
ما بين التصعيد والمهادنة.. سلوك تركيا تجاه الأزمات فى شرق المتوسط
كتبت: نوران عوضين
شهدت منطقة شرق المتوسط –مؤخرًا- تصاعدًا لمستوى وزخم التفاعلات الدولية والإقليمية. تمثلت البداية في نشر الحكومة التركية خريطة تظهر “حقول التنقيب الجديدة” بمناطق تابعة للجرف القاري اليوناني، إلا أن تركيا ووفقًا لاتفاقها مع حكومة الوفاق الليبية تدعي أحقيتها بتلك المناطق. يعد هذا الأمر بمثابة شرارة انبثقت منها تحركات على أصعدة مختلفة. ففي 9 يونيو الجارى وقعت الحكومتان الإيطالية واليونانية اتفاقًا لتعيين حدودهما البحرية، بمقتضاه يكون للجزر اليونانية مناطق بحرية خالصة لا سيما جزر بحر إيجه المتنازع عليها مع تركيا، وهو الحق الذي تنفيه عنها الأخيرة. أعقب الاتفاق إجراء وزير الخارجية اليونانية زيارة إلى مصر (18 يونيو 2020)، تمثل الهدف الرئيسي منها دفع مسار المشاورات الفنية الثنائية الحاضة بتعيين الحدود البحرية بينهما.
الأمر الواقع يأتي أولًا
تدرك تركيا أن تحقيق ادعاءاتها الخاصة بأحقية سيادتها على مناطق بحرية تابعة –وفقًا لما يقتضيه القانون الدولي- لكلٍ من قبرص واليونان أمر لن يتأتي إلا من خلال انتهاج سياسة “فرض الأمر الواقع”. مثال على ذلك: تسييرها لسفن التنقيب بالمياه القبرصية بمرافقة سفن حماية عسكرية، أو اعتراض سفنها لأعمال الشركات العالمية بالمنطقة، كذا إجرائها لمناورات بحرية بغرض استعراض القوة. وفي إطار تبرير تلك التحركات، عمل الجانب التركي على تأسيس شكل من الشرعية الصورية تمكّنه من تنفيذ سياساته بالمنطقة. ففي مواجهة تصعيدها وانتهاكها للسيادة البحرية القبرصية يبرز اتفاقها مع حكومة جمهورية شمال قبرص التركية غير المعترف بها دوليًا سوى من تركيا.
كذلك أبرمت تركيا اتفاقها مع حكومة “الوفاق” الليبية، بهدف تحديد مناطق السيادة البحرية بين الجانبين. وهو الاتفاق الذي واجه انتقادات دولية واسعة، نظرًا لمخالفته الأسس والقواعد الدولية المقرة والمتعارف عليها، ولعدم وجود حدود بحرية ما بين الطرفين، علاوة على تضمنه مواقع يونانية وقبرصية خالصة داخل المناطق المُحدَدة بالاتفاق.
وبموجب هذا الاتفاق، فقد انسحب الزخم المتوسطي إلى الداخل الليبي، حيث كثفت تركيا من تدخلاتها العسكرية في ليبيا؛ فى مسعى لإحداث تغيير بمسار الأزمة الليبية. وأخيرًا، فإن هذا الاتفاق يقف -وفقًا لتركيا- كحجر عثرة أمام تنفيذ أي اتفاقات متوسطية لها علاقة باستكشاف أو نقل الغاز، كتلك المنبثقة عن منتدى غاز شرق المتوسط، أو خط أنابيب “إيست ميد” المقرر إنشاؤه ما بين إسرائيل وقبرص واليونان. وبذلك، فإن اتفاق تعيين الحدود اليونانية الإيطالية، والتفاهمات اليونانية المصرية، وما تشهده الساحة الليبية من محاولات سواء إقليمية أو دولية لتحجيم التمدد التركي المتزايد، كلها أمور كان لها بالطبع انعكاس على التحركات التركية بمنطقة شرق المتوسط بصفة عامة، وبداخل الأزمة الليبية بصفة خاصة. واتسمت تلك التحركات بالازدواجية بحيث تأخذ شكلًا من التصعيد تارة وميلًا للمهادنة تارة آخرى.
تحركات مزدوجة
لم يصدر أي تعقيب رسمي تركي علي الاتفاق اليوناني الإيطالي، وهو ما برز خلال زيارة وزير الخارجية الإيطالي إلى أنقرة في 19 يونيو الماضي، إذ صرح وزير الخارجية التركي “جاويش أوغلو” بأن بلاده تريد التعاون مع إيطاليا في قضايا الطاقة بمنطقة شرق المتوسط، كما أن “جميع دول المنطقة يجب أن تتقاسم ثروات شرق المتوسط”. وفى هذا السياق يمكن الرجوع لأسباب عدة وراء انتهاج تركيا لسلوك المهادنة مع إيطاليا، من بينها ما تم الإعلان عنه من رغبة تركية في تحقيق تعاون مع شركات التنقيب الإيطالية وبالأخص شركة “إيني”. كذلك، تلاقي كل من المصالح التركية والإيطالية – لاسيما المصالح النفطية- في توجيه دعمهما لحكومة الوفاق الليبية، وأخيرًا، قد تبدو إيطاليا بالنسبة لتركيا كحليف أوروبي في مواجهة التصعيد الفرنسي.
فى المقابل استمرت تركيا في ممارسة سياساتها التصعيدية ضد اليونان، معتبرة أن الأخيرة لن تخوض حربًا ضدها كرد فعل على التصعيد وفق ما أشار وزير الدفاع التركي خلوصي آكار في 10 يونيو بأنه لا يعتقد “أن اليونان تريد خوض حرب مع تركيا”. وبالتزامن مع تلك التصريحات قامت تركيا باعتراض فرقاطة تابعة للبحرية اليونانية مشاركة في عملية “إيريني” الأوربية لمراقبة حظر الأسلحة إلى ليبيا. وفى اليوم التالى أجرت تركيا مناورات واسعة شرق المتوسط، أطلق عليها اسم “أعالي البحار”، ووُصِفت من قبل الإعلام التركي الرسمي باعتبارها “استعراض للقوة”، الأمر الذى دعا الولايات المتحدة إلى إجراء مناورات مع اليونان وقبرص التحقت بها بها كل فرنسا وايطاليا كرد فعل على المناورات التركية.
وواصلت تركيا هذا النهج، وكان لفرنسا النصيب الأكبر في هذا الشأن. ففي أعقاب ما أثاره الجانب الفرنسي من انتقاد إزاء الدور “العدواني وغير المقبول” من جانب تركيا بالأزمة الليبية، حيث خرقها للحظر المفروض من قبل الأمم المتحدة على تسليح ليبيا، وكذا زيادة وجودها البحري قبالة الساحل الليبي، اتهمت وزارة الدفاع الفرنسية البحرية التركية بقيام الأخيرة بالتحرش بسفينة حربية فرنسية كانت في مهمة لحلف الأطلسي. ولاحقًا زادت فرنسا من التصعيد والضغط. ففي الأول من يوليو، أعلنت وزارة الجيوش الفرنسية “انسحابها المؤقت من عملية للأمن البحري لحلف شمال الأطلسي في البحر المتوسط إلى حين حصولها على توضيحات بشأن التزام وتمسك الحلفاء باحترام حظر الأسلحة إلى ليبيا”. سبق ذلك تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على كون تركيا هي “الطرف الخارجي الأول الذي يتدخل في ليبيا”، وأن السلوك التركي هذا “يلقي بمسؤولية جنائية وتاريخية على حلف “الناتو” الذي يجب أن يتعامل مع هذا الوضع”. كما أبدت باريس مخاوفها من استغلال أنقرة لإحداثيات الحلف فى تحركاتها العسكرية الخاصة بليبيا.
أما عن نهج المهادنة، فقد لجأت تركيا إلى التخفيف من حدة خطابها إزاء الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. بالنسبة للولايات المتحدة، دعا وزير الخارجية التركي “جاويش أوغلو”، يوم 11 يونيو، الولايات المتحدة إلى ممارسة “دور أنشط في ليبيا” سواء في التوصل إلى وقف لإطلاق النار أو في سياق المحادثات السياسية. وعلى نفس المنوال، أعلن المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم قالن” خلال زيارته إلى ألمانيا في 13 يونيو أن الحل في ليبيا يجب أن يكون سياسيًا وليس عسكريًا، وأن “هدف بلاده يتمثل في تشكيل حكومة شرعية لتمثيل جميع الليبيين”. ويعد هذا التصريح مغايرًا لما كان عليه نمط التصريحات التركية السابقة والمؤكدة على الالتزام التركي باستمرار توجيه دعمها العسكري لحكومة الوفاق الليبية.
ولكن على الرغم من أسلوب المهادنة، إلا أن “قالن” قد عمد أيضًا إلى توضيح ما تملكه تركيا من أوراق ضغط في مقابل الدول الأوروبية بل وحلف الناتو أيضًا، وذلك حين أكد في تصريحه على كون “ليبيا جارة لكل من مالطا وإيطاليا وإسبانيا، وأنه في حال استمرار الحرب فيعني ذلك استمرار الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات والإتجار بالبشر، وهذا الأمر يؤثر على أمن الناتو وأوروبا”. وفي أعقاب تصاعد الدعوات الفرنسية واليونانية والقبرصية إلى دول الاتحاد الأوروبي بشأن ضرورة تبني موقف واضح إزاء العلاقة مع تركيا، دعا وزير الخارجية التركي في التاسع من يوليو الاتحاد الأوروبي إلى أن يكون “وسيطًا نزيهًا” في النزاعات بين أنقرة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولكن في حال قيام الاتحاد بفرض عقوبات ضد تركيا، ستضطر حينها أنقرة إلى “الرد بالمثل، وسيصبح الوضع أكثر توترًا، وهذا لن يخدم أحدًا”.
مسارات متوازية
في إطار ما تواجهه تركيا من تضييق لمساحاتها في شرق المتوسط سواء من خلال اتفاقيات تعيين حدود بحرية، أو من خلال ما أصدره الاتحاد الأوروبي من تهديد سابق بإمكانية فرض عقوبات على أنقرة جراء تهديدها للمصالح القبرصية واليونانية بالمنطقة، فقد تكون التحركات التركية المقبلة مرتكزة بشكل كبير على الأزمة الليبية، بما يمنحها فرصة وشرعية للتواجد بمنطقة شرق المتوسط. وهنا، فمن المرجح أن يكون التحرك التركي مرتكزًا على محاولة تحقيق التوازن بين المسارين السياسي والعسكري، بما يحقق لها التواجد بشكل أكثر فعالية بالملف الليبي، ويضمن لها “فرض الأمر الواقع” بمنطقة شرق المتوسط.
فمن المتوقع أن تعمل تركيا على توطيد علاقتها مع البلدان الأوروبية التي لها أرضية مشتركة من المصالح معها كإيطاليا وألمانيا. وهنا، لا يمكن إغفال الزيارة التي أجراها المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم قالن” إلى ألمانيا خلال الأسابيع الماضية، ولاحقًا لقاء وزير الخارجية التركي مع نظيره الألماني، في سياق ما ينشده الجانب التركي من تحقيق لتفاهمات مع الجانب الأوروبي حول رؤيته للأزمة الليبية -على وجه التحديد-. ومن المحتمل أن يعود سبب اختيار الجانب التركي لألمانيا، نظرًا لكون ألمانيا هي رئيسة الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي. كذلك، فمن المصلحة الألمانية حل النزاعات القائمة بالمنطقة بهدف تسوية أزمة الهجرة. وقد تتلاقى الرغبة الألمانية في تسوية الصراع بمنطقة شرق المتوسط بهدف إبعاد الصراع عن مناطق الاستكشاف الغازية الذي تعول على منتجاتها في إطار سعيها نحو تنويع إمدادات الغاز بعيدًا عن روسيا.
على الصعيد العسكري، ينصرف الأمر إلى ما قد تمارسه تركيا من تعزيز عسكري تستهدف منه ضمان ما تحقق لها من موطئ قدم داخل الأراضي الليبية، وأيضًا على ساحل البحر المتوسط. فبحسب الإعلام التركي، فمن المقرر أن تقوم أنقرة بتزويد القاعدة بقدرات هجومية دائمة وتجهيزات استطلاعية وسفن حربية مساندة، وهو ما سيمكّن الجانب التركي من تنفيذ مخططاته التنقيبية بالمنطقة. تزامن هذا مع ما أعلنته القوات البحرية التركية مؤخرًا من اعتزامها إجراء مناورات بحرية ضخمة قبالة السواحل الليبية. وبحسب الإعلان التركي، سيتم إجراء تلك المناورات بغرض التدريب تحسبًا لاندلاع أي حرب في شرق المتوسط، علاوة على تصاعد التوترات في ليبيا خلال الفترة الأخيرة.
وفي النهاية، فمن المرجح استمرار تركيا التزام مسار المهادنة مع الدول الكبرى التي تسعى لكسب تأييدها لمواقفها مثل الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك مع بعض الدول ذات التأثير في الأزمة الليبية والسياسات التركية في شرق المتوسط كالجزائر، -وإلى حد ما- إسرائيل، كما ستواصل تركيا سياسة التصعيد مع الأطراف المناوئة لها كمصر واليونان وقبرص وفرنسا الرافضة للممارسات التركية على اختلافها. وأخيرًا، سوف تستمر تركيا في تكثيف اتصالاتها مع الأطراف التي لا تزال بعيدة عن اتخاذ مواقف أكثر تحديدًا مثل إيطاليا وألمانيا.