
قراءة في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن ممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة
في التاسع عشر من يوليو الجاري، أصدرت محكمة العدل الدولية فتواها بشأن “التبعات القانونية لسياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية”، وهي فتوى جاءت بناءً على طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 ديسمبر 2022، وذلك وفقًا للمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة لإعطاء فتوى (رأي استشاري)، ويشمل الطلب المقدم مجموعة من المسائل التي تتطلب الرد القانوني عليها من قبل قضاة المحكمة.
وجاء في الرأي الاستشاري الصادر عن المحكمة أن سياسات إسرائيل وممارساتها المشار إليها في طلب الجمعية العامة تنتهك القانون الدولي، وأن الإبقاء على هذه السياسات والممارسات هو عمل غير قانوني، واعتبار إسرائيل دولة معتدية ويجب أن تأخذ الهيئات الأممية والدول الإجراءات اللازمة للتعامل مع هذه الممارسات العدوانية، ويأتي ذلك في وقت يعمد فيه الاحتلال الإسرائيلي إلى تكثيف أنشطته الاستيطانية وتوسيع مصادرة أكبر مساحات من الأراضي في الضفة الغربية.
وعلى الرغم من عدم إلزامية هذه الفتوى، إلا أن لديها أهمية ودلالة رمزية قوية وتاريخية بالنظر إلى العديد من الاعتبارات الأخرى، على رأسها الضغط السياسي الذي تمثله الفتوى على إسرائيل دوليًا، وتراكم الاعترافات القانونية التي تدين الممارسات الإسرائيلية.
وفي ذلك الإطار، يسعى التقرير إلى تسليط الضوء على ماهية آلية “الرأي الاستشاري” لمحكمة العدل الدولية، وأهم ما جاء في الجلسة المنعقدة في التاسع عشر من يوليو الجاري، وأخيرًا دلالات هذه الخطوة في التوقيت الحالي.
أولًا: ماهية آلية “الرأي الاستشاري” لمحكمة العدل الدولية:
من المهم الإشارة إلى أنه وفقًا لنظام المحكمة الأساسي، لا يجوز إلا للدول أن تُمثل أمام المحكمة، وذلك لأن المهمة الأساسية التي نشأت المحكمة من أجلها هي “حل المنازعات القانونية التي تنشأ بين الدول” وفقًا للقانون الدولي، عن طريق إصدار تدابير مؤقتة أو أحكامًا نهائية بشأن القضية محل النزاع، وهو ما يعني أنه لا يجوز للمنظمات الدولية العامة (الحكومية) أن تكون طرفًا في قضية معروضة أمامها.
لكن وضعت المحكمة إجراءً خاصًا بتلك المنظمات فقط وهو إجراء استشاري، وبموجبه تبدي المحكمة ما يسمى بـ “الرأي الاستشاري” في المسائل القانونية المحالة إليها من قبل الأجهزة الرئيسية الخمس التابعة للأمم المتحدة، وخمس عشرة وكالة متخصصة تابعة لها، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن ناحية أخرى لا يجوز للدول أن تطلب رأيًا استشاريًا من المحكمة.
وعلى النقيض من الأحكام القضائية، وباستثناء الحالات النادرة التي ينص فيها صراحة على أن هذه الأحكام لها قوة، فإن الآراء الاستشارية الصادرة عن المحكمة ليست ملزمة. ويظل الجهاز أو الوكالة أو المنظمة الطالبة حرة في أن تقرر، كما تراه مناسبًا، مدى التأثير الذي تخلفه هذه الآراء. ورغم أن الآراء الاستشارية الصادرة عن المحكمة لا تتمتع بأي قوة ملزمة، فإنها تحمل مع ذلك وزنًا قانونيًا وسلطة أخلاقية كبيرين. وغالبًا ما تشكل هذه الآراء أداة للدبلوماسية الوقائية وتساعد في الحفاظ على السلام، كما تساهم الآراء الاستشارية بطريقتها الخاصة في توضيح وتطوير القانون الدولي وبالتالي في تعزيز العلاقات السلمية بين الدول.
ثانيًا: ما جاء في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية:
قبل الحديث عما جاء في الرأي الاستشاري للمحكمة، من المهم الإشارة إلى أنه في 30 ديسمبر 2022، طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة من محكمة العدل الدولية إصدار رأي استشاري بشأن العواقب القانونية للسياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلًا عن الوضع القانوني للاحتلال ككل. وقد عقدت جلسات استماع عامة في الفترة من 19 إلى 26 فبراير 2023، وتم فحص المداخلات المقدمة بالإضافة إلى إجراء تحقيقات شاملة ودقيقة حول المسائل التي طلبت الجمعية العامة الإجابة عليها حتى تم إصدار الرأي الاستشاري في التاسع عشر من يوليو الجاري. ويمكن الإشارة إلى تلك المسائل في الآتي:
(أ) ما هي العواقب القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، نتيجة لاحتلالها طويل الأمد واستيطانها وضمها للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير الوضع القانوني للشعب الفلسطيني والتي منها التركيبة الديمغرافية، وطبيعة ومكانة مدينة القدس المقدسة؟
(ب) كيف تؤثر سياسات وممارسات إسرائيل على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي التبعات القانونية التي تترتب على كافة الدول والأمم المتحدة من هذا الوضع؟
ويمكن الإشارة إلى أبزر ما جاء في رأي المحكمة الاستشاري بشأن تلك المسائل في الآتي:
- أكدت المحكمة على أن استمرار وجود دولة إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة غير قانوني، وإن حقيقة إطالة أمد الاحتلال لا تغير في حد ذاتها وضعها القانوني بموجب القانون الإنساني الدولي، بالإضافة إلى أن “الاحتلال” هو حالة مؤقتة للاستجابة لضرورة عسكرية، ولا يمكنه نقل ملكية السيادة إلى السلطة القائمة بالاحتلال.
- أشارت المحكمة إلى أنه لكي يُسمح بإطالة أمد الاحتلال، يجب أن يكون متسقًا في جميع الأوقات مع القواعد المتعلقة بحظر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها، بما في ذلك حظر الاستيلاء على الأراضي الناتج عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها، وكذلك كما هو الحال مع حق تقرير المصير. ولذلك فإن حقيقة إطالة أمد الاحتلال قد يكون لها تأثير على التبرير بموجب القانون الدولي لاستمرار وجود السلطة القائمة بالاحتلال في الأراضي المحتلة.
- فيما يتعلق بمسألة ضم الأرض الفلسطينية المحتلة، ترى المحكمة أن السعي إلى اكتساب السيادة على أرض محتلة، كما يتضح من السياسات والممارسات التي تعتمدها إسرائيل في القدس الشرقية والضفة الغربية، يتعارض مع حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية ومبدأه الطبيعي المتمثل في عدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
- ترى المحكمة أن نظام القيود الشاملة الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة يشكل تمييزًا منهجيًا على أساس جملة أمور، منها العرق أو الدين أو الأصل العرقي، وهو ما يشكل انتهاكًا للفقرة 1 من المادة 2، و26 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والفقرة 2 من المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمادة 2 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
- وفيما يتعلق بسياسة الاستيطان الإسرائيلية، تؤكد المحكمة من جديد ما ذكرته في فتواها بشأن الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار في الأرض الفلسطينية المحتلة في 9 يوليو 2004، بأن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، والنظام المرتبط بها، قد تم إنشاؤها ويستمر الحفاظ عليها في انتهاك للقانون الدولي. وتلاحظ المحكمة بقلق بالغ التقارير التي تفيد بأن سياسة الاستيطان الإسرائيلية آخذة في التوسع منذ صدور الرأي الاستشاري للمحكمة في عام 2004.
- تُدرس المحكمة مسألة العواقب القانونية الناشئة عن اعتماد إسرائيل للتشريعات والتدابير التمييزية ذات الصلة، وتخلص إلى أن مجموعة واسعة من التشريعات التي اعتمدتها والتدابير التي اتخذتها إسرائيل بصفتها السلطة القائمة بالاحتلال تُعامل الفلسطينيين بشكل مختلف على أسس يحددها القانون الدولي.
- فيما يتعلق بالرد على الجانب من السؤال (أ) الذي يستفسر عن آثار السياسات والممارسات الإسرائيلية على ممارسة حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وفي هذا الصدد، ترى المحكمة أنه نتيجة للسياسات والممارسات الإسرائيلية، التي امتدت لعقود من الزمن، فقد حُرم الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير على مدى فترة طويلة، كما أن استمرار هذه السياسات والممارسات قد طال أمده، والممارسات التي تقوض ممارسة هذا الحق في المستقبل.
- ولهذه الأسباب، ترى المحكمة أن سياسات إسرائيل وممارساتها غير القانونية تنتهك التزام إسرائيل باحترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
- وبالانتقال إلى الجزء الأول من السؤال (ب)، تبحث المحكمة فيما إذا كان الأمر كذلك، وكيف أثرت سياسات وممارسات إسرائيل على الوضع القانوني للاحتلال في ضوء قواعد ومبادئ القانون الدولي ذات الصلة.
- وفي هذا الصدد، ترى المحكمة أولاً أن الجزء الأول من السؤال (ب) ليس ما إذا كانت سياسات وممارسات إسرائيل تؤثر على الوضع القانوني للاحتلال في حد ذاته. بل ترى المحكمة أن نطاق الجزء الأول من السؤال الثاني يتعلق بالطريقة التي تؤثر بها سياسات إسرائيل وممارساتها على الوضع القانوني للاحتلال، وبالتالي شرعية الوجود المستمر لإسرائيل، كدولة احتلال في الأرض الفلسطينية المحتلة. ويجب تحديد هذه الشرعية بموجب قواعد ومبادئ القانون الدولي العام، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة.
وفي إطار ما سبق، أوصت المحكمة إسرائيل والجهات الأخرى ذات الصلة بالقضية بما يلي:
- تلتزم دولة إسرائيل بإنهاء وجودها غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة في أقرب وقت ممكن.
- تلتزم دولة إسرائيل بالوقف الفوري لجميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة، وإخلاء جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- تلتزم دولة إسرائيل بدفع تعويضات عن الأضرار التي لحقت بجميع الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين المعنيين في الأرض الفلسطينية المحتلة.
- تلتزم جميع الدول بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة وعدم تقديم العون أو المساعدة في الحفاظ على الوضع الناشئ عن الوجود المستمر لدولة إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة.
- تلتزم المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- · ينبغي للأمم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة التي طلبت الرأي، ومجلس الأمن، النظر في الطرائق المحددة والإجراءات الإضافية اللازمة لوضع حد في أسرع وقت ممكن للوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ثالثًا: دلالات الرأي الاستشاري وإقرار أن إسرائيل دولة “احتلال”:
يمكن الإشارة إلى مجموعة من الدلالات الرمزية الهامة لرأي المحكمة الاستشاري فيما يلي:
أ. التوقيت المهم: يأتي الرأي الاستشاري في ظل استمرار الحرب على قطاع غزة ومحاولة الجيش الإسرائيلي بسط سيطرته وبناء مناطق عازلة قد تُشير إلى احتمالية احتلال قطاع غزة عسكريًا في المستقبل، وأيضًا القرارات الأخيرة التي أقرها المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية (الكابينت) بعد المصادقة على خطة لسموتريتش تشمل شرعنة 5 بؤر استيطانية في الضفة ونشر قرارات لبناء آلاف الوحدات السكنية في المستوطنات، الأمر الذي جلب الكثير من الانتقادات للحكومة الإسرائيلية ولوزير ماليتها اليميني المتطرف، وبالتالي يمكن اعتبار هذا الرأي بمثابة استكمال للرفض القانوني الدولي والأممي للسياسات والممارسات التوسعية للاحتلال الإسرائيلي خاصة في الوقت الراهن.
ب. الإقرار القانوني بأن إسرائيل دولة احتلال: بناءً على الرأي الاستشاري للمحكمة، تم إقرار أن دولة إسرائيل دولة احتلال ودولة معتدية من الناحية القانونية، وبالتالي تسقط أحقية إسرائيل في وصف المقاومة الفلسطينية بأنها “إرهاب”، وذلك في إطار أن السياسات التي ترتكبها دولة إسرائيل قانونيًا هي سياسات استيطانية واعتدائية وليست سياسات دفاعية كما تدعي إسرائيل، وبذلك يصبح النضال الشعبي حقًا يخوله القانون الدولي للشعب الذي وقع عليه الاعتداء.
ج. زيادة الأدلة القانونية أمام الجنائية الدولية: في الوقت الحالي، تتخوف إسرائيل أيضًا من أن تأخذ المحكمة الجنائية الدولية التي تدرس حاليًا قرار اعتقال القادة الإسرائيليين برأي المحكمة الجنائية الدولية، وأن يمثل ذلك مزيدًا من الإدانات القانونية أمام الجنائية الدولية ودافعًا لإصدار مذكرات اعتقال ضد القادة الذين تسببوا في شرعنة سياسات وممارسات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية، كما أن هناك تخوفات داخلية على المستوى السياسي الإسرائيلي أيضًا من أن يتم توسيع مذكرات الاعتقال لتشمل سموتريتش وبن غفير المؤيدين بشكل قاطع ومستمر لتوسيع المستوطنات الإسرائيلية، وفرض السيادة الكاملة على الضفة الغربية وفقًا لآخر تصريح لسموتريتش، وأيضًا مزيد من القادة العسكريين.
د. زيادة الضغط على إسرائيل: لدى الفتوى أو الرأي الاستشاري تأثير على تعامل الدول مع المستوطنات الإسرائيلية ورفضها وإدانتها لسياسات الحكومة الإسرائيلية والاحتلال الإسرائيلي ذاته، ومن المتوقع أيضًا أن تمتنع المزيد من الدول حول العالم عن تزويد إسرائيل بالأسلحة، وأيضًا قد يتم إيقاف الحركات التجارية بين الدول وبين إسرائيل، ووجود مقاطعات أكاديمية حول العالم بسبب هذه الفتوى.
ختامًا؛ على الرغم من عدم إلزامية الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، إلا أنه يحمل دلالات رمزية هامة للغاية، كما يمثل ضغطًا سياسيًا على إسرائيل وزيادة لزعزعة مكانتها الدولية. كما يأتي الرأي الاستشاري الأخير بمثابة تراكم الفتاوى القانونية والتدابير والإجراءات والقرارات الصادرة عن المؤسسات الأممية والمحاكم الدولية، والتي ربما في الوقت الحالي سيقتصر تأثيرها على الضغط السياسي، لكن من ناحية أخرى، يمكن النظر إلى هذا الحراك الدولي والأممي الحالي من منظور تاريخي بأنه سيحدث تغيرات جوهرية مستقبلًا في التعامل مع القضية الفلسطينية وعلى الدفع للوصل إلى “حل الدولتين” المعطل حتى الآن، وتغير وجهة النظر حول الخلاف الدولي القائم حول توصيف إسرائيل كدولة احتلال أو دولة اعتداء، خاصة وأنها المرة الأولى التي تصدر فيها محكمة العدل الدولية موقفًا بشأن ما إذا كان الاحتلال المستمر منذ 57 عامًا غير قانوني.
باحثة بالمرصد المصري