
خطأ دبلوماسي ألماني فادح
تكتسب العلاقات الألمانية مع إسرائيل أهمية خاصة؛ وذلك نتيجة لمجموعة من العوامل المتعلقة بخلفيات تاريخية معروفة، والتي تجعل قضية أمن إسرائيل ضمن أولويات مختلف الحكومات الألمانية المتعاقبة وهو الأمر الذي يجعلنا نتفهم المحاولات الألمانية المتواصلة للتكفير عن جريمة المحرقة التي اقترفت ضد اليهود وهو الأمر الذي انعكس على علاقات ألمانيا بإسرائيل وقيامها بتقديم مختلف أنواع التعويضات لها والتي انعكست أيضًا على نمط تصويت ألمانيا على مختلف مشاريع القرارات التي يتم طرحها في إطار الأمم المتحدة والتي تتناول الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة فضلًا عن مواقف ألمانيا في إطار الاتحاد الأوروبي المؤيدة لإسرائيل.
إلا أن الأمور كما يبدو قد تجاوزت الحد الأدنى من المنطق والعقل ومختلف الاعتبارات السياسية وحتى الإنسانية والأخلاقية بالبيان الذي أدلت به أنالينا بيربوك وزيرة خارجية ألمانيا أمام البرلمان الألماني يوم 10 أكتوبر 2024 والذي ذكرت في إطاره “أنه يمكن لإسرائيل قتل المدنيين في غزة لحماية نفسها” وذلك في سابقة خطيرة لم تجرؤ أن تقدم عليها علنًا أعتى الدول التي تقدم مختلف أنواع الدعم غير المشروط لإسرائيل، خاصة وأن مقتل ما يقرب من 50 ألف فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء وحرق الفلسطينيين أحياء حتى الموت في مستشفى شهداء الأقصى لا يمكن تفسيره بأنه يأتي في إطار حماية إسرائيل لنفسها ولا ندري إذا كان الشعب الألماني يقبل أن تستخدم الأسلحة الألمانية التي يتم إرسالها لإسرائيل في ارتكاب محرقة جديدة للأطفال والنساء.
ويزيد من خطورة الموقف استمرار ألمانيا في تقديم الدعم العسكري لإسرائيل رغم ما صدر عن محكمة العدل الدولية حيث بلغت قيمة صادرات الأسلحة الألمانية لإسرائيل ما يفوق ٣٢٦ مليون يورو خلال عام ٢٠٢٣ و ١٤,٥ مليون يورو في الفترة من يناير حتى أغسطس ٢٠٢٤ وهي بذلك تعتبر ثاني أكبر مصدر للأسلحة لإسرائيل بعد الولايات المتحدة الأمريكية وهو موقف مختلف تمامًا عن الدول الغربية الأخرى التي أوقفت صادراتها العسكرية لإسرائيل والتي تشمل إيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا وكندا بعد أن اتضح لتلك الدول أن صادراتها من الأسلحة لإسرائيل يمكن أن تمثل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني في ظل إمكانية استخدامها في قتل المدنيين العزل أخذًا في الاعتبار الاتهامات الجادة الموجهة لإسرائيل بارتكاب جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وحتى بالنسبة لبريطانيا فقد قامت بتعليق ٣٠ تصريحًا لتصدير الأسلحة لإسرائيل من إجمالي ٣٥٠ صفقة تسلح تم تنفيذها بالفعل في حين أوقفت هولندا صادراتها من الأسلحة لإسرائيل بمقتضى حكم قضائي تم بمقتضاه حظر تصدير قطع غيار طائرات ال F.35 في ظل القلق من استخدامها في قتل المدنيين الفلسطينيين، وعلى الرغم من التقارير الإعلامية التي توحي بوجود خلافات بين المستشارية الألمانية والحكومة
إلا أنه لم يصدر حظرًا قاطعًا على تصدير الأسلحة الألمانية لإسرائيل حتى الآن وهو الأمر الذي دفع Alexander Schwarz القاضي في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR إلى التصريح بأن الانخفاض الذي تشهده قيمة الصادرات الألمانية لإسرائيل خلال عام ٢٠٢٤ مقارنة بعام ٢٠٢٣ لا يجب تفسيره بأنه يمثل تغييرًا حقيقيًا في السياسة الألمانية.
ونظرًا لتلك المواقف التي تتخذها ألمانيا تحديدًا فإن ادعاءات تمسكها بقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في نسيج علاقاتها مع مختلف دول العالم تحتاج إلى إعادة نظر بعد أن ثبت أن تطبيقها لذلك يتم على أسس انتقائية غير واقعية وتتسبب في إثارة العديد من علامات الاستفهام حيال سلامة المواقف التي تتخذها تمتد للتشكك في مصداقية ما تدعيه.
ألمانيا بتكوينها السياسي اليوم تختلف تمامًا عما كانت عليه في السابق، فهي ليست ألمانيا بسمارك أو كونراد أديناور أو فيلي برانت أو هيلموت شميدت أو هيلموت كول أو غيرهارد شرودر أو أنجيلا ميركل. فكما يبدو فإننا الآن أمام ألمانيا مختلفة تعاني سياستها الخارجية من الاضطراب الشديد.