
لماذا لم تؤثر جائحة كورونا على دعم تركيا وإيران للميلشيات المسلحة؟
في ظل جائحة فيروس كورونا، وما فرضته من فرص وتحديات جديدة بمناطق التوتر والصراعات، عكفت الكثير من القوي الدولية الفاعلة في صراعات الشرق الأوسط على إعادة تقييم أدوارها، وتنظيم قواتها المنخرطة في دوائر الصراع والمواجهة. حيث دفعت الجائحة إلى خفض الاستعداد القتالي للقوات ولاسيما التشكيلات البرية للقوي الدولية التي تملك جيوشًا تنتشر في نطاقات إقليمية وعالمية، إذ سحبت فرنسا قواتها من العراق لأجل غير مُسمي في السادس والعشرين من مارس الماضي، وقبلها سحبت بريطانيا قسمًا من قواتها في ذلك البلد على خلفية انتشار الفيروس، وتعليق برنامج التحالف الدولي لمدة 60 يومًا في إجراء وقائي.
أما قوات الولايات المتحدة فكانت الأشد تضررًا من الجائحة، على الرغم من احتفاظها بالهيمنة العسكرية والقدرة على مواجهة التهديدات والانتشار في أي بقعة في العالم خلال 18 ساعة عبر قواتها المحمولة جوًا – فرقتي 82 و 101 – إلا أن مؤسساتها العسكرية القيادية تعرضت لتسلل الفيروس لمراكز حساسة منها مبني وزارة الدفاع “البنتاجون” ذاته، مرورًا بالقواعد العسكرية الأمريكية جنوب الباسيفيك، وصولًا لحاملة الطائرات “ثيودور روزفلت”، ووصل إجمالي عدد مصابي البنتاجون إلى 3 آلاف، فيما اشتمل سلاح البحرية الأمريكية على أكبر عدد من المصابين بالفيروس بواقع 500 حالة مؤكدة، غالبيتهم ضمن طاقم الحاملة “روزفلت”، كان ذلك قبل أن تقرر الولايات المتحدة عدم تداول أية أخبار وتقارير تخص الإصابات بالفيروس التاجي داخل صفوف جيوشها وتشكيلاتها البحرية والجوية.
تقويض فرص ودينامية الانتشار العسكري الذي فرضه فيروس كورونا على القوي الدولية، لم يكن بنفس الوقع على القوي الإقليمية –غير العربية– في الشرق الأوسط، ولاسيما تركيا وإيران. حيث وفر تفشي الوباء فرصة لتعزيز انخراطهما في العديد من بؤر الصراع بصورة مباشرة وأخري تعتمد على نسق ” الوكيل – الراعي” في حروب الوكالة بمناطق استراتيجية حاكمة بالمنطقة.
وما وسّع انخراط تركيا وإيران في خضم تفشي الوباء:
- تبني كلا البلدين مشروعًا توسعيًا أمميًا ثيوقراطيًا يقوم على تقويض وهدم الدول الوطنية ولاسيما المركزية، التي تتصدي لمجمل تفاعلات الصراع العسكري في الجناح الشرقي للمنطقة العربية.
- انشغال القوي الدولية والغربية في الداخل للحد من تفشي الوباء الذي حقق أكثر من مليون إصابة ونصف إصابة بها حتى وقت كتابة هذه السطور.
وفي ورقة سابقة نشرها المرصد المصري ” تداعيات متشابكة .. كيف هدد فيروس كورونا منظومات الأمن القومي للدول ” ، نوّه خلالها إلى زيادة نشاط التنظيمات المسلحة والإرهابية في دوائر تبدأ من أفغانستان لتصل للشرق الأوسط وشمال إفريقيا ودول الساحل والصحراء.
إلا أن صور الانخراط المباشر لتركيا وإيران في المنطقة، وغير المباشر، عبر نُسق “الراعي – الوكيل”، اتخذ صورة أكثر نظامية، وأظهر مراحل جديدة من التخطيط لمحاولة فرض وقائع ميدانية على الأرض في خضم أزمة كورونا، حيث تبلورت أبرز مؤشراته في الآتي:
أولا: إيران
بدأت إيران عامها الحالي على أصوات صواريخ الـ HellFire الموجهة بالليزر من طائرة مسيرة MQ-9 reaper، كانت تحلق فوق مطار بغداد، والهدف ثاني أقوي رجل في إيران، قائد فيلق القدس “قاسم سليماني” مع “أبو مهدي المهندس” نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق، والذي كان يُعد ضابط الاتصال بين بغداد وطهران.
أفضى استخدام القوة الأمريكية الصلبة وجراءة القرار بتصفية “سليماني” إلى دخول المناوشات والمواجهات بين واشنطن وطهران في العراق وسوريا خاصة، مرحلة جديدة من اختبارات القوة ولحظات الحقيقة. إذ بدأت الاستجابة الإيرانية الرسمية، بقصف قاعدة عين الأسد التي تتواجد فيها القوة العظمي للتمثيل العسكري الأمريكي في العراق، وبدا أن استجابة طهران لم تتوقف عند ذلك الحد، حيث استمرت إيران في انتهاج سياسات هجومية نشطة تجلت في الآتي:
1 – تفعيل نسق “الوكيل – الراعي” لمهاجمة الأهداف الثابتة للقوات الأمريكية في العراق، يُذكر أنه في الفترة الممتدة من أكتوبر 2019، حتى مارس الماضي، وقع أكثر من 25 هجوم صاروخي على القواعد الأمريكية في العراق بواقع 160 صاروخًا. وكان آخر الضربات المدفعية الصاروخية المركزة لكتائب حزب الله على معسكر التاجي في بغداد، يوم ميلاد “سليماني” الثالث والستين، فيما يؤشر إلى أن طهران مازالت تتطلع للثأر بعد توجيه ضربتها الصاروخية الأبرز في الثامن من يناير.
اللافت، كان تطوير إيران لمنصات إطلاق صواريخ الكاتيوشا ووضعها في إحداثيات جديدة بعيدة عن تقارير الاستخبارات والطلعات الاستطلاعية. ما جعل قصف معسكر التاجي هو الهجوم الأول الذي يسفر عن مقتل جنود أمريكيين، منذ هجوم ديسمبر الماضي على قاعدة عسكرية أمريكية في مدينة كركوك في كردستان العراق، الذي قُتل خلاله مقاول أمريكي.
2 – زيادة الانتشار البحري حول مضيق هرمز
في خطوة جديدة في مسار التصعيد الإيراني ضمن سياقات المواجهات مع الولايات المتحدة، وانخراطها المباشر، نشرت إيران منظومات صاروخية “فجر3” في جزيرة “قشم” قبالة مضيق هرمز. يصل مدي المنظومة لـ 40 كلم، أي يغطي شطري المضيق.
الجدير بالذكر أن إيران بدأت في نشر المنظومة مطلع إبريل الجاري، وتبعها حدوث مناوشات بين زوارق القوة البحرية للحرس الثوري “11 زورق” مع السفن الأمريكية في مياه المضيق.
بدوره أعلن الرئيس الأمريكي، عقب واقعة تحرش زوارق الحرس الثوري، أنه أمر القوات البحرية بالتعامل مع التهديدات المماثلة وإطلاق النار. تجيء تصريحات الرئيس الأمريكي بالتزامن مع الإطلاق الناجح للحرس الثوري لقمر صناعي مخصص للأغراض العسكرية قبل يومين وذلك بعد إطلاق عمليتين فاشلتين العام الماضي. الإطلاق الناجح هذه المرة عاظم من قلق المسؤولين في البنتاجون من تطوير إيران لترسانة صواريخ عابرة للقارات، بوصف هذا الركن من الخطوط الحمراء التي تسعي الولايات المتحدة ألا تتعداها إيران، مستخدمة العقوبات الاقتصادية والضربات الاستباقية والعمليات الاستخباراتية. فيما توجهت سفين الإنزال والهجوم البرمائي الأمريكية “سكورسي” لمياه الخليج، ونفذت طائرتها طلعات استطلاعية مكثفة.
3 – توجيه الضربات الصاروخية الباليستية من اليمن، أعلن تحالف دعم الشرعية في اليمن وقفًا لإطلاق النار في الثامن من أبريل الجاري، في مساعِ لتهدئة حدة المواجهات الميدانية بمناطق الشمال وسط تخوفات دولية وأممية من تفشي وباء كورونا وتهالك المنظومة الصحية بالبلاد. لكن ثمة تطورًا اتسم بالجراءة قبيل إعلان التهدئة، وكان في إطلاق ميليشيا الحوثي في 28 من مارس الماضي لصاروخين باليستيين باتجاه مدينتي جازان والرياض في السعودية التي نجحت في اعتراض الصاروخين بمنظومات الباتريوت الدفاعية الصاروخية، كما تلى موجة الإطلاق الأولي واحدة أخري في منتصف الشهر الجاري، وكانت الصواريخ الحوثية في طريقها لأهداف في مأرب، قبل اعتراضها بمنظومة الباتريوت.
ثانيًا: تركيا
تحتل تركيا المرتبة الأولي بالشرق الأوسط في تسجيل حالات الإصابة بفيروس كورونا، لتتخطي بذلك إيران، بإجمالي عدد إصابات يقترب من حاجز المائة ألف، كما تحتل تركيا المرتبة السابعة عالميًا في تفشي الوباء؛ لكن ذلك الوقع الثقيل لحالة تفشي الوباء لم يلجم السياسات التوسعية التركية وأنماطها المختلفة، بل على النقيض، دفعها نحو مزيدًا من الانخراط والاشتباك المباشر – أحيانًا – مع الجغرافيا السياسية. ووضع نسق “الراعي – الوكيل” ضمن مرحلة جديدة تعاظمت فيها الأهداف لتصل في الحالة الليبية أبعد من تثبيت السيطرة على طرابلس ومصراته، وجاء أبرز أنماط الانخراط التركي كالاتي:
1 – مواصلة تحشيد القوات العسكرية خلف طريق إم – 4، إدلب. حيث تواصل تركيا منذ اليوم الأول للتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في موسكو مطلع مارس الماضي، والذي قضي فصل تواجد القوات المتصارعة حول الطريق الدولي إم -4 الرابط بين حلب – اللاذقية، بعمق 6 كلم على جانبي الطريق.
سعت تركيا لتثبيت سيطرتها النارية شمال طريق إم-4، وإنشاء نقاط مراقبة عسكرية جديدة لها، ليبلغ اجمالي النقاط العسكرية في مناطق خفض التصعيد 59 نقطة، منهم نقاط مأهولة بالعتاد والأفراد، وأخري كمائن متنقلة وكبائن مضادة للرصاص. كما تشير تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان، وصول أكثر من 4000 آلية عسكرية تركية ما بين مدرعة وناقلات جند ودبابات وقطع المدفعية ذاتية الحركة والمقطورة، ونحو 9000 جندي وضابط تم إرسالهم لمناطق شمال غربي سوريا خلال الأربعة أشهر الماضية. تجدر الإشارة إلى أن التحشيد التركي شرقًا استمر أيضًا وأسفر عن إنشاء قاعدة عسكرية تركية في مدينة تل أبيض في 19 إبريل الجاري.
2 – الاشتباك المباشر مع الجغرافيا السياسية، تزامن وصول تركيا لذروة تفشي وباء كورونا مع انتهاجها سياسة هجومية نشطة تجاه “أهداف” في العراق وليبيا. ففي العراق قصف طائرات مسيرة تركية مقرًا لحزب العمال الكردستاني، ومن جهتها، أعلنت وزارة الدفاع التركية “تحييد 4 من الإرهابيين” في غارة جوية على جبل قنديل، شمالي العراق.
وفي ليبيا، سجلت البحرية التركية أول اشتباك مسلح مباشر مع هدف جوي تابع للجيش الوطني الليبي فوق مدينة “صبراته”، حيث سقط صاروخ سطح جو، طراز Rim 66E. مطلع إبريل الجاري.
3 – تكثيف عمليات نقل المرتزقة السوريين والعتاد التسليحي لليبيا، سجل الميدان الليبي في الأسابيع الأخيرة نشاطًا ملحوظًا في الرحلات الجوية المشبوهة من مطارات غازي عنتاب وأنقرة وإسطنبول، باتجاه مصراته وطرابلس.
وفي سياق ذلك، اشتدت حدة المعارك بين الجيش الوطني الليبي وميليشيات حكومة الوفاق حول المحاور الجنوبية والغربية للعاصمة طرابلس وخاصة بعد نجاح ميليشيات الوفاق من السيطرة على عدة مدن ضمن الجيب العسكري الغربي، منها صرمان، وصبراته. فيما وضعت تركيا المرتزقة السوريين في الخطوط الجبهة الأولي، ما تسبب في أسر العديد منهم وترحيلهم إلى بنغازي للتحقيق.
يُلاحظ السياسة النشطة لكل من تركيا وإيران برًا وبحرًا، ورفع مستوي أنساق “الوكيل – الراعي” بصورة راعت تنوع مسارح المواجهة وفرص فرض الوقائع الميدانية.. فلماذا انخرطتا تركيا وإيران بهذه الأنماط؟
- تعزيز حالات عدم الاستقرار الممتد، إذ تتعاظم مكاسب المشروعات التوسعية الأممية ولاسيما العقائدية في ظل حالات عدم الاستقرار المحفزة على الاقتتال الداخلي وتفكيك المجتمعات من الداخل دون استخدام القوة الصلبة والغزو العسكري.
- تثبيت صراعات المناطق الرمادية ونقلها لبؤر مناطقية جديدة، إذ يركز مفهوم الصراعات الرمادية على المساحة بين حالة الحرب والسلام، من خلال توظيف الفاعلون لمختلف الأدوات لتحقيق الأهداف الأمنية والاقتصادية والسياسية، عبر أنشطة تتجاوز حدود التنافس التقليدي، إلا أنها تقع في دائرة دون مستوي الصراع العسكري الكامل. ومن الأمثلة الدالة على “المناطق الرمادية”، محافظة إدلب السورية، حيث شملتها العديد من مشاريع التسوية السياسية والاتفاقات المنبثقة منها ” أستانا – سوتشي ” ومازالت تُبقي على جذور الصراع مشتعلة وتدفع بدوران التنافس الإقليمي مرة تلو الأخرى حسب تنوع الظروف الميدانية والمتغيرات السياسية. كما استنخت إيران نموذجها للصراعات الرمادية في اليمن والعراق ولبنان.
- الدفع دائمًا بتسويات الحد الأدنى، وذلك بسبب تعثر إنجاز التسويات الشاملة وتقديم حلول التهدئة المرحلية والهدن المؤقتة عوضًا عن التعامل مع جذور الأزمات، إذ بات ذلك سمة من سمات تعاطي مشروعي تركيا وإيران مع مناطق الصراعات. فالدولتين تتبنيان مشاريع عقائدية تقوم انعدام الثقة بين أطراف الصراع، وإرث العداء التاريخي بين الخصوم، وهيمنة قيم “الثأر” على مجمل التفاعلات الميدانية، وتصميم كل منها على إنهاء الوجود المادي للآخر، وهو ما يجعل التوصل لتسوية تقوم على المكاسب النسبية غير قائم في إطار هذه الصراعات المعقدة، وقد أثبت تعاطي تركيا مع مخرجات مؤتمر برلين نموذجا واضحًا لذلك، كما الحال مع إيران في الجنوب السوري والتهدئة في اليمن.
وعليه، فإن مناطق الاختناقات المرورية بالمنطقة قد تواجه تحديات مضاعفة وخاصة بعد الأهمية الكبرى التي توليهما تركيا وإيران لهذه المناطق من مضيق هرمز لباب المندب، فضلًا عن خطر انفلات الجيوب العسكرية الضيقة التي باتت تُحاصر فيها الميليشيات المسلحة. ما يضع مجمل التقديرات الميدانية لمرحلة مشابهة لما قبل تحرير مدينة سرت الليبية في السادس من يناير الماضي. ما ينذر بهجوم مضاد وشيك، في الغرب الليبي، وفي الشمال الغربي السوري، قد يربك حسابات الفواعل الإقليمية والدولية، ويضع المشاريع التوسعية العقائدية أمام سقف جديد من التحديات.
إجمالًا، يمكننا القول إن جائحة كورونا وفرت بيئة أمنية مواتية للمشاريع العقائدية للتمدد ونقل بؤر الصراع لمناطق جديدة، ولاسيما في حالة السيولة الأمنية التي يعيشها العالم حاليًا مع ارتداد الكثير من القوي الدولية والغربية للداخل وتركيزها على التعاطي الجيد مع معدلات الإصابة والوفاة جراء الفيروس التاجي الذي أوقع سلاسل التوريد قبل أن يقوم بتخفيض الاستعداد القتالي للقوات ذات الانتشار الإقليمي والعالمي، لتحتدم المواجهة أكثر بين الوطنية والأممية، ما قد يسهم في إبراز صعود الإقليمية بشبكات تحالفاتها الأمنية والاقتصادية أمام العالمية ومستقبل التنسيق والتعاطي الدولي أمام الأزمات.