمظهر قوات الحماية المدنية الحاضرة للمناطق المتضررة في العالم أجمع.
- استخدام سياسية “تسليم نقطة الصفر” كنموذج تركي للمساعدات الإنسانية يتميز بتفادي الأخطاء الشائعة في مجالات التنمية من هدر للموارد الموجهة للمناطق المعنية، وبالتالي تصدير انطباع المعرفة الجيدة للفاعلين على أرض الواقع في مناطق الصراع والاختيار السليم لجهات التعاون المحلية كميزة نسبية للمساعدات التركية عن غيرها من المساعدات الدولية.
آخر إحصاءات المساعدات الإنمائية التركية
يتلخص حجم المساعدات الإنمائية الرسمية التركية فيما يلي:
في عام 2015، بلغ صافي المساعدة الإنمائية الرسمية لتركيا 3.9 مليار دولار أمريكي، أي بزيادة قدرها 26٪ بالقيمة الحقيقية مقارنة بعام 2014. وبلغ حجم المساعدات الإنمائية التركية في نفس العام 0.5% من العائد المحلي التركي بحيث يتم إنفاق 98% في إطار المساعدات الثنائية.
تحتل الدول المصنفة من ضمن الشرائح الوسطى/الدنيا والأقل تقدمًا من حيث النشاط الاقتصادي أولويات المساعدات التركية وتستقطب 2859.1 و456.2 مليون دولار أمريكي على التوالي، أي ما يقرب من 84% من إجمالي المساعدات.
في نفس السياق تأتي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على رأس قائمة المساعدات الإنمائية التركية بواقع 2993.6 مليون دولار أمريكي تليها منطقة الساحل الأفريقية بواقع 395.8 مليون دولار، وذلك بالتوازي مع تصدر سوريا والصومال وأفغانستان قائمة أهم الدول المستفيدة من المساعدات التركية.
أهم الأدوات الناعمة للدبلوماسية التركية
بشكل عام، ينقسم ما يعرف – دوليا – بـ”المساعدات الإنمائية الرسمية” التركية إلى ثلاث مصادر؛ المنظمات الحكومية، الهلال الأحمر التركي، ومنظمات المجتمع المدني. سنعرض في هذه الورقة الأدوات الحكومية التركية في مجال المساعدات الإنمائية. من الجدير بالذكر أن المساعدات الإنسانية تختلف عن المساعدات الإنمائية، حيث تأتي المساعدات الإنسانية في معظم الوقت استجابةً لكوارث إنسانية أو طبيعية وعليه يتحتم ضخها في المناطق المنكوبة بشكل سريع، أما الإنمائية منها فتكون بغرض التنمية والإعمار وبالتالي يتم التخطيط لها على المدى المتوسط/البعيد.
بالنسبة للنموذج التركي، يختلط ما هو إنمائي مع ما هو إنساني. رسميًا تقع مسؤولية المساعدة الإنسانية في الحكومة التركية على عاتق وزارة الخارجية (MFA) و”رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ برئاسة الوزراء (AFAD)، إلا أن “الوكالة التركية للتعاون الدولي والتنمية (TIKA) تنفذ هي الأخرى مشاريع إنسانية، رغم أن مهمتها الأساسية هي المساعدة الإنمائية. الأمر الذي يفسر اللغط السائد حول الأدوار المميزة لـ TIKA وAFAD بين المراقبين الدوليين، حيث تقوم الحكومة التركية أحيانًا بتجميع القضايا الإنسانية والتنموية معًا في البيانات العامة. ومع ذلك، فإن وكالة تيكا تركز بشكل واضح على العمل التنموي، وإدارة الكوارث والطوارئ هي المؤسسة المسؤولة عن المساعدة الإنسانية.
تهتم وزارة الخارجية بالجوانب السياسية للمساعدات الإنسانية الواردة والصادرة، مثل قرارات التمويل أو التنسيق السياسي مع الحكومات المتضررة والحكومات المانحة الأخرى والمنظمات الدولية. تقوم هذه الدائرة بتفويض المساعدة الإنسانية الخارجية ليتم تنفيذها مباشرة من قبل الوزارات الحكومية (الزراعة ، الصحة ، الأشغال العامة ، إلخ) والهلال الأحمر التركي. على أن تقدم السفارات التركية، توصيات بشأن أين ومتى وكيف يجب أن تتحرك الدولة. أما “إدارة الكوارث والطوارئ” فتهتم بشكل أساسي بالاستجابة الداخلية للكوارث الطبيعية، ولكن مع مرور الوقت، أسندت إليها مهمة تنسيق المساعدات الإنسانية الخارجية على المستوى التشغيلي مع مختلف الأطراف الحكومية وغير الحكومية.
تجلى الدور القيادي لـ AFADمن حيث تنسيق المساعدات الإنسانية التركية بين مختلف الجهات في كل من سوريا واليمن:
سوريا:
استطاعت AFAD لفت أنظار العالم في تعاملها مع أزمة اللاجئين السوريين منذ بداية الأزمة السورية. حيث نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالاً في 2014 بعنوان “كيف تقوم ببناء مخيم اللاجئين المثالي”، تتحدث فيه عن تفوق تركيا (من خلال AFAD) في إنشاء مخيم “كيليس” للاجئين السوريين الذي غيرت فيه النمط التقليدي لمخيمات اللاجئين، وقدمت فيه نموذجًا أكثر تقدمًا استقبلت فيه ما يقرب من 14000 لاجئ سوري. ولم يكن مخيم “كيليس” هو الوحيد من نوعه، حيث قدمت AFAD ستة مخيمات مماثلة نقلت إليهم اللاجئين السوريين بعد استضافتهم ما يقرب من عام في مخيمات تقليدية أقيمت بشكل طارئ لاستيعاب الموقف آنذاك.
وظهر الجانب التنسيقي لـAFAD هنا من خلال بروتوكولات تعاون بينها وبين الهلال الأحمر التركي والهلال الأحمر القطري بالاشتراك مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والتي هدفت لتسهيل وصول مساعدات قطرية بقيمة 10 مليون دولار إلى 400 ألف لاجئ سوري في تركيا في 2014.
اليمن:
في نفس السياق، أنفقت إدارة الكوارث والطوارئ أكثر من 8،000،000 دولار فقط لجهود الإغاثة الإنسانية لليمن منذ 2013. كذلك قامت بتنسيق جهود الإغاثة في اليمن بالتعاون مع شركائها التقليديين (منظمات حكومية وغير حكومية) على رأسها الهلال الأحمر التركي، ووكالة التعاون والتنسيق التركية –TIKA- ومؤسسةTurkiye Diyanet (وهي مؤسسة تعتمد على الوقف في إيراداتها). بالإضافة إلى العديد من المنظمات غير الحكومية التركية الأخرى ومنها، هيئة الإغاثة التركية IHH (يترأسها Fehmi Yıldırım) والتي تقوم أيضًا على نظام الوقف الديني، وجمعية الحق للإغاثة الإنسانية ويترأسها (Ali Go).



