
د. محمد حسين أبو الحسن يكتب: إثيوبيا.. ومبدأ مورفي!
إدوارد مورفي مهندس طيران أمريكي، عنّف بشدة أحد الفنيين, عندما أخطأ في توصيلة كهربائية، صائحا: لو هناك احتمال لحدوث خطأ ما فسوف يحدث, بمعنى أن أي شيء يمكن أن ينجم عنه خطر، فلابد من التعامل مع الخطر باعتباره حدث بالفعل. ترددت مقولة مورفي بين منفذي مشروع لوكالة ناسا الأمريكية، وعندما سئل المسئولون عن سر نجاح المشروع، قالوا إنه قانون أو مبدأ مورفي, لأنه رفع معدلات السلامة؛ بسد منافذ سوء التقدير. يرى مورفي أن الأمور إذا تركت في مجراها دون حذر تنتقل من سيئ لأسوأ؛ ودون سد منافذ الخطر قد يكون الضوء في نهاية النفق مجرد قطار قادم!.
تذكرت مبدأ مورفي وأنا أتابع البيانات الإثيوبية المتعنتة حول أزمة سد النهضة، آخرها ما أورده المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية عن أن بلاده لا يمكنها توقيع اتفاق يشترط تمرير حصص محددة للمياه من السد لدولتي المصب، في خطوة جديدة تشطب الاتفاقيات السابقة، وتعرقل التوصل لاتفاق عادل ملزم، مع استمرار الدوران في حلقة المفاوضات العبثية، وصولا إلى حالة الجمود التي تشبه سلوك إسرائيل عبر حالة اللاسلم واللاحرب قبيل أكتوبر 73، تنصلت إثيوبيا من تعهداتها أمام العالم والقمة المصغرة للاتحاد الإفريقي بألا تتخذ خطوة أحادية، لكنها قامت بملء المرحلة الأولي من بحيرة السد، في تمثيلية هزلية، ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي والاتفاقيات منذ 1902، حتى إعلان المبادئ 2015، كل ذلك دفع القاهرة والخرطوم لتعليق المفاوضات التي يرعاها الاتحاد الإفريقي، والذي لم يبد رد فعل ملموسا، وكأنه شاهد زور، يتيح لإثيوبيا فسحة من الوقت لاستكمال مخططاتها.
منذ البداية، تفهمت مصر الاحتياجات التنموية لإثيوبيا، وانخرطت في مفاوضات ماراثونية طوال 10 سنوات، بحسن نية، ولأن السلوك الإثيوبي ينبع من سوء النية والرغبة بالابتزاز والتحكم الكامل في النيل الأزرق، كان واضحا أنه يسير بالاتجاه الخاطئ, وفقا لقانون مورفي, وأن نبل الموقف المصري لم يكبح الضمير الإثيوبي الغائب عن تهديد الأمن المائي للسودان ومصر، بل تهديد وجود الشعبين على نحو يستحيل احتمال تداعياته الخطيرة على السلم الإقليمي والعالمي، إذ تعتبر أديس أبابا النهر بحيرة إثيوبية، تفعل ما تشاء دون إخطار دولتي المصب أو مراعاة شواغلهما وحقوقهما المكتسبة؛ متكئة لمبدأ هارمون الذي يطلق يد دولة المنبع في مياه النهر، دون اعتداد بحقوق الدول المتُشاطئة.
الأمر إذن أبعد بكثير من التنمية، اعترف وزير الخارجية الإثيوبي الأسبوع الماضي بأن سد النهضة غيّر التاريخ والجغرافيا السياسية للمنطقة, أي أنه بات أداة بيد إثيوبيا لقلب الموازين وإعادة تشكيل التوازنات الجيو- استراتيجية للإقليم، تلك هي لحظة الحقيقة في المشهد، والسبب وراء إفشال المفاوضات والدوران في الحلقة المفرغة.
أصبحت مصر والسودان أمام واقع لا يمكن الرضوخ له، ولا مفر من استبداله بواقع مغاير، يضمن السلام والتنمية للجميع وإلا فلا؛ خاصة قبل أن تمتلئ بحيرة السد، وتصل إلى النقطة الحرجة أو اللاعودة. ومع خجل الاتحاد الإفريقي إزاء المراوغات الإثيوبية، تصبح مواصلة النهج ذاته بلا معنى، خصوصا مع الصحوة السودانية المتأخرة، من أجل ذلك تمثل العودة إلى مجلس الأمن الدولي (فريضة واجبة)، لكن هذه المرة ليس تحت الفصل السادس، إنما السابع، لاسيما المادتين 41 و42، إن مساعي إثيوبيا لتحويل النيل بحيرة داخلية جريمة ضد الإنسانية تهدد السلم الدولي، قد تقضي على حياة 30 مليون مصري بموجتها الأولي.
صحيح أن جرجرة إثيوبيا إلى حياض مجلس الأمن، تحت البند السابع، ليست سهلة، لكن وزير الخارجية سامح شكري كان موفقا عندما قال، أمام المجلس من قبل، إن البقاء ليس خيارا.. إذ يمكن للمجلس أن يطلب وقف ملء السد لحين الاتفاق، أو أن يحيل الأمر لمحكمة العدل الدولية؛ فالوقت ينفد والإثيوبيون يرفضون التدويل, لأنه يفضح مغالطاتهم ويصفع العالم بسؤال مرعب: هل يكون السد الحبشي سابقة لتشجيع دول أخرى لانتهاك القانون الدولي؟ ففي العالم 263 نهرا دوليا. إن لجوء مصر للفصل السابع يجعلها في حل بعد ذلك من أي لوم، لو اتخذت أي خطوة للدفاع عن حياة أبنائها الذين تريد إثيوبيا قتلهم عطشا أو غرقا- لو انهار السد- أدمنت إثيوبيا الأكاذيب والألاعيب؛ ومن ثمّ فالاعتصام بمبدأ مورفي يرفع معدلات السلامة في قلب الخطر، وبالطبع لا يغيب ذلك عن فطنة القيادة السياسية.
نقلا عن صحيفة “الأهرام”