
حمدي عبد الرحمن يكتب: حيلة جوبلز وسد النهضة
لا يزال المسار التفاوضي الخاص بسد النهضة على حاله (محلك سر) إذ أعلن وزير الخارجية سامح شكري أنه أمر مؤسف عدم التوصل إلى اتفاق. استمرت المفاوضات 11 يومًا وبمشاركة 11 مراقبًا وبرعاية الاتحاد الأفريقي، ومن المفترض أن يتم تقديم تقرير اليوم لرؤساء الدول الثلاثة ورئاسة الاتحاد الأفريقي.
لقد توقفت كثيرًا عند الحرب الدعائية التي تستخدمها إثيوبيا منذ سنوات طويلة لمحاولة فهم موقفها المتعنت في المفاوضات. استخدمت إثيوبيا بشكل واضح منذ الإعلان عن بناء السد عام 2011 أساليب الدعاية الممنهجة للترويج له وتعبئة الرأي العام في الداخل والخارج حوله. كانت الفكرة المحورية هي إظهار المظلومية التاريخية لإثيوبيا التي يعيش 70 مليون من سكانها في ظلام دامس في حين يتم شيطنة مصر باعتبارها المستفيد الأول من مياه النيل وفقا لاتفاقيات استعمارية.
كما يتم تقديم المشروع على أنه مشروع نهضوي أفريقي. وفي ظل هشاشة الوضع الداخلي في إثيوبيا وتناحر القوميات والعرقيات المختلفة لجأت النخبة الحاكمة إلى تصوير السد في العقل الجمعي العام وكأنه المفتاح السحري الذي سوف ينقل إثيوبيا إلى مصاف الدول الصاعدة. ذكرني ذلك بثورة التوقعات المتزايدة التي صاحبت رحيل الاستعمار من أفريقيا. حيث تم تصوير المستعمر على أنه أس الداء، وبرحيله سوف يعيش الأفارقة في نعيم مقيم، حتى إن بعضهم توقف عن العمل. بيد أن ذلك لم يحدث فتحولت ثورة التوقعات إلى ثورة إحباطات.
كانت الحيلة الدعائية الإثيوبية أشبه بحيلة جوبلز في ألمانيا النازية الذي جعل القائد فوق الأمة، مع تغيير في النص وهو أن يكون سد النهضة فوق الجميع. ومن الطريف أن الذين كانوا يهتفون بحياة آبي أحمد بالأمس تحولوا عنه بعد اغتيال المغني الأشهر في قومية الأورومو. لكن يظل السد هو طوق النجاة الذي يتمسك به الجميع.
انتهجت إثيوبيا كافة الأساليب غير الأخلاقية للترويج لروايتها المنفردة حول السد، ومن ذلك مثلا محاولة النيل من الهوية الأفريقية لمصر/ وتصوير النزاع على أنه بين العرب والأفارقة. قامت أذرع البروباجندا الإثيوبية باستغلال حملة #حياة السود مهمةBlack Lives Matter ، وبثت روايات دعائية تشير إلى أن دول حوض النيل السوداء في مواجهة مصر.
كلام فيه مغالطات لا تستقيم وصحيح المنطق وحقائق التاريخ التي تجعلنا جميعًا في مصاف الشعوب النيلية من حيث الملامح والعادات. أليس اسم الحبشة نفسه مشتق من كلمة حبشت التي أطلقها الإغريق القدماء على الشعوب المختلطة التي تجمع بين العناصر السامية القادمة من جزيرة العرب والقبائل النيلية في أعلى هضبة الحبشة وإريتريا. وألم تصل مملكة مصر القديمة إلى منابع النيل حيث بنت أول حضارة أفريقية ولها علم يعرفه القاصي والداني باسم علم المصريات.
وحيلة الدعاية الإثيوبية تعمد إلى خلط الأوراق حيث تنقل قضية السد الخاصة بدول حوض النيل الشرقي إلى كافة الدول النيلية الأخرى بهدف إعادة النظر في مسألة تقسيم المياه.
ماهي أهداف هذه الحيلة الدعائية؟
أولًا: لا يمكن تصور معضلة التفاوض باعتبارها مسألة فنية؛ أذ إنها سياسية بامتياز. ترغب إثيوبيا في استخدام السد كخزان للمياه لتتحكم في مقدار المياه المارة منه إذا لزم الأمر، ولذلك يتجاوز الأمر إنتاج الكهرباء وتنظيم الفيضان وهو ما يجعلها مصممة على طرح مسألة تقسيم المياه.
ثانيًا: تحاول إثيوبيا إقامة سدود أخرى على النيل الأزرق ولذلك تحاول الدفع بدول حوض النيل الأخرى وطرح اتفاقية عنتيبي. وهنا يمكن فهم إصرار إثيوبيا إحالة ملف مياه نهر النيل للاتحاد الإفريقي.
ثالثًا: تحاول إثيوبيا بشتى السبل استقطاب السودان ولا سيما أنه يرغب في الاستفادة من كهرباء سد النهضة وفي هذه الحالة يتم عزل مصر، وهنا يُلاحظ أن الدعاية الإثيوبية دائمًا موجهة بالأساس تجاه مصر.
رابعًا: تحاول إثيوبيا إظهار أزمة مصر كأنها مشكلة إدارة وترشيد استخدام المياه، وأن الحل يكمن في البحث عن مصادر بديلة مثل تحلية المياه ولا بأس من شراء المخزون الإثيوبي خلف سد النهضة.
خامسًا: استغلت النخبة الحاكمة الإثيوبيين في دول المهجر ولاسيما في الولايات المتحدة حيث توجد جالية ضخمة. وقد تم توظيف تدخل ترامب في الملف التفاوضي لسد النهضة من أجل كسب التعاطف مع الإثيوبيين ولاسيما في صفوف النخب الأكاديمية الأمريكية والأمريكان من أصول أفريقية كما حدث مع مجموعة البلاك كوكس.
في ضوء المعطيات السابقة يصبح السؤال ما العمل ولاسيما على المدى البعيد؟
على المدى القصير يمكن العودة مرة أخرى لمجلس الأمن باعتبارها قضية تهدد السلم والأمن الأفريقي ولايزال مشروع القرار المصري موجودًا. وحتى في ظل الملء الأول الأحادي 4.9 مليار متر مكعب لن يؤثر على مصر وفي هذه الحالة يتم اتخاذ خطوات تصعيدية لإظهار عدم مشروعية السد والتصرفات الأحادية الإثيوبية. سوف تحاول إثيوبيا من جهة أخرى اجتذاب السودان وخاصة في ظل التوجهات السائدة منذ حكم الكيزان تجاه مصر، بالإضافة إلى أن الإدارة الانتقالية بزعامة عبد الله حمدوك تؤمن أن ثمة فوائد تجنيها بلاده من سد النهضة مثل تنظيم الفيضان وشراء الكهرباء الرخيصة.
وعلى أية حال فإن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد حتى لو توصلنا لاتفاق خاص بسد النهضة. المعركة الحقيقية تتمثل في تنظيم واستغلال مياه حوض النيل ومفاوضات عنتيبي وإشكالية بناء سدود أخرى.
علينا تطوير وتوظيف أدوات جديدة للدفاع عن رواية مصرية عصرية تأخذ بعين الاعتبار تغير موازين القوى من حولنا. لا يمكن استخدام نفس الأدوات التي استخدمتها الحكومات المصرية في الخمسينيات والستينيات زمن حركات التحرر الوطني حيث كان العطاء المصري يصل إلى أكرا وكينشاسا في الغرب وأديس أبابا ودار السلام في الشرق وهراري في الجنوب. لابد من تبني خطاب إعلامي وسياسي جديد يعيد الروح لحركة مصر وتفاعلاتها في محيطها الأفريقي. ثمة قوى وأطراف دولية أخرى فاعلة تسعى لكسب الهيمنة والنفوذ. ولا ننسي أننا في مرحلة حرب باردة جديدة وإن تغيرت أطرافها وأهدافها المختلفة.