كورونا

بين كورونا والليرة.. اللبنانيون في الشوارع من جديد

العودة إلى الشارع باتت أهون على اللبنانيين من اتباع الإجراءات الاحترازية والبقاء في منازلهم اتقاء شر كورونا، بعد أن بلغت بهم الأزمات الاقتصادية مبلغًا لا يمكن تحمله، وأصبح الجوع هو ألد أعدائهم وليس فيروس كوفيد-19 الذي أصاب حتى الآن نحو 721 من اللبنانيين، حاصدًا أرواح 24 منهم. فبات اللبنانيون بين خيارين أحلاهما مر، وهما إما الموت جوعًا داخل منازلهم، أو النزول إلى الشوارع والتعرض إلى خطر الإصابة بفيروس كورونا. 

اللبنانيون يصبون جام غضبهم على المصرف المركزي

بدأت المظاهرات في مدينة طرابلس شمال البلاد بتجمع المئات للاحتجاج على تدهور الأوضاع الاقتصادية وسوء الإدارة وتردي الأوضاع المعيشية، إضافة إلى غلاء الأسعار وانهيار الليرة اللبنانية في مقابل الدولار الأمريكي، وهو الانهيار الذي ازدادت وتيرته بعد الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة اللبنانية لمواجهة تفشي فيروس كورونا المستجد، وعلى خلفية الخلاف الحاد بين السلطة التنفيذية برئاسة رئيس الحكومة حسان دياب، ومصرف لبنان المركزي برئاسة رياض سلامة. 

الاحتجاجات لم تتوقف عند حدود طرابلس فقط، بل امتدت إلى مدينة صيدا في الجنوب اللبناني، التي أحرق المحتجون فيها مصرف لبنان المركزي عبر إلقاء القنابل الحارقة، كما قام المتظاهرون بإحراق واجهات العديد من المصارف في طرابلس وصيدا، مما دفع جمعية المصارف إلى إصدار قرار بإقفال جميع مقرّات وفروع المصارف إلى حين استتباب الأوضاع الأمنية فيها.

https://www.youtube.com/watch?v=GF6WORt2DlA

ولم تخل الاحتجاجات في طرابلس وصيدا من اشتباكات مع قوات الأمن والجيش التي حاولت تفريق المحتجين باستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، مما أدى إلى مقتل أحد المتظاهرين في طرابلس، وأطلق عليه المحتجون لقب “شهيد الجوع”.

وفي المقابل أعلن الجيش اللبناني إصابة ٨١ عسكريًا “خلال تنفيذ مهمات حفظ الأمن والاستقرار أثناء الاحتجاجات الشعبية المطلبية في مختلف الأراضي اللبنانية وتوقيف ٢٠ شخصًا”.

انهيار حاد لليرة مقابل الدولار

أدّت أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد إلى زيادة انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي على نحو غير مسبوق، فقيمة الدولار كانت نحو 1500 ليرة قبل الأزمة، ولكنّها وصلت بعد الأزمة إلى أكثر من 3000 للدولار الواحد، حتى وصل إلى 3625 ليرة، يوم 24 أبريل الماضي، وأصبح سعر الليرة يتغير يوميًا، وأحيانًا أكثر من مرة خلال اليوم الواحد. 

وذلك هو السعر الرسمي لدى مصرف لبنان المركزي، ويزيد السعر عن ذلك بكثير في مكاتب الصرافة والسوق السوداء التي وصل السعر فيها إلى أكثر من 4000 ليرة، هذا في الوقت الذي حدّ فيه مصرف لبنان المركزي من قدرة المودعين على صرف الأموال بالدولار الأمريكي، وذلك للحفاظ على الاحتياطي الدولاري لدى المصرف.

وساهم هذا الانفلات في سعر صرف الدولار في لبنان إلى زيادة معاناة اللبنانيين الذين يواجهون موجة تضخمية كبيرة أدت إلى ارتفاع مطرد في أسعار السلع والخدمات، فأصبح الكثيرون منهم غير قادرين على شراء احتياجاتهم الأساسية، مع ثبات دخولهم في أفضل الأحوال إن لم يكن انخفاضها بشكل كبير إثر التداعيات التي خلّفها فيروس كورونا المستجد.

كورونا يزيد من الأعباء الاقتصادية

يأتي تفشي وباء كوفيد-19 في وقت يمر فيه اقتصاد لبنان بأسوأ أزمة اقتصادية يشهدها في تاريخه الحديث، وفي ظل محدودية الموارد المتاحة لدى الحكومة اللبنانية للاستجابة، حسب تصريح المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي “ساروج كومار جه”. وجاء تفشي كورونا ليزيد من مشاكل اللبنانيين ويضع الكثيرين منهم تحت خط الفقر، الذي وصلت نسبته بين اللبنانيين إلى نحو 30% من السكان، والبطالة إلى أكثر من 40%.

وهذه الأرقام آخذة في الازدياد مع الإجراءات التي اتخذتها الحكومة اللبنانية لاحتواء فيروس كورونا ومنع انتشاره بين اللبنانيين، من تعليق للرحلات، وإغلاق المطاعم والمقاهي وأماكن الترفيه العامة، وتعطيل الدراسة بالمدارس والجامعات، كما قام الكثير من أصحاب الأعمال بتسريح العمالة، وبعضهم خفض رواتب العاملين بنسب متباينة، مما أدى إلى فقدان مئات الأسر إلى أي دخل ثابت.

صراع سياسي بين الحكومة والمصرف

خلاف علني بين رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب وحاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، كان أحد أسباب ما آل إليه لبنان من أوضاع في الوقت الراهن، فحكومة دياب ومن ورائها حزب الله دائمًا ما تكيل الاتهامات لسلامة بأنه هو السبب في الأزمة المالية التي يعيشها البلد المثقل بالديون والذي أعلن عجزه عن سدادها في مطلع مارس الماضي.

هاجم دياب خلال اجتماع مجلس الوزراء في 24 أبريل الجاري حاكم مصرف لبنان، محملا إياه مسؤولية التدهور السريع في سعر صرف الليرة، قائلًا إن قيمة الودائع التي خرجت من المصارف خلال أول شهرين من العام الحالي بـ5.7 مليار دولار، رغم قيود مشددة على السحب بالعملة الخضراء والتحويل إلى الخارج، وسط أزمة سيولة حادة، مشيرًا إلى أن “غموضًا مريبًا في أداء سلامة إزاء تدهور سعر الصرف”، معتبرًا أن “دور مصرف لبنان يبدو إما عاجزاً أو مُعطلا بقرار أو محرضاً على هذا التدهور الدراماتيكي في سعر العملة الوطنية”. هذا في الوقت الذي اتهمت فيه تقارير حزب الله بالوقوف وراء هذه الأزمة في العملة اللبنانية، وأنه يدير بعض مكاتب الصرافة التي ترفع سعر الدولار مقابل الليرة في السوق السوداء، وبالتالي لا ترضيه السياسة التي يتبعها حاكم مصرف لبنان المركزي.

هجوم حسان دياب المبرمج على رياض سلامة يدخل لبنان في - لبنان اليوم

بدوره رد سلامة على هذه الاتهامات في كلمة ألقاها اليوم على إثر الاحتجاجات التي عمّت شوارع طرابلس وصيدا، قائلًا إن المصرف لم يكلف الدولة اللبنانية ولا ليرة، بل “كان يسجل أرباحًا ويحولها إلى الدولة اللبنانية وساهم بتخفيض دين الدولة في باريس 2 واستعمل فروقات الذهب في مراحل معينة لإطفاء الدين، وساهم في تخفيض كلفة الدين العام بإقراض الدولة بفوائد متدنية”، مؤكدًا أن “المصرف المركزي مول الدولة لكنه لم يصرف هو الأموال، لذلك يجب أن نعرف من صرف هذه الأموال وهناك مؤسسات دستورية وإدارية لديها مهمة الكشف عن كيفية الإنفاق”.

وقال “نحن نطمئن اللبنانيين ونؤكد أن الودائع موجودة وهي تستعمل”، وذلك ردًا على المشروع الذي كانت اقترحته الحكومة تحت اسم “الهيركات” وهو الاقتطاع من أموال المودعين لتوفير السيولة المالية اللازمة. وإضافة إلى “الهيركات” أطلت أزمة التعيينات المالية ومنها نواب حاكم مصرف لبنان المركزي بوجهها على الصراع الدائر بين الحكومة والمصرف، والتي لم تخلُ من الشد والجذب والمحاصصة، واستغلتها القوى السياسية في إزكاء هذا الصراع الدائر بين سلامة ودياب؛ للتغطية على فشله

الأسوأ لم يأتِ بعد

الاحتجاجات التي خرجت خلال اليومين الماضيين لم تكن مفاجئة، إذ كان من المعلوم أن تجهيزات تتم في أوساط الحراك الشعبي الذي انطلق في 17 أكتوبر الماضي من أجل الخروج من جديد للاعتراض على الأوضاع المتردية التي زادها فيروس كورونا سوءًا.  ومن المنتظر أن تزداد حدة هذه الاحتجاجات في أول مايو المقبل.

ورغم كل ذلك يستمر الانقسام السياسي هو الحاكم في لبنان، فالطبقة السياسية الحاكمة أو المعارضة لا تلقي بالًا لمعاناة اللبنانيين، وكل قوم يبحثون عن تعظيم ما بأيديهم، ويتخذون من هشاشة البنيان السياسي للبنان متكأً للتراشق فيما بينهم، وهو ما بدا من اتهامات بين رئيس الحكومة حسان دياب وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، واتهامات دياب لأطراف لم يسمها بأنها هي التي تقف وراء ما جرى خلال اليومين الماضيين وأنها هي التي تحرض الناس ضد الجيش. وكذلك الخلافات بين حزب الله والتيار الوطني الحر من جهة، وتيار المستقبل بزعامة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من جهة أخرى.

https://vid.alarabiya.net/images/2020/04/29/7b88d9ac-ba9d-4654-9b03-03311a0d8d00/7b88d9ac-ba9d-4654-9b03-03311a0d8d00.jpg

ويبدو أن سيناريو انتفاضة أكتوبر 2019 يلوح في الأفق من جديد، بكل ما حمله من تفاصيل، حتى الاعتداءات التي تمت من قبل المنتمين لحزب الله وحركة أمل على المتظاهرين، وقد ظهرت بوادر اعتداءات جديدة فيما كتبه بعض مناصري حزب الله على مواقع التواصل الاجتماعي وهم مشهرون أسلحتهم، من أنهم مستعدون للتحرك إذا أذن الأمين العام للحزب حسن نصر الله.

ولن يكون أمام حكومة حسان دياب إلا الاستجابة لمطالب اللبنانيين باتخاذ حزمة إجراءات لاحتواء الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي خلفها انتشار فيروس كورونا، مع اتخاذ تدابير صارمة لضبط سعر الليرة، ولكن لن يكون اتخاذ مثل هذه الإجراءات بالأمر اليسير في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها لبنان، وإحجام الكثير من البلدان المانحة عن مساعدة الحكومة اللبنانية التي يسيطر عليها حزب الله.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى