الأمريكتان

قمع الحرية في بلد الديمقراطية: تداعيات المشهد الاحتجاجي في الجامعات الأمريكية

أُثير غضب الطلاب في الجامعات الأمريكية وقاموا بالاحتجاج تضامنًا مع “مخيم التضامن مع غزة”، الذي أقامه الطلاب في جامعة كولومبيا للاحتجاج على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بعدما سمحت رئيسة جامعة كولومبيا “مينوش شفيق” للشرطة بإخلاء المخيم، حيث اعتبرت أن المتظاهرين انتهكوا القواعد والسياسات. الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف إلى اعتقال أكثر من 100 طالب من حرم الجامعة وإلى انتقال “عدوى الاحتجاجات” ليس فقط داخل الولايات المتحدة، بل أيضًا إلى عدد من الجامعات حول العالم.

ماذا حدث؟

بعدما أدلت رئيسة جامعة كولومبيا “مينوش شفيق” بشهادتها أمام الكونجرس مُتخذة موقفًا يتناسب مع النواب الذين ينددون بالاحتجاجات؛ في محاولة منها لتجنب مصير رئيسات جامعات اضطررن للاستقالة عقب الإدلاء بشهادتهن حول القضية نفسها وأمام اللجنة ذاتها قبل 4 أشهر، رد الطلاب بإقامة معسكر للاعتصام في حرم الجامعة منذ 18 أبريل، ما دفعها في اليوم التالي إلى طلب الشرطة، الأمر الذي استفز الطلاب في الجامعات الأخرى ودفعهم إلى الاحتجاج.

وفقًا لوكالة “أسوشيتد برس“، تعود جذور طلبهم -المتمثل في قطع الجامعات علاقتها المالية مع إسرائيل وسحب استثماراتها من الشركات التي تساعد تل أبيب في سياستها القمعية ضد الفلسطينيين- إلى حملة مستمرة منذ عقود ضد سياسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، واكتسبت الحركة قوة جديدة مع دخول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره السادس. إذ أشار “محمود خليل”، زعيم الاحتجاجات في جامعة كولومبيا، “إلى أن الطلاب في الجامعة يضغطون من أجل سحب الاستثمارات من إسرائيل منذ عام 2002″، مضيفًا “يجب على الجامعة أن تفعل شيئًا حيال ما نطالب به، بشأن الإبادة الجماعية في غزة وعليهم أن يتوقفوا عن الاستثمار في هذه الإبادة الجماعية”.

وكذلك، دعا الطلاب في الجامعات التي اندلعت بها الاحتجاجات إلى الوقف الدائم لإطلاق النار في غزة، وإنهاء المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، وسحب استثمارات الجامعات من شركات توريد الأسلحة وغيرها من الشركات المستفيدة من الحرب، والعفو عن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين تعرضوا لإجراءات تأديبية أو الطرد بسبب الاحتجاجات، ومحاسبة مسؤولي الجامعات على قراراتهم الخاطئة وكذلك محاسبة عناصر الشرطة والحرس الوطني عما ارتكبوه من اعتداءات، بما في ذلك، قطع الجامعات علاقاتها مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، كما يطالبون بشفافية أكبر بشأن الأموال التي يتم تلقيها من تل أبيب والأغراض التي تستخدم فيها.

سياق مضطرب

الوضع الإنساني في غزة: تتزامن الاحتجاجات الطلابية مع ارتفاع درجات الحرارة وانتشار الأوبئة والمجاعة في قطاع غزة ومع زيادة عنف القوات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، فبعد مرور قرابة سبعة أشهر على بداية حرب غزة، عانى الفلسطينيون من أزمات إنسانية متتالية وحادة تتفاقم يومًا بعد يوم. إذ تسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة في التهجير القسري للمواطنين من شمال القطاع ووسطه إلى جنوبه، خاصة إلى محافظة رفح التي تكتظ بالنازحين، وفي القضاء على كل سبل العيش، حيث يواجه الفلسطينيون الآن نقصًا حادًا في الغذاء والماء والدواء.

تعنُت “نتنياهو”: أفادت صحيفة “معاريف” العبرية بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بذل جهودًا كبيرة في الأيام الأخيرة لمنع صدور مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بحقه وبحق وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت” ورئيس الأركان العامة “هرتسي هاليفي”، ومن بينها محاولات الضغط على الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بشكل غير مباشر.

المساعدات الأمريكية: منذ اللحظة الأولى للحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، والولايات المتحدة تقوم بدعم تل أبيب سياسيًا ودبلوماسيًا وماليًا وعسكريًا. وعلى الرغم من التوترات التي شهدتها العلاقات بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، إلا أن واشنطن لا تكف عن دعمها المتواصل غير المشروط لحليفها الاستراتيجي في المنطقة. إذ أعلن الكونجرس الأمريكي في 20 أبريل 2024 موافقته على تقديم مساعدات إلى إسرائيل تقدر بنحو 26.4 مليار دولار.

الفيتو الأمريكي: تقدمت فلسطين يوم 2 أبريل الماضي بطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” لتطالب بإعادة النظر في طلبها للانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة، وأحاله “غوتيريش” إلى مجلس الأمن، الذي اجتمع يوم 19 أبريل للتصويت على مشروع قرار جزائري يوصي الجمعية العامة للأمم المتحدة بقبول دولة فلسطين عضوًا في المنظمة. بيد أنه لم يتم تمرير مشروع القرار، حيث صوت لصالحه 12 عضوًا من بين أعضاء المجلس، واستخدمت الولايات المتحدة “الفيتو”، وامتنع عن التصويت كل من المملكة المتحدة وسويسرا.

تصريحات منافية للواقع

شدد وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” على أهمية التعبير عن الرأي في الديمقراطيات، موضحًا “في بلدنا، وفي مجتمعنا وفي ديمقراطيتنا، يعد التعبير عن ذلك، بالطبع، أمرًا مناسبًا ومحميًا في الوقت نفسه”. كما دافع البيت الأبيض عن حرية التعبير في الجامعات. بيد أن هذه التصريحات مناقضة تمامًا لما يحدث على أرض الواقع، حيث اتخذت الجامعات في الولايات المتحدة منحى أكثر صرامة في التعامل مع الاحتجاجات الطلابية، فاقتحمت قوات الشرطة والحرس الوطني عشرات الجامعات واعتدت بوحشية على الطلبة والأساتذة. إذ تم القبض على ما بين 1300 إلى 1400 شخص من الطلاب والأكاديميين في حرم الكليات والجامعات، في أكثر من 25 حرمًا جامعيًا في 21 ولاية على الأقل.

وذكر موقع “أكسيوس” أن قامت إدارات الجامعات بقمع المتظاهرين بطرق غير مسبوقة، حيث اتخذ القائمون على إدارة الجامعات وسلطات إنفاذ القانون إجراءات صارمة ضد الاحتجاجات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أوقفت جامعة كولومبيا وكلية بارنارد التابعة لها عشرات الطلاب المشاركين في الاحتجاجات، وأُلقي القبض على أكثر من 100 متظاهر في الجامعة، واعتقلت شرطة جامعة ييل أكثر من 60 متظاهرًا، كما تم اعتقال 120 شخصًا في جامعة نيويورك، وتم اعتقال ما يقرب من 100 متظاهر في جامعة جنوب كاليفورنيا.

تداعيات الاحتجاجات

واشنطن وحرية التعبير: في الوقت الذي تنتقد فيه واشنطن دائمًا ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان في العديد من الدول، قامت بالتضحية بحرية التعبير عن الرأي لصالح حليفها الاستراتيجي “إسرائيل” عن طريق قمع حركة الاحتجاجات التي شهدتها الجامعات الأمريكية على خلفية الحرب الدائرة على قطاع غزة، كما قام قادة “اللوبي الإسرائيلي” والحركة الصهيونية والمسؤولين الأمريكيين بتفتيش هذه الجامعات والإدلاء بتصريحات تحريضية ضد حركة الاحتجاج باعتبارها معادية للسامية واليهود و”إسرائيل” وتقديم معلومات كاذبة عن استهداف الطلبة اليهود والإسرائيليين. فضلًا عن المطالبة بمعاقبتهم عبر تدخل الشرطة والحرس الوطني وهو ما يجري حاليًا، الأمر الذي يكشف مدى قوة النفوذ الإسرائيلي الذي يسيطر على المشهد الأمريكي.

وعليه، تسبب التعامل الأمريكي مع الاحتجاجات في فقد ثقة المواطن الأمريكي في النظام وتوتر لدى الإدارة الأمريكية حول مستقبل السياسة الأمريكية نظرًا للدور الذي تلعبه الجامعات في تخريج رؤساء وسياسيين مستقبليين، في الوقت الذي ينظر فيه جزء كبير من الشباب الأمريكي إلى إسرائيل على أنها دولة إبادة جماعية وفصل عنصري تهدد الديمقراطية الأمريكية.

ومع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، تعكس مشاهد القمع التي شهدتها الجامعات خوف الإدارة الأمريكية الحالية من تأثير الحركة الطلابية والأكاديمية على حظوظ “بايدن” في السباق الانتخابي، نظرًا لما تمثله الكتلة الطلابية من أهمية في المعادلة الانتخابية، خاصة وأن الرئيس الأمريكي لم يقف عند تجاهل المطالب لكنه ذهب إلى حد استخدام نفس السياسة الإسرائيلية التي تقوم على سجن أساتذة الجامعات الرافضين لما يحدث في قطاع غزة. ولذلك، فإن الاحتجاجات تُعيد لأذهان الأمريكيين بشكل كبير أحداث حرب فيتنام حينما خسر الديمقراطيون الانتخابات الرئاسية بسبب الاحتجاجات ضد الحرب.

عدوى الاحتجاجات: في ظل تصاعد حدة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية، شهد عدد من الجامعات في أوروبا والشرق الأوسط احتجاجات داعمة للشعب الفلسطيني. في لبنان، تظاهر مئات الطلاب في العديد من الجامعات ومن بينها الجامعة الأمريكية في بيروت، وفرعي الجامعة اللبنانية الدولية في بيروت والبقاع، وجامعة القديس يوسف في بيروت، وجامعة الروح القدس في جونيه. وفي الكويت، نظم الاتحاد الوطني لطلبة جامعة الكويت وجمعية أعضاء هيئة التدريس في الجامعة، “وقفة تضامنية مع القضية الفلسطينية”. كما شهدت أيضًا الجامعات التونسية تظاهر مئات الطلاب. وفي أستراليا، قام طلاب جامعة سيدني، مخيمًا اعتصاميًا يضم ما يصل إلى 60 شخصًا كل ليلة، مع تجمع حاشد، اجتذب حوالي 200 شخص.

وانتشرت الاحتجاجات حيث وصلت إلى جامعة ملبورن، بينما أقيمت مواقع تخييم، في جامعة كوينزلاند والجامعة الوطنية الأسترالية في كانبيرا. وفي فرنسا، دخلت قوات الأمن الفرنسية حرم جامعة السوربون في باريس لإخراج نشطاء مناصرين للفلسطينيين نصبوا خيامًا داخل الجامعة، في تحرك يأتي بعد أيام على تحرك مماثل في جامعة سيانس بو. وفي بريطانيا، نظم طلبة كلية لندن الجامعية وقفة احتجاجية وسط الحرم الجامعي، للضغط على إدارة الجامعة لقطع علاقاتها مع شركات السلاح التي تدعم “الإبادة الجماعية” في قطاع غزة.

الموقف الإسرائيلي: دعا وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف جالانت” السلطات الأمريكية إلى التدخل لحماية اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية ووقف الاحتجاجات الداعمة لقطاع غزة في الجامعات، حيث اعتبر “جالانت” الاحتجاجات معادية للسامية وتحرض على الإرهاب. كما دعا وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير” إلى تشكيل مجموعات مسلحة لحماية اليهود مما اعتبره موجة عاتية من معاداة السامية تجتاح الجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم.

استغلال صيني وإيراني: استغلت بكين وطهران حركة الاحتجاجات التي تشهدها واشنطن مؤخرًا، حيث انتقدت بكين طريقة تعامل السلطات الأمريكية مع الاحتجاجات المؤيدة لغزة، وذلك على خلفية الانتقادات التي توجهها واشنطن دائمًا لبكين في ملف حقوق الإنسان وقمع المعارضة. كما أعلنت جامعة إيرانية أنها ستقدم منحًا دراسية لطلاب جامعات الولايات المتحدة وأوروبا الذين تم طردهم أثناء الاحتجاجات.

ختامًا، من غير المرجح أن تنتهي موجة الاحتجاجات التي تشهدها الجامعات الأمريكية، على المدى القصير، في ظل ما يشهده القطاع من إبادة جماعية. إذ تحولت تلك الاحتجاجات إلى أزمة سياسية ودستورية، حيث تواجه إدارات الجامعات تحديات قانونية أكثر صرامة تلزمها باحترام التعديل الأول للدستور الذي يضمن “حرية التعبير”. وتجدر الإشارة إلى أنه في ظل المعركة الانتخابية الأمريكية، فإن محاولات إرضاء “اللوبي الإسرائيلي” فيما بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي ستزداد، كما أن الاحتجاجات الطلابية من شأنها التأثير بشدة على نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصة مع استمرار الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل. ويبقى السؤال إلى أي مدى تفرط الولايات المتحدة في القيم الديمقراطية من أجل إسرائيل…؟

Website |  + posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

نرمين ناصر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى