الصحافة العربية

مصر في “شرقي الفرات” .. دور فعال وخطوات محسوبة بدقة

سلطت التصريحات المتتالية التي صدرت مؤخراً عن أقطاب “مجلس سوريا الديموقراطية” وقيادات كردية أخرى شرقي الفرات في الجمهورية العربية السورية، الضوء على الدور المصري “الهادئ والمثابر” في ملف الأزمة السورية بصفة عامة، والملف الكردي بصفة خاصة. هذا الدور يرتبط ارتباطا وثيقاً بالثوابت المصرية التي تحكم نظرة القاهرة للملف السوري، والتوازنات الإقليمية والدولية التي تضعها كمحددات عامة لأسلوب تعاملها مع الملفات الخارجية.

شرقي الفرات … على أعتاب أنقرة

لم تكن المحاولات المصرية لتقريب وجهات النظر بين دمشق والأحزاب الكردية شرقي الفرات وليدة الأسابيع الماضية، بل تعود تحديداً الى ديسمبر الماضي، حين أدلت الرئيسة التنفيذية لمجلس سوريا الديموقراطية “إلهام أحمد” بتصريحات صحفية طالبت فيها مصر بالدخول كوسيط بينها وبين الحكومة السورية على ضوء التهديدات التركية التي بدأت في ذلك التوقيت بشن عملية عسكرية، وعلى ضوء الإعلان الأمريكي بانسحاب الوحدات الأمريكية المتواجدة شرقي الفرات. 

من ذلك التوقيت بدأت الدبلوماسية المصرية في التحضير لدور مصري بارز في هذا الملف، ونبع هذا الموقف من رغبة مصرية في الحفاظ على ثوابتها في ما يتعلق بالملف السوري، وتحديداً مبدأ وحدة الأراضي السورية، والحفاظ على السيادة السورية، ويضاف الى ذلك رغبة مصرية في مزيد من الضغط على أنقرة التي باتت مطامعها في سوريا وخارجها مصدر قلق متزايد للقاهرة، التي تقوم حالياً بمحاصرة هذه المطامع في ليبيا وشرقي المتوسط، ومن خلال دورها في سوريا تحاول إيقاف التحركات التركية التي تهدد وحدة الأراضي السورية، والديموغرافيا المحلية السورية، في ظل ما نتج عن التصرفات التركية في شمالي سوريا من عمليات “تتريك” و”توطين” تهدف الى إحداث تغيير على المدى الطويل في البيئة السكانية والديموغرافيا الخاصة بالمناطق الحدودية بين تركيا وسوريا.

ظهرت نتائج هذا التحضير واضحة في سرعة رد الفعل المصري عقب بدء العملية العسكرية التركية “نبع السلام” في أكتوبر الماضي، فقد كانت القاهرة الدولة الأولى على الإطلاق في إصدار بيان واضح الألفاظ وشديد اللهجة تدين فيه “العدوان” التركي على السيادة السورية، وتبع هذا البيان عدة إجراءات من بينها الدعوة لاجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب، والتأكيد على إدانة هذا العدوان في عدة محافل دولية من بينها خلال الجلسات التحضيرية لقمة دول عدم الانحياز التي تم عقدها في العاصمة الآذرية “باكو” أواخر أكتوبر الماضي. الإجراء الأكثر إثارة للأهتمام في الردود المصرية على العدوان التركي على سوريا كان في دعوة غير مسبوقة من جانب وزير الخارجية المصري الى وفد من قوات سوريا الديموقراطية لزيارة القاهرة، وقد عقد الوزير المصري مباحثات هامة مع هذا الوفد الذي كان على رأسه الرؤساء المشتركين لمجلس سوريا الديموقراطية السيد رياض درار والسيدة إلهام أحمد. وقد نقل الوفد صورة الوضع القائم شرقي الفرات الى الخارجية المصرية، وطلبوا دعم مصر على المستوى السياسي والإعلامي وغيرها من المستويات لمقاومة وحداتهم للعدوان التركي، وكذا تدخل مصري لتطويق آثار العدوان التركي بالتعاون مع دمشق وموسكو. مصر بدورها أكدت على عدم صحة اية ذرائع قدمتها أنقرة لتبرير عدوانها على سوريا، وأن حق مقاومة هذا العدوان مشروع حسب كل المواثيق الدولية.

بعد أيام من بدء العدوان التركي، دخلت مصر مع موسكو ودمشق في مشاورات تستهدف إيجاد صيغة ولو مؤقتة تسمح بعزل الوحدات الكردية عن التماس مع قوات الجيش التركي، وإحلال وحدات من الجيش العربي السوري مكانها، مما يحبط المبرر الأساسي الذي تتخذه أنقره سبباً لعدوانها وهو تواجد الوحدات الكردية قرب الحدود المشتركة بين تركيا وسوريا. هذا المسعى حاولت القاهرة القيام به أواخر العام الماضي لكنه اصطدم بتعنت كردي، لكن الأمور في هذه المرة كانت مختلفة، وتم التوصل لاتفاق رعته أيضاً روسيا، يقضى بانتشار وحدات الجيش العربي السوري قرب الحدود مع تركيا، وانسحاب الوحدات الكردية لمسافات تتراوح بين 30 و40 كيلو متر في عمق مناطق شرقي الفرات، وقد تقاطع هذا الاتفاق مع اتفاق رعته الولايات المتحدة بين الوحدات الكردية وتركيا التزمت فيه الوحدات الكردية بالانسحاب الى الداخل السوري، وقد دخلت الوحدات العسكرية السورية بالفعل للمرة الأولى إلى مناطق جنوبي غرب مدينتي القامشلي والرقة، وبلدة عين عيسى شمال غرب الرقة، وتستكمل تدريجياً عمليات انتشارها بحيث تغطي كافة المناطق الحدودية.

أهمية الاتفاق الكردي – السوري لا تتمثل فقط في أنه يمثل الخطوة الأولي في تقريب وجهات النظر بين الدولة السورية والأحزاب الكردية شرقي البلاد بما يحفظ وحدة البلاد ومنع أية محاولات انفصالية او تقسيمية تتعارض مع الثوابت السورية والمصرية، بل انه أيضاً يمهد لحلول دائمة لمعضلة سياسية وعسكرية نشأت في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية للجمهورية السورية بفعل الأحداث التي تشهدها البلاد منذ عام 2011، وتقلل بشكل حاد من هامش المناورة الأمريكية والتركية في سوريا بما يسمح لاحقاً بتطويق تدخل البلدين في الشأن السوري، وتحجيم تأثير هذا التدخل. القاهرة من جهتها فرضت نفسها كطرف نزيه وموثوق به من كل الأطراف السورية، وهو ما يخولها لعب دور أكبر وأهم في هذا الملف عندما نقترب من المنعطف الأخير للأزمة السورية على المستوى السياسي، خاصة وأن مصر حرصت دوماً على ان تظل كافة جهودها في سوريا في الظل، دون ممارسة أية متاجرة سياسية أو فرض إملاءات أو تدخلات على أي طرف من الأطراف السورية على الأرض.

قوات سوريا الديموقراطية ثمنت منذ أيام المجهود المصري في هذا الملف، وذلك عبر تغريدة كتبها القائد العام لقوات سوريا الديموقراطية “مظلوم عبادي”، وقد أكدت مصر على مواقفها في هذا الملف قبل هذا بأيام خلال اجتماعات المجموعة المصغرة الخاصة بالائتلاف الدولي لمحاربة داعش الذي تم عقده في وزارة الخارجية الأمريكية.

أدوار مصرية أخرى في الملف السوري

لم تكن هذه الوساطة هي الأولى التي تقوم بها الدبلوماسية المصرية في الملف السوري، بل سبقتها العديد من الوساطات “المناطقية”، البداية في أكتوبر 2016 حين قامت السفارة المصرية في دمشق بدور الوسيط بين الأمم المتحدة والحكومة السورية من أجل إدخال مساعدات إغاثية الى مدينة حلب، وقد أسفرت هذه الوساطة عن إدخال عدة قوافل من المساعدات الى مناطق مختلف من المدينة. تلا ذلك وساطة أخرى في يوليو 2017، قامت فيها القاهرة بالاشتراك مع روسيا برعاية اتفاقية للهدنة في غوطة دمشق الشرقية، تم توقيعها في القاهرة، وقد ساهمت هذه الهدنة التي استمرت لعدة أسابيع في تحسين الأحوال المعيشية للسكان في هذا النطاق عن طريق إدخال مساعدات إغاثية. في الشهر التالي رعت القاهرة بالمشاركة مع روسيا اتفاقية مماثلة للهدنة في ريف حمص الشرقي، تم توقيعها أيضاً في القاهرة، وشملت عشرات البلدات، ووفرت عدة ممرات إنسانية آمنة عملت من خلالها منظمات الإغاثة الدولية.

شهد شهر أكتوبر من نفس العام وساطة مصرية أخرى، تم بموجبها توقيع وقف لإطلاق النار في حي “القدم” جنوبي العاصمة السورية دمشق. عام 2018 شهد في شهر يوليو وساطة مصرية أخرى تم بموجبها توقيع اتفاق للمصالحة بين الحكومة السورية وفصائل معارضة، شمل إعادة النازحين والإفراج عن المعتقلين، في الشهر التالي تم توقيع اتفاق مماثل للمصالحة بين الحكومة السورية وفصائل معارضة من شمال وشرق البلاد. يضاف كل ما سبق الى جهود سياسية مصرية على مستوى التعامل مع فصائل المعارضة المعتدلة، من بينها تكوين ما يعرف بتيار القاهرة في المعارضة السورية، والذي عقد اجتماعات متتالية في القاهرة، وساهمت مكوناته ومن بينها “تيار الغد” في معاونة القاهرة لتنفيذ وساطاتها لإيقاف إطلاق النار في سوريا، بالإضافة الى مؤتمرات عشائرية وقبائلية للمكونات المتواجدة في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور.

ختاما

اذن نستطيع أن نصل إلى خلاصة مفادها أن الدور المصري على المستوى السياسي في سوريا هو الدور الوحيد الذي لا خلاف عليه من الأطراف السورية الرئيسية، بل وحتى من الأطراف الدولية المنخرطة في الميدان السوري “عد تركيا بالطبع”، وأكبر دليل على هذا هو الحرص الروسي على التعاون مع القاهرة في ملف المصالحات، والتنسيق الواضح بين البلدين بما يخدم المصلحة السورية. بل إن إيران نفسها ترى في مصر وسيطاً نزيهاً لا غبار عليه، ولذلك اشترطت طهران وبالتأكيد موسكو حضور مصر للاجتماع الوزاري الذي تم عقده حول سوريا في مدينة لوزان السويسرية بشهر أكتوبر عام 2016. هذه الثقة بشكل عام تعود الى النهج المصري الرافض للتدخل الخارجي في الشئون الداخلية العربية، ورفضها سياسة فرض الإملاءات على الحكومات المستقلة، وكونها هي الدولة الوحيدة التي أعلنت بشكل واضح بنود رؤيتها للملف السوري، وهي الحفاظ على الدولة السورية وسيادتها ووحدة وسلامة أراضيها، حماية مؤسسات الدولة السورية وتفعيلها على كامل التراب السوري، ورفض أي تدخل خارجي في الشأن السوري، ورفض أي عدوان أو عمل مسلح ضد الدولة السورية، ووضع الحل السياسي كخيار وحيد لحل الأزمة، وإعادة إعمار سوريا، ونزع أسلحة الميليشيات والمجموعات الإرهابية، ومواكبة تطلعات الشعب السوري الاقتصادية والسياسية.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى