مقالات رأي

إسرائيل وتغيرات محتملة في خريطة الشرق الأوسط

على الرغم من مشاعر الإحباط والحزن والأسى نتيجة لتواصل الإجرام الإسرائيلي الذي فاق التصور ولمواقف قوى غربية ظلت لعقود تدعي تمسكها بمبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وبكل ما يشمله القانون الدولي الإنساني وغيره من الصكوك الدولية المعنية، وبعيدًا عن مخزون الشعارات الهائل لدى العديد من الحالمين، إلا أن ذلك، في تقديري، لا يجب أن يمنعنا من إدراك أننا قد نشهد خريطة جديدة لمنطقتنا بحدود وتوازنات قوى مختلفة تتلاقى وتتنافر فيها خطوط أهداف وآمال لأطراف غير متجانسة وربما معادية.

فبعد مرور أكثر من عام فقد امتدت الحرب من غزة إلى ما هو أبعد من إسرائيل وفلسطين مع تزايد التصعيد في مختلف أنحاء المنطقة، إذ شهدت الأسابيع الماضية قيام إسرائيل بتعميق عدوانها على لبنان وإبقاء شمال قطاع غزة تحت الحصار مع تواصل أعمال القصف والقتل والتدمير كما شنت إسرائيل هجومًا غير مسبوق على إيران ردًا على الهجمات الصاروخية التي شنتها طهران على الأراضي الإسرائيلية مع تواصل ما تقوم به جماعة الحوثيين من هجمات استدعت تدخلات إسرائيلية عسكرية في اليمن ذاتها، وبات الموقف في منطقتنا معرضًا للمزيد من التدهور إلى مستويات بالغة التعقيد والخطورة، ومع صعوبة توقع ما ستؤول إليه مجمل الأوضاع بعد انتهاء الحروب التي نشهدها، إلا أن ذلك لا يجب أن يمنعنا من تصور مجموعة من الاستنتاجات الأولية عن تطورات يمكن أن تشهدها منطقتنا والتي قد يدخل في إطارها: –

١– إن ظاهرة وجود منظمات أو مليشيات مسلحة منشقة عن السلطة الشرعية للدولة الوطنية، لها انتماءات دينية أو طائفية أو أيديولوجية معينة، تقوم بتنفيذ استراتيجية إيرانية وتتمتع بالقدرة عن شن حروب غير مدركة للعواقب، أصبحت ظاهرة غير قابلة للاستمرار، فليس من قبيل المبالغة القول إن مكانة حزب الله في لبنان وحماس في غزة قد تعرضت لتصدعات هائلة خاصة وأنه ليس من الثابت أن أفعالها ومعها أفعال إيران قد أفادت القضية الفلسطينية في النهاية، فنموذج الحرب بالوكالة بعد كل هذا الدمار والخراب والاعداد الهائلة من الشهداء والمصابين قد أثبت ربما أنه كان من الأفضل عليها أن تقوم بإجراء تقويم موضوعي لمجمل الأوضاع الإقليمية والدولية ولطبيعة الحكومة القائمة لدى الخصم وإمكانياتها العسكرية قبل الشروع في القيام بعمليات عسكرية دون إدراك لما يمكن أن يترتب عليها من آثار كارثية، فمع الأهداف الإسرائيلية بأن ينقلب الفلسطينيون ضد حماس واللبنانيون ضد حزب الله وأن يلقوا باللوم على تلك المنظمات نتيجة لكل الدمار والخراب والضحايا، فهناك بالفعل مؤشرات توحي بذلك في غزة وبدرجة أكثر وضوحًا في لبنان، خاصة وأن حزب الله كان من بين العوامل المسؤولة عن شلل الحياة السياسية في لبنان فضلاً عن الخراب الاقتصادي الذي لحق بالبلاد بعد أن ظل ينفذ حرفيًا استراتيجية إيرانية بالحرب بالوكالة التي بمقتضاها تدفع اليوم لبنان بأسرها كدولة ومجتمع ثمن تلك الاستراتيجية، لذا فإنه على دوائر عاقلة في منطقتنا أن تجري تقييمًا موضوعيًا، بعيدًا عن الشعارات والأوهام والخرافات، عن تداعيات الدور الذي قامت به إيران والمنظمات والمليشيات التي تدور في فلكها من أجل دعم القضية الفلسطينية وانعكاساته الخطيرة على أوضاع الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة، وهو الأمر الذي يجب أن يمتد إلى ضرورة تقييم تداعيات هذا الدور على لبنان وما آلت إليه أوضاعها وأوضاع شعبها وذلك من أجل محاولة التوصل إلى استنتاجات حيال المحصلة النهائية لنتائج هذا الدور الإيراني والتصدعات التي لحقت بمستقبل القضية الفلسطينية ذاتها وبمستقبل لبنان كدولة وبمجمل الأوضاع الإقليمية.

٢– إنه لن يسمح لإيران بالتحول إلى دولة نووية، إذ تشير بعض المعلومات المنشورة عن نتائج الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران إلى أنه تم تدمير الغالبية العظمى وربما كافة أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية من بطاريات الـ S-300 وبعض أنظمة الـ S-400 المتقدمة التي حصلت عليها إيران من روسيا وذلك في هجوم متزامن على أنظمة الدفاع الجوي في سوريا والعراق الأمر الذي دفع بالمتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي إلى التصريح بأن إسرائيل قد قلصت بشكل كبير قدرة إيران على اكتشاف واعتراض الأهداف الجوية المعادية وأن إسرائيل باتت تتمتع بحرية عمل جوية أوسع في إيران هذا إلى جانب تدمير عدد من منشآت محركات الوقود الصلب والسائل التي تعتبر ضرورية لإنتاج الصواريخ الباليستية، حيث تم تدمير 20 هدفًا في محافظات طهران وإيلام وخوزستان، وذلك في رسالة إلى القيادة الإيرانية توضح لها عمق القدرات الاستخباراتية الإسرائيلية وأبعاد الاختراق العملياتي الذي جعل إسرائيل تحقق أهدافها المحددة من هجومها دون أدنى خسائر. كما تؤكد تلك الرسالة في ذات الوقت أن البرنامج النووي الإيراني والمنشآت البترولية الإيرانية ليس بعيد المنال عن العمليات العسكرية الإسرائيلية مستقبلًا. ومع تصاعد الحديث عن احتمالات قيام إيران بالرد على الهجوم الإسرائيلي وعن احتمالات التوصل لوقف إطلاق النار في غزة أو في لبنان، إلا أنه من العسير تصور أن الهدف النهائي من الحروب الإسرائيلية الدائرة يقتصر على مجرد تدمير المنظمات والمليشيات التي تدور في فلك إيران وتنفذ استراتيجيتها، إذ إنه يمتد إلى الحيلولة دون تحول إيران إلى دولة نووية، وهو الهدف الذي لا يدخل في إطار مجرد سعي إسرائيل إلى تعزيز أمنها، إذ يتلاقى أيضًا مع أهداف عدد من دول المنطقة التي لا تستطيع هي الأخرى تحمل احتمالات تحول إيران لدولة نووية. لذا فإنه من غير المستبعد أن نشهد تكرارًا للهجوم الإسرائيلي على إيران مستقبلًا، وأن الهجوم الإسرائيلي الذي شهدناه قد لا يكون الأخير.

٣– ودون الخوض في مدى صحة الاعتقاد بأن هجوم السابع من أكتوبر قد وضع القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمامات الدولية التي باتت تتحدث مجددًا عن صيغة حل الدولتين إلا أن ذلك يدفعنا إلى التساؤل عن الأطراف المعنية التي يمكنها التفاوض على تفعيل تلك الصيغة المقترحة والقادر من الطرفين على تقديم تنازلات أخذًا في الاعتبار أنه من الخطأ تصور أن الرفض الإسرائيلي على مبدأ إقامة دولة فلسطينية مستقلة يقتصر على نتنياهو وعلى حكومته التي تعد الأكثر تطرفًا منذ قيام دولة إسرائيل في ١٤ مايو ١٩٤٨ فالمجتمع الإسرائيلي ذاته يتجه بمعدلات متسارعة نحو اليمين وأن الدعم لحل الدولتين، قد انخفض بشكل مطرد بين اليهود الإسرائيليين وهو الآن في أدنى مستوى له مقارنة بأي وقت مضى، إذ يمكن فقط إلقاء نظرة على مواقف الأحزاب السياسية اليهودية في إسرائيل حيال صيغة حل الدولتين أو قبول مبدأ إقامة دولة فلسطينية حتى لو كانت منزوعة السلاح، ويقابل ذلك انقسامات فلسطينية الحقت بالقضية الفلسطينية أضرارًا هائلة، ويضاف إلى التساؤل السابق تساؤل آخر يتعلق “بأين ستقام الدولة الفلسطينية المقترحة؟” هذا بافتراض وجود قيادات إسرائيلية قادرة على تقديم تنازلات على أراضٍ تآكلت بفعل الاستيطان ويعتبرون أنها تمثل جزءًا لا يتجزأ من إسرائيل التوراتية ونظرًا لأنه لا يمكن لإسرائيل الاستمرار في السيطرة على ٤,٥ مليون فلسطيني بلا حقوق، أو باحتلال يمكن أن يستمر إلى الأبد خاصة وأن الخيار العسكري واستخدام القوة الغاشمة لا يمكن وحده أن يحقق لإسرائيل ولشعبها الأمن والاستقرار المنشود، لذا فإن سيناريوهات “الوطن البديل” يمكن أن تتجدد وهو أمر لا يجب أن نستبعد حدوثه خاصة وأن خيار الدولة الواحدة سيصطدم حتمًا بقانون “الدولة القومية اليهودية” الذي أقره الكنيست الإسرائيلي في ١٩ يوليو ٢٠١٨ والذي يعكس حرص إسرائيل على أن تكون وطنًا قوميًا خالصًا لليهود فقط.

ومهما كانت دقة تلك الاستنتاجات المبدئية من عدمها، فإن منطقتنا مقبلة حتمًا على تحولات ستجعلها مختلفة عما كانت عليه قبل 2023. ولعل نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية سيكون لها انعكاساتها على العديد من أوضاعها سواء بالنسبة لإسرائيل أو إيران أو لبنان أو مستقبل القضية الفلسطينية أو غيرها أيضًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى