محاولات إنقاذ لبنان من مصير غزة
في لبنان، كما هي الحال في قطاع غزة، أُطلق العنان للجيش الإسرائيلي حيث ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البداية أن الهدف هو طرد حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني على أمل تمكين أكثر من 80 ألف إسرائيلي من العودة إلى منازلهم في شمال إسرائيل. ولكن في الأسابيع التالية، كُشف النقاب عن هدف أكثر شمولاً، حيث هدد الشعب اللبناني إما بإسقاط حزب الله أو “بتحويل لبنان إلى غزة أخرى” وطالب بإبعاد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة المنتشرة في الجنوب عن بعض أماكن تمركزها.
وبدأ الجيش الإسرائيلي في تطبيق بعض الأساليب التي سبق له اتباعها في التعامل مع غزة، فحوالي 25% من اللبنانيين خضعوا لـ”أوامر الإخلاء”، أي أن إسرائيل تجبرهم على مغادرة منازلهم استعدادًا لمزيد من العمليات العسكرية ضد حزب الله. حيث تم تدمير قرى بأكملها وتسويتها بالأرض مع تواصل استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع وصيدا وغيرها، وبدت لبنان بأكملها وكأنها مباحة للعمليات العسكرية الإسرائيلية. وأدى ذلك إلى نزوح أكثر من مليون شخص من المناطق التي استهدفتها الغارات الإسرائيلية مع مغادرة 275 ألف لبناني إلى سوريا وسقوط أعداد كبيرة مرشحة للتزايد من القتلى والجرحى.
لم يتمكن اللبنانيون حتى الآن من استيعاب كافة أبعاد فداحة ما حل ببلادهم، وذلك على الرغم من إدراكهم أن لبنان تُعاقب على قرارات اتخذها حزب الله بالتنسيق مع إيران بعيدًا عن الدولة اللبنانية ذاتها التي تعاني بالفعل من أزمة كبرى، فهي بدون رئيس منذ عامين، واقتصاد منهار، مع احتمالات اندلاع حرب أهلية مجددًا، فتحديات سياسية على المستوى الداخلي هائلة وحساسة تتزامن مع وجود معارضة لحزب الله من قبل أطياف من المجتمع اللبناني لقيامه بربط مصير لبنان بغزة، مما أدى إلى جر البلاد إلى حرب يترتب عنها دمار وخسائر بشرية ومادية تفوق التصوُّر.
ومع قيام إسرائيل بمواصلة التركيز على القضاء على التهديد بإطلاق النار عبر الحدود، واستهداف التسلسل الهرمي لقيادة حزب الله وتدمير بنيته التحتية العسكرية والاقتصادية بما فيها مخازن الأسلحة ومقار مؤسسة القرض الحسن، وتأمين عودة النازحين الإسرائيليين إلى منازلهم في الشمال، يتزايد التأكيد من قبل دوائر دولية وإقليمية ولبنانية على ضرورة تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 لعام 2006 والذي أسهم في إيجاد استقرار نسبي في لبنان على مدى 17 عامًا امتدت منذ نهاية الحرب بين إسرائيل وحزب الله عام 2006 وحتى اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر 2023.
وكان القرار قد دعا إلى نزع سلاح كافة المليشيات اللبنانية بما فيها حزب الله والعمل على استعادة الحكومة اللبنانية سيطرتها الكاملة على كافة الأراضي اللبنانية مع تأكيد قيام الحكومة اللبنانية بنشر قواتها المسلحة في الجنوب بالتعاون مع قوات اليونيفيل والى إيجاد منطقة عازلة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني جنوب لبنان تكون خالية من أي عتاد عسكري أو مسلحين باستثناء ما هو تابع للقوات المسلحة اللبنانية وقوات اليونيفيل بما يعني سحب قوات حزب الله إلى شمال نهر الليطاني على مسافة 30 كيلومترًا من الحدود مع إسرائيل، كما دعا القرار كذلك إلى تطبيق بنود اتفاق الطائف، وقراري مجلس الأمن 1559 لعام 2004 و1680 لعام 2006 بما في ذلك تجريد كافة الجماعات المسلحة من أسلحتها وعدم وجود قوات أجنبية إلا بموافقة الحكومة اللبنانية.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة قد حذّر، في خلاصة تقاريره الدورية عن تنفيذ قرارات مجلس الأمن، من خطورة احتفاظ “حزب الله” اللبناني بـ”قدرات عسكرية ضخمة ومتطورة”، ودعا الحكومة والجيش اللبنانيين إلى “اتخاذ كل الإجراءات الضرورية” لمنعه من حيازة الأسلحة والعمل من أجل تحويله إلى “حزب سياسي مدني صرف”، كما حذّر من أن “تورط حزب الله المتواصل في عدد من القضايا الإقليمية” لا يشكل فقط انتهاكًا لسياسة النأي بالنفس ومبادئ إعلان بعبدا، بل ينطوي أيضًا على خطر إيقاع لبنان في براثن العديد من النزاعات الإقليمية”، فضلًا عن أنه “يشكل خطرًا على استقرار لبنان والمنطقة بأسرها”.
إنقاذ لبنان من مصير غزة وعودتها كدولة كاملة السيادة تسيطر على كافة أراضيها، بعد أن ظلت لعقود تعاني من قيام مليشيات طائفية مسلحة باختطاف كيانها والانتقاص من سيادتها، يستلزم التحرك نحو تطبيق قرارات مجلس الأمن المعطلة منذ عام ٢٠٠٤ مع تنفيذ “اتفاق الطائف” الذي يعرف “بوثيقة الوفاق الوطني اللبناني” الذي تم التوصل إليه عام ١٩٨٩ لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية والذي نص، ضمن جملة أمور، على بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية وحل كافة المليشيات اللبنانية وإنهاء الطائفية السياسية وذلك وفقًا لخطة مرحلية وإلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة وفي القضاء وفي المؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة.
فمن غير الممكن أن تستمر ظاهرة وجود تنظيمات مسلحة لا تخضع لسيطرة الدولة الوطنية، وتنفذ استراتيجيات خارجية لإحدى القوى الإقليمية وتقوم على أسس طائفية وتتمتع بالقدرة على الانخراط في حروب تؤدي إلى خسائر سياسية واقتصادية وإنسانية تفوق التصور، ويمكن أن تتسبب في زعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي، فنموذج الحرب بالوكالة لم يعد من الممكن تصور استمراره مهما كانت أهدافه ودوافعه.
فمشاهد الدمار والخراب وصور الضحايا والجثث الممزقة والمحترقة وتواصل الأعمال الإجرامية الإسرائيلية وتزايد أعداد الشهداء والمصابين يجب أن تدفع مختلف الدوائر المعنية في لبنان وفي غيرها أيضًا إلى إجراء تقييم موضوعي لتداعيات الدور الإيراني ودور المنظمات والمليشيات التي تدور في فلكه وذلك من أجل محاولة التوصل إلى استنتاجات، تبتعد عن الشعارات والأوهام والخرافات، حول المردود النهائي لهذا الدور الفارسي وتأثيراته الحقيقية على مستقبل القضية الفلسطينية وكذلك على مستقبل لبنان ذاته وذلك حتى يمكن العمل على عودة الأمن والاستقرار والذي يتعرض لتحديات جسيمة لا يمكن اختزالها فقط في مجرد الإجرام الإسرائيلي الممنهج أو في التواطؤ الغربي معه وذلك في مشاهد ربما لم يشهدها العالم بهذا الوضوح المؤلم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومن أجل لجم نتائج الدمار الهائل عند هذا الحد الكارثي الذي تشهده لبنان، والذي دفع وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام إلى تقدير تكلفة إعادة إعمار لبنان بمبالغ تتراوح بين 20 إلى 30 مليار دولار، فإن التركيز يجب أن ينصب على عدة مسارات منها العمل من أجل التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، والشروع في تطبيق قرارات مجلس الأمن وخاصة القرار 1701 تحت السلطة الحصرية للدولة اللبنانية، مع تحرير عملية انتخاب رئيس للبلاد من أي اشتراطات، وعلى أن يحظى الرئيس بالثقة اللازمة حتى يبدأ في مسيرة إعادة تكوين السلطة الدستورية للدولة اللبنانية دون أي وصاية أو هيمنة خارجية، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني تكون مهمتها الشروع في إعداد خطة لإعادة بناء الدولة وإعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي، وتطبيق خطة للإصلاح والنهوض المالي والاقتصادي والإداري في البلاد تلتزم بمعايير الكفاءة والجدارة وبقواعد الحوكمة الرشيدة ومبادئ الشفافية والإفصاح والشفافية.
وعلى الرغم من الجهود الأمريكية المبذولة والتي يأتي في إطارها زيارة آموس هوكستين مبعوث الرئيس الأمريكي للبنان وإسرائيل وانعقاد مؤتمر باريس لدعم لبنان وزيارة أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي لعدد من دول المنطقة ووجود توافق واسع في الآراء غربي وعربي ولبناني حول ضرورة التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، إلا أن اتساع نطاق العدوان الإسرائيلي لا يوحي بأننا على مقربة من التوصل إلى ذلك، إذ يبدو أن نتنياهو عاقد العزم على مواصلة استهداف قادة حزب الله وتدمير ترسانة أسلحته وبنيته المالية والاقتصادية وإنهاء تواجده جنوب نهر الليطاني والنيل من مكانته العسكرية والسياسية في لبنان بما ينهي التهديد الذي كان يمثله بالنسبة لأمن إسرائيل وذلك ضمن سياسة إسرائيل الرامية إلى تدمير المليشيات التابعة لإيران في المنطقة وذلك بالتوازي مع استهداف إيران ذاتها ردًا على هجومها الصاروخي على إسرائيل، لذا فإنه من السابق لأوانه التوصل لاستنتاجات توحي بقرب انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان أو بإمكانية التوصل لوقف دائم لإطلاق النار قبل انتهاء إسرائيل من تحقيق أهدافها.