
تهديدات بلا أعداء.. التغيرات المناخية والأوبئة أكثر حدة من الصراعات
يواجه العالم تهديدات مخيفة في العقود الأخيرة، سواء بفعل الطبيعة أو بتدخل منه شخصيًا لزيادة تأثيرها بجهل منه لخطورة تلك التهديدات، فالتغيرات المناخية وانتشار الأوبئة على سبيل المثال من أعنف وأخطر التهديدات التي لا يقتصر حدوثها على بلد معين أو منطقة بعينها، ولكنها تؤثر وبقسوة على دول العالم بأسرها النامية منها والمتقدمة على حد سواء، ربما ليس بنفس الحدة والتأثير، ولكن الأكيد أن تبعاتها ستكلف العالم الكثير.
يشير علماء المناخ إلى أن التغيرات التي يشهدها كوكب الأرض أصبحت تحدث بمعدلات أسرع، وبأنماط أكثر حدة، لا يمكن تفسيرها بأنها دورات طبيعية للأرض، وأصبح جليًا الآن أن الآثار الضارة لتغير المناخ سيتأثر بها جميع سكان كوكب الأرض دون استثناء، غير أنها ستزدادُ سوءًا، وأشارت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في عام 2018 إلى أن الأنشطة البشرية كانت مسؤولة عن زيادة متوسط درجة الحرارة ما بين 0.8 و1.2 درجة مئوية بسبب ظاهرة الاحترار العالمي، وإذا استمر متوسط درجة الحرارة العالمية في الارتفاع بأكثر من درجتين مئويتين فسوف تنتج عواقب اجتماعية واقتصادية وبيئية كبيرة، فكل نصف درجة من الاحتباس الحراري للأرض لها أهميتها، فمن المرجح جدًّا أن موجات ارتفاع الحرارة سوف تحدث على نحوٍ أكثر تكرّرًا وستستمر لفترات أطول، وتصبح وقائع هطول الأمطار الغزيرة أكثر شدة وتواترًا في الكثير من الأنحاء، كما ستظل المحيطات تزداد حرارةً وحموضة مما يؤثر وبشدة على الحياة البحرية، وسيستمر مستوى البحر العالمي الوسطي بالارتفاع، وكل هذا سيكون له تأثيرٌ مدمّرٌ بدأ بالفعل على حياه البشر، وبالتالي تشكل تهديدًا للأمن العالمي بأسره لا لدولة بعينها.
ثم ما لبث أن واجه العالم تهديدًا آخر على مدار القرن الماضي، لا تقل أهميته عن التغيرات المناخية والأعمال الإرهابية وغيرها من التحديات التي تواجه العالم، وهو انتشار الأوبئة والفيروسات القاتلة، التي تواجه حياة البشر مباشرة، وتؤثر عليها تأثيرًا مباشرًا، فقد ظهر في العقود الماضية ما يفوق 1400 وباء راح ضحيتها ملايين من البشر في أكثر من 170 دولة حول العالم، وأثرت بشدة على اقتصادات تلك الدول، ومازال تأثيرها مستمرًا حتى الآن.
أثر التغيرات المناخية على الامن العالمي
أشارت “اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ” الي أن البلدان الأكثر عرضة للآثار الضارة لتغير المناخ حسب الاتفاقية هي البلدان الجزرية الصغيرة والدول الساحلية ذات المناطق المنخفضة، والمناطق الجافة وشبه الجافة، أو المناطق المعرضة للتصحر والجفاف والفيضانات، بالإضافة إلى البلدان النامية التي تتميز بهشاشة في نظمها الإيكولوجية والجبلية، وعلي الرغم من ذلك فالأثار الناتجة عن هذه التغيرات تؤثر على كافة دول العالم، وقد قدّم فريق دولي من العلماء خريطة للأماكن التي من المتوقع أن تشهد الآثار النَّاجمة عن تغير المناخ بسرعة ووضوح أكثر، وذلك باستخدام مقياس جديد يُسمّى مؤشّر حساسية الغطاء النباتي “The Vegetation Sensitivity Index”
شكل (1) خريطة توضح أكثر الأماكن المعرضة لخطر التغيرات المناخية
تظهر المناطق الأقل تأثرًا بتغيّر المناخ باللون الأخضر -أي أنها الأكثر قدرة على التكيف مع التغيرات- أما المناطق الملونة بالأحمر فهي الأكثر حساسية وعرضه لتغيرات المناخ، وقد تضررت بشدّة بسبب أنماط الطّقس المتغيرة، منها على سبيل المثال النّصف الشمالي من قارة أمريكا الجنوبية والمنطقة الإسكندنافيّة من أوروبا، ومناطق مثل أمريكا الوسطى وإفريقيا والهند والمنطقة العربية.
خلال العقود الماضية ظهرت أكثر من ظاهرة للتغيرات المناخية كان لها تأثيرات على البشر منها على سبيل المثال نقص أو تدني نوعية المياه أو نوعية الهواء أو توافر الغذاء وجودته أو زعزعة استقرار النظام الطبيعي، كما قد يكون التأثير غير المباشر بسبب الحشرات أو أي نوع من نواقل الأمراض المختلفة، إذ إنها تقوم بنقل الأمراض المعدية من منطقة إلى أخرى، وربما تكون هذه التأثيرات شديدة على النظم البيئية مثل الجفاف والتصحر وارتفاع مستوي سطح البحر وذوبان الجليد أو هجرة وانقراض بعض الحيوانات، أو التأثيرات الأكثر خطورة مثل اتساع ثقب الأوزون وارتفاع معدلات غازات الاحتباس الحراري وتلوث الهواء.
أزمات على وشك الحدوث
أصبحت قضية تغير المناخ أكثر إلحاحًا خاصة مع الاقتصادات الكبرى ال 17 التي تنتج وحدها أكثر من 80 % من غازات الاحتباس الحراري وثاني أكسيد الكربون المسبب الرئيسي في التغيرات المناخية متوقعة الحدوث، والتي بالطبع ستؤثر على الدول النامية أيضًا، وتؤكد تقارير البنك الدولي أنه إذا ارتفعت حرارة العالم درجتين مئويتين فقط، وهذا متوقع في العقود الثلاث المقبلة، فقد نشهد نقصًا في الأغذية على نطاق واسع، وموجات حرارة غير مسبوقة، وعواصف أكثر شدة. أما الوجه الأكثر قسوة للتغيرات المناخية انعكاساتها السلبية على المصالح الاقتصادية، والخلل الخطير في توزيع الموارد داخل الدول وفيما بينها.
ومن المؤسف أن تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاقية المناخ عام 2017 وهي الأكثر تسببًا وضررًا في التغيرات المناخية على حد سواء، فقد واجهت في 2012 اضطرابات جوية قاسية، مثل إعصار ساندي، وموجات جفاف، وفيضانات، وحرائق غابات كلفت الاقتصاد الأمريكي نحو 100 بليون دولار، فضلًا عن الخسائر البشرية.
ويتوقع الخبراء مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة والظواهر المتطرفة للمناخ أن يضعف التغير المناخي النشاط الاقتصادي العالمي نتيجة الأضرار المترتبة على قطاعات اقتصادية حيوية مثل الجفاف والزراعة، والأضرار في الممتلكات والبنى التحتية، وارتفاع تكاليف التأمين، وضعف الإنتاجية، والتهجير، وكذلك التأثيرات السلبية على صناعة السياحة، وهي أحد أهم مصادر الدخل لعدد كبير من الدول، إذ يقدَّر صندوق النقد الدولي أن مقابل ارتفاع درجة حرارة الأرض 3 درجات مئوية ينخفض معدل الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 2% على الأقل.
الاوبئة تهديد أشد خطرًا على العالم
بينما يسعى الإنسان لمواجهة أخطار الطبيعة، تظهر عداءات أخرى على الإنسان التصدي لها، ففي حين أن التطورات العلمية والتكنولوجية توفر أدوات جديدة للنهوض بالصحة العامة، إلا أن العالم مازال اكثر عرضة لانتشار الاوبئة والفيروسات القاتلة، فرصدت منظمة الصحة العالمية خلال الفترة ما بين عامي 2011 و2018 فقط مالا يقل عن 1483 حالة تفشي أوبئة في 172 دولة، بما في ذلك فيروسات الإنفلونزا و الإيبولا والزيكا، والحمي الصفراء، وأخيرًا الفيروسات التاجية التي تعرف بـ”كورونا ” والتي تعد من أخطر الأمراض والتي ظهرت مجددًا أوائل عام 2020 واجتاحت العالم واعلنت منظمة الصحة العالمية تفاقمها إلى “جائحة” في العالم؛ و ذلك بسبب انتشارها السريع وصعوبة السيطرة عليها، فقد وصل عدد الإصابات بفيروس كورونا المستجد الي 14 مليون إصابة وأكثر من 600 ألف حالة وفاة حتي الأن.
وليست الخسائر فقط في الأرواح التي تقدر بالملايين من البشر، فتتسبب الأوبئة أيضًا في إحداث خسائر اقتصادية ضخمة، فوفقًا لتقديرات البنك الدولي إن التكاليف الناتجة عن الخسائر الاقتصادية التي حدثت بعد تفشي وباء سارس في الصين (المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة) تزيد عن 40 مليار دولار، فيما خسرت دول غرب أفريقيا (غينيا وليبيريا وسيراليون) ما يقدر بنحو 2.8 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2015 خلال ظهور فيروس إيبولا، وتوقع البنك الدولي للإنشاء و التعمير في عام 2018، أن الخسائر الاقتصادية السنوية للأوبئة قد تتسبب في خفض إجمالي الناتج المحلي لجنوب آسيا بنسبة 2٪ (53 مليار دولار أمريكي)، وكذلك خفض الناتج المحلي الإجمالي لدول جنوب الصحراء الكبرى بإفريقيا بنسبة 1.7٪ (28 مليار دولار أمريكي).
شكل (2) الظهور العالمي المتزايد لمسببات الأمراض على مدار الخمسين عامًا الماضية بما في ذلك الأوبئة التي تتفشى بشكل طبيعي
وكان العالم يعتقد سابقًا أن الضربة الأقوى للأوبئة دائمًا ما تتجه نحو الدول الأكثر فقرًا، وذلك لأنها لا تمتلك الرعاية الصحية الأساسية أو البنية التحتية الصحية الكافية، أو حتى آليات فعالة لمكافحة العدوى، وبالتالي تتعرض لأكبر الخسائر البشرية في حال تفشي الأوبئة، ولكن مع تفشي فيروس كورونا المستجد سقطت هذه النظرية مثلما سقطت معها سيطرة دول متقدمة مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وحتي الولايات المتحدة الأمريكية على انتشار هذا الفيروس القاتل الذي أصاب خلال بضعة أشهر فقط العالم كله بحالة من الذعر مازالت الدول تجاهد للسيطرة عليها حتي الآن.
أزمة وباء كورونا المستجد
منذ بضعة أشهر فقط اجتاح العالم قادمًا من الصين فيروس كورونا المستجد ” كوفيد –19 “، في خلال شهرين فقط انتقل الوباء من الصين وبعض البؤر في آسيا إلى إيطاليا وإيران وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ودول أوروبا واسرائيل، وكذلك دول المنطقة العربية والشرق الأوسط ودول أمريكا اللاتينية، وتداعت تأثيراته على الاقتصاد العالمي الذي شهد تدهورًا غير مسبوق في أسعار النفط العالمي الذي انخفض بنسبة قاربت 50% لأول مرة منذ عقود، والخسارة الاقتصادية للبورصات العالمية، والغلق الكامل لبعض المؤسسات الصناعية، وتعليق الطيران وأثره على قطاع السياحة وغيرها الكثير من التكلفة الاقتصادية الذي تحملها العالم بأسره.
وأعلنت منظمة الصحة العالمية عن “حالة الطوارئ الصحية العالمية” بسبب تفشي فيروس كورونا، وبدأت معظم الدول تحاول وضع حل للازمة، ومن الواضح أنه ينبغي إعطاء الأولوية القصوى للحفاظ على صحة وسلامة الانسان قدر الإمكان، وفي إمكان البلدان أن تقدم المساعدة من خلال إنفاق المزيد لدعم نظمها الصحية، والإنفاق على معدات الوقاية الشخصية، وإجراء الفحوص، واختبارات التشخيص، وإضافة مزيد من الأسرة في المستشفيات، وذلك كله بتكلفة فاقت 31 مليار دولار، فضلًا عن تكاليف إنتاج لقاح محتمل وتوزيعه للعالم، وكذلك إجراءات الدول للحد من انتشاره، ومحاولات الدول بكل مؤسساتها البحثية والطبية لسرعة التوصل لعلاج او لقاح يمكن معه السيطرة على هذا الوباء.خلاصة القول إن الحاجة أصبحت ملحة الآن لتضافر جهود الدول لمواجهة تهديدات متباينة، سواء التغيرات المناخية أو انتشار الأوبئة، والتي تؤثر على الإنسانية بأسرها حتى وإن كانت تكاليف هذا التعاون باهظة الثمن وتستدعي الالتزام باتفاقات دولية هدفها الأهم المحافظة على النظم البيئية بما فيها الإنسان، والتي من المؤكد أن الآثار السلبية الناجمة عن تلك التهديدات ستكون أخطر بكثير.
باحثة ببرنامج السياسات العامة